وعد بلفور ومصير نظام الأبارتهايد في فلسطين.. بقلم: د.مصطفى البرغوثي

وعد بلفور ومصير نظام الأبارتهايد في فلسطين.. بقلم: د.مصطفى البرغوثي

تحليل وآراء

الأربعاء، ١ نوفمبر ٢٠١٧

كُتبت وستُكتب مئات المقالات خلال هذه الفترة بمناسبة الذكرى المئوية لصدور وعد بلفور المشؤوم. ويوماً ما سيُقر التاريخ بأن ذلك الوعد كان جريمة ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وبحق الإنسانية وقيمها الحضارية. جريمة مهدت لسلسلة جرائم كان من أفظعها جريمة التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني في عام 1948، والتي أدت إلى تهجير 70% من أبنائه وبناته، وإلى تدمير وإفناء أربعمئة قرية وبلدة فلسطينية.
ومن أفظع الغرائب أن ذلك الوعد الذي صدر عن الحكومة البريطانية افتقد لأي أساس قانوني، فما منحته بريطانيا للحركة الصهيونية كانت أرض شعب آخر لا حق لها فيها، ولا سلطة لها عليها.
وفي واقع الحال فإن وعد بلفور كان جزءاً من مخطط استعماري كولونيالي لتقسيم الأراضي العربية بين القوى الاستعمارية على أساس اتفاق سايكس - بيكو، وكان هدفه الرئيسي استكمال مخطط سايكس - بيكو بخلق قاعدة استعمارية تستخدم لخدمة أغراض المستعمرين في قمع شعوب المنطقة، وللاستيلاء على ثرواتها.
وجاء الدليل على ذلك قاطعاً في استخدام «إسرائيل» لشن العدوان الثلاثي عام 1956 ضد مصر من قبل قوى الاستعمار البريطاني والفرنسي رداً على تأميم و تحرير قناة السويس، ثم تكرر الأمر بعدوان 1967، والذي سعى لقصم ظهر حركة التحرر الوطني العربية.
غير أن أبرز ما في وعد بلفور كان عنصريته المقززة، فقد أعطى لثلاثة في المئة فقط من سكان فلسطين الحق في وطن قومي بحقوق سياسية كاملة، واعتبر سبعة وتسعين في المئة (أي الفلسطينيين) مجرد آخرين، أو أقلية يمكن أن تحظى فقط بحقوق العبادة الدينية والمدنية ودون أي حقوق سياسية. بل إن الوعد نفسه اشترط ضمان الحقوق السياسية لليهود في كل بلدان العالم، وأعطاهم، وهم ثلاثة في المئة فقط من سكان فلسطين، الحق في وطن قومي يهودي.
عنصرية وعد بلفور المقززة لم تكن فقط موجهة ضد الفلسطينيين بل، وبشكل ما، ضد اليهود أنفسهم؛ إذ استهدف الوعد إخراجهم، أو طردهم من أوروبا، وإلى استخدامهم كأداة ضد شعوب المنطقة، وضد كثير من شعوب العالم، وخلق بذلك العنصر الأساسي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط برمته.
لكن الجريمة العنصرية الكبرى وقعت بحق الشعب الفلسطيني، فوعد بلفور أسس لأسوأ نظام أبارتهايد وتمييز عنصري في تاريخ البشرية، وهو ما نعيشه اليوم في فلسطين.
تستفز كلمة أبارتهايد «الاسرائيليين» المتطرفين وكذلك المعتدلين من أمثال يوسي بيلين؛ لأنها تكشف حقيقة عدم إمكانية تعايش الفكر «الاسرائيلي» مع العدالة الإنسانية.
كلمة أبارتهايد تعني حرفياً وجود نظامين قانونيين لمجموعتين سكانيتين تعيشان في نفس المنطقة الجغرافية، وهذا بالضبط ما أسس له وعد بلفور وما أنشأته «إسرائيل» في فلسطين. وما يستفز «الاسرائيليين» أننا كفلسطينيين لم نسمح لهم بهزيمتنا، ولم نسمح لهم بترحيلنا بالكامل؛ لأننا صمدنا في وطننا، رغم كل المعاناة، ورغم تهجير معظمنا، فأصبح عددنا يعادل إن لم يزد على عدد اليهود «الإسرائيليين» في فلسطين التاريخية.
وما يستفزهم أننا أفشلنا بصمودنا محاولات دفن وإخفاء معالم نظام الأبارتهايد الصارخة في وجوههم على مرأى ومسمع من العالم بأسره.
وسنبقى صامدين حتى ننال حريتنا وحقوقنا، حتى نسقط نظام الأبارتهايد العنصري «الإسرائيلي»، ونفشل ما رمى إليه وعد بلفور ولو بعد مئة عام أو أكثر.
لكن ما يجب أن تتذكره تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، عندما تعلن عن فخرها بوعد بلفور، وتصر هي وسفراؤها على الاحتفال به، هو أن وعد بلفور ما زال جريمة ترتكب في الحاضر، وليس جريمة منسية من الماضي.
فوعد بلفور الذي نفذ بالقتل والإرهاب والمجازر في أراضي 1948، ما زال ينفذ الآن بالاستيطان الاستعماري، والحواجز والجدار، والقمع والحصار، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.
وستسمع تيريزا ماي جوابنا، على مواقفها في صرخات عشرات الآلاف من البريطانيين الذين سيتظاهرون في شوارع لندن يوم الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني، منددين بوعد بلفور، ومطالبين حكومتهم بالاعتذار عن فعله المشين. ستسمعه على لسان جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال الفائز بأكثر من أربعين في المئة من أصوات الناخبين البريطانيين، وستسمعه من ملايين العمال أعضاء النقابات العمالية البريطانية المناصرين لحقوق الشعب الفلسطيني.
وستسمع صداه في التظاهرات التي ستجري في فلسطين وكل أنحاء العالم أمام السفارات البريطانية، ستسمعه مدوياً؛ لأنه صوت الحق والعدل الذي لا ينام، وهو نفس صوت الحق الذي صرخت به حناجر غاندي، ونيلسون مانديلا، ومارتن لوثركينغ.
ولن نكل أو نمل، حتى تقدم بريطانيا اعتذارها للشعب الفلسطيني عن ذلك الجرم التاريخي، وتعوضه عما لحق به من أذى، وتعترف بدولته الحرة المستقلة.
ولعلها تعتذر لليهود أيضاً عن استخدامهم وقوداً للمخططات الاستعمارية، وللحركة الصهيونية التي تسيء كل يوم لآلامهم ومعاناتهم التي عاشوها على يد الفاشية والنازية.
الحق لا ينام، ونظام الأبارتهايد لن يدوم، وفجر الحرية سيأتي، وسيكتب التاريخ يوماً أن مؤامرة بلفور كان نهايتَها الفشلُ بسبب الصمود الأسطوري لشعب اسمه شعب فلسطين.