خيبة في تل أبيب: لا موسكو حليفة… ولا واشنطن رأس حربة

خيبة في تل أبيب: لا موسكو حليفة… ولا واشنطن رأس حربة

تحليل وآراء

الجمعة، ١٧ نوفمبر ٢٠١٧

كشفت ردود الفعل الرسمية في تل أبيب، ومعها تقديرات الخبراء والمعلقين لمفاعيل اتفاق خفض التصعيد في الجنوب السوري، عن حجم الخيبة والفشل الذي أصاب المؤسسة الإسرائيلية. لكن ما رفع من درجة التوتر الإسرائيلي توضيح وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، الصريح والمباشر الذي قطع الطريق على المناورة الإسرائيلية، وكان وقعه ثقيلاً على القيادتين السياسية والعسكرية في تل أبيب. وهو ما يفسّر مسارعتهم إلى رفع الصوت احتجاجاً وتهويلاً ووعيداً.

وأظهر حقيقة أن عمق هذا الفشل ينطوي على تداعيات سيكون لها مفاعيلها الاستراتيجية على المديين المتوسط والبعيد، بالنسبة إلى الكيان الإسرائيلي.
التمهيد لتظهير الهزيمة الإسرائيلية الجديدة في الساحة السورية، بدأ على لسان رئيس أركان الجيش غادي أيزنكوت منذ شهر أيلول الماضي، خلال مقابلات بمناسبة رأس السنة العبرية. أعلن خلالها أن «التطورات في سوريا أخيراً خطيرة جداً»، محذراً من مفاعيل النفوذ الإيراني وخطورته في سوريا على المنطقة والعالم. وأوضح أنّ مطلب إسرائيل هو إخراج إيران وحلفائها من كل سوريا خدمة للمصالح الأمنية الإسرائيلية والاستقرار الإقليمي. وكشف عن أنّ الطلب الإسرائيلي الذي لم يرفض حتى حينه، في الاتفاق الذي تم الإعلان عنه قبل أيام، إبعاد إيران وحلفائها إلى مسافة 60 كلم من الجولان المحتل.

الصدمة التي تلقتها تل أبيب لا تقتصر على أن المطلبين الإسرائيليين لم يتحققا، بل تكمن أيضاً في الرسائل التي ينطوي عليها تجاهل المطالب الإسرائيلية في ما يتعلق بمستقبل المعادلة الاستراتيجية في سوريا والمنطقة، والآفاق التي تتحرك في اتجاهها التطورات الميدانية والسياسية. على هذه الخلفية، ينبغي أن لا يكون مفاجئاً حجم الصراخ والاعتراض والتهويل الإسرائيلي الذي توالى في التعبير عنه كل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الحرب أفيغدور ليبرمان وآخرين.

كشف اتفاق خفض التصعيد في الجنوب السوري، عن محدودية التأثير الإسرائيلي في الموقف الروسي تحديداً. وما رفع من مستوى القلق في تل أبيب إلى درجته القصوى، أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لم يقتصر فقط على النفي التام لأي اتفاق أو تطرق لخروج القوات الإيرانية ولو على المدى البعيد، بل تضمّن أيضاً إقراراً بالشرعية التي يتمتع بها الوجود الإيراني في سوريا، انطلاقاً من أن الدولة السورية هي التي دعت الإيرانيين. وفي الواقع هو المنطق نفسه الذي تنبع منه شرعية الوجود الروسي أيضاً، باعتبارها من القوى الأجنبية التي قد يشملها أي نص. والمعنى العملي لذلك، بحسب المخاوف الإسرائيلية، أنّ إيران تستطيع أن تنشئ وجوداً استراتيجياً لقواتها يتضمن طائرات وسفناً حربية، وكل ما يتطلبه الأمر هو أن «تطلب منها الحكومة السورية ذلك».

الرسالة الروسية الضمنية لإسرائيل، أيضاً، أن السقف الذي ينبغي أن تطمح إليه على مستوى التعاون الثنائي هو المجال التكتيكي، المتمثل بالتنسيق العسكري لمنع معارك جوية وصدامات عسكرية مع الجيش الإسرائيلي، وبأن ترضى بضمانتها كمراقب وحكم في الميدان المتاخم للجولان، إضافة إلى غضّ النظر عن الهجمات الموضعية التي يشنها سلاح الجو من فترة إلى أخرى. وهو ما يعني إعلاناً روسياً صريحاً بأن مصلحتها في هذه المرحلة التاريخية تكمن في ترسيخ النظام الذي يترأسه الرئيس بشار الأسد، بمساعدة إيران وسائر أطراف محور المقاومة، وبمزيد من التقارب مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي يتجاوز التعاون معها الساحة السورية إلى الساحة الإقليمية.

الرسالة الأميركية التي دوّت في تل أبيب، شكّلت أيضاً نكسة للرهان الإسرائيلي على إدارة ترامب التي كان يفترض أن أداءها سيساهم في اضعاف النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة. لكن الاتفاق أظهر محدودية فعالية أدوات الضغط الأميركي في مجمل المشهد الاستراتيجي على الساحة السورية. وهو ما سيترك أثره الملحوظ على تقديرات تل أبيب للمشهد الإقليمي وما ينطوي عليه من تهديدات وفرص.

هذه الرسائل الأميركية والروسية تشكّل حافزاً مهماً للقيادة الإسرائيلية بأن تعمل على بلورة خياراتها الإقليمية، انطلاقاً من الإقرار بحقيقة أن «إسرائيل، عملياً، في عزلة لم يسبق أن مرت بها في ما يتعلق بالشرق الأوسط»، تحديداً. فروسيا ليست حليفة لتل أبيب ولا هي أقل من ذلك، بما يمكن أن تشكّل رافعة لتلبية مطالبها الاستراتيجية. ولم يعد بوسع تل أبيب أن تلقي بكل ثقلها في الرهان على أداء ترامب الذي مهما حاول انتقاد سلفه، باراك أوباما، إلا أن أداء إدارته أثبت أن أزمة الولايات المتحدة لا تنبع من هوية رئيسها، وإنما هي أزمة إمبراطورية أيّاً كان رئيسها.

الترجمة العملية لهذه الرؤية، وما قد يرفع منسوب القلق في تل أبيب أن هذا الاتفاق شكّل تعبيراً عن فشل ترامب في تشكيل تحالف معادٍ لإيران ومحور المقاومة، قادر على تغيير المعادلة في الساحتين السورية والإقليمية.

تبقى حقيقة لا تقل دلالة في الساحة الداخلية الإسرائيلية، وهي أن اتفاق خفض التوتر في جنوب سوريا، شكّل بالمضمون الذي انطوى عليه صفعة مدوّية لشخص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي كان يتباهى بعلاقاته الشخصية الوطيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على أمل أن يساهم ذلك في التأثير في بلورة نص الاتفاق الثنائي مع الولايات المتحدة. ويمكن التقدير أن منبع السقوف المرتفعة في الرهانات الإسرائيلية، إضافة إلى ذهنية التباهي التي يتسم بها قادتها، وتحديداً الثنائي نتنياهو ــ ليبرمان، يعود إلى أنّها لم تقرأ بشكل دقيق الظروف الإقليمية والدولية، كما هي لا كما تتمناها. فهي أرادت من موسكو «تنازلات» ومكاسب، بعدما باتت أقرب من أي وقت مضى إلى طهران. وأرادت من واشنطن أن تكون رأس حربة عسكرية، في الوقت الذي تتهيّب فيه التورط في المستنقع الشرق أوسطي بعد سابقة العراق التي كوت الوعي الأميركي، جمهوراً ونخباً.