مآلات التسوية السورية.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

مآلات التسوية السورية.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٩ نوفمبر ٢٠١٧

تبدو التسوية الروسية الإيرانية التركية المعلن عنها في سوتشي يوم الخميس الماضي، وكأنها تملك الكثير من مقومات الاستمرار والديمومة، أقله في الظروف الراهنة، إذ لطالما يمكن لحظ بضعة مؤشرات تؤكد أن أموراً عديدة سوف تتغير بمجرد دخول التسوية السياسية مرحلة الحسم النهائية، وربما من الجائز أن نقول إن الثغرة الرخوة التي تعاني منها تلك التسوية، تتمثل في الجدار التركي الذي يمثل إحدى أضلعها الثلاث، فأنقرة اليوم ترى أن التسوية السورية تأتي على حسابها أو أنها لا تحقق المرجو منها تركياً، لكنها على الرغم من ذلك ترى نفسها مضطرة للقبول بها على خلفية التجاهل الغربي والأميركي تحديداً، لها، فهي ما انفكت ترسل في ذلك الاتجاه إيماءة تلو الأخرى دون أن تلقى رداً ولو سلبياً على أي منها.
صحيح أن «الجرة» الأميركية التركية قد انكسرت بدواع عديدة قبل سنوات وفي الذروة منها الدعم الذي تقدمه واشنطن للأكراد في المنطقة، وصحيح أيضاً أن ما انكسر لا يمكن إعادته إلى سابق عهده مهما تمتع القائم بالتجبير بمهارة فائقة، ومن الواضح أن أنقرة وهي إذ تعلن على لسان وزير خارجيتها السبت الماضي أن بلاده قد حصلت على ضمانات من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف دعمها للأكراد، إنما تعبر عن حالة انعدام الثقة مع هذه الأخيرة، والأهم هو أنها ترى أن تلك الضمانات حتى ولو أضحت واقعاً حقيقياً، فإنها لا تعتبر دواء شافياً لـ«الكرامة» التركية الجريحة من «الحبيب» الأميركي تحديدا.
الصحيح أيضاً هو أن أنقرة تظهر الكثير من نفورها تجاه تموضعها الجيوسياسي الجديد، الذي تتحمل الظروف، والغرب، مسؤولية الاندفاع التركي إليه، مهما حاولت إخفاء ذلك النفور عبر الإيحاء بأنها تمضي نحو استكمال شروطها للخروج من فضاءات حلف «الناتو»، إلى ما تفرضه حقائق الجغرافيا والتاريخ، ومن المؤكد أن أنقرة، لن تتردد في اللحاق بالحبيب مرة أخرى فيما إذا ما أشار لها هذا الأخير ولو بطرف العين، بل لن تتردد أيضاً في رمي كل شيء وراءها إرضاء له، أما تلك الإيحاءات التي وصلت في حمأة التوتر التركي إلى حدود غير مسبوقة حتى قيل إن غرف صناعة القرار التركي تدرس إمكانية إجراء تعديلات جذرية في «الكتاب الأسود» الذي يحتوي على كبرى أسرار الدولة، تلك الإيحاءات، لا تعدو أن تكون ابتزازاً مكشوفاً يهدف إلى إثارة الغيرة الجماعية للغرب.
الإيرانيون بدورهم يرون أن التسوية السورية وفق مآلاتها الراهنة، سوف تتم على حسابهم، أو أنهم من الخاسرين فيها، وعلى الرغم من أن التحالف الروسي الإيراني قد أثبت فاعلية قصوى في سورية، إلا أن تلك المتانة تبدو مرتبطة بحيثيات العمل العسكري، حتى إذا ما وضع هذا الأخير أوزاره، بات لزاماً أن تعاني روابطها وهناً حتمياً، وهو ما يعطي التحالف بين البلدين صفة المرحلية أو المؤقتة، على حين الجهود التي تبذلها الدبلوماسية في كلا البلدين، تسعى إلى إيجاد فضاءات أخرى مهما تكن تفاصيلها دقيقة، من شأنها التخفيف في حدة الاختلاف، أو حصره على الأقل لكي يظل تحت سقوف محددة لا يتجاوزها، فيسهل حينها استثماره من الأميركيين والفرنسيين الذين ملوا من انتظار تلك اللحظة كما يبدو.
على الرغم من ذينك الثغرتين، وأهميتهما، فإن تأثيرهما سيظل هامشياً، إذا ما استمر التفاهم الروسي الأميركي، أو بمعنى أدق إذا ما استمر إطلاق اليد الروسية في سورية بموافقة وتشجيع أميركيين، أما حظوظ ذلك التفاهم في الدوام أو إطالة العمر، فهي تبدو قوية طالما ظلت حالة الاستقطاب الإقليمية على حالها، والراجح أنها سوف تزداد على خلفية التصعيد السعودي الأخير، إلا أنه ما من مؤكد في السياسة أو رهاناتها، 100 بالمئة، وربما تعمد واشنطن إلى قلب المشهد في لحظة من اللحظات انطلاقاً من العديد من خطوط الرجعة التي احتفظت بها وإن كان ذلك الاحتمال مستبعداً الآن.
في التداعيات، تبدو الرياض وكأنها تجهد لكي تتجنب المتغيرات الإقليمية والدولية الحاصلة، فتأتي سلوكيتها منسجمة معها، وهو ما تبدى مؤخراً في الاجتماع الذي استضافته يومي الأربعاء والخميس الماضيين والذي أطلق عليه الاجتماع الموسع الثاني للمعارضة السورية، فقد استبقت ساعة الصفر بنسف قيادات الصف الأول لهذه الأخيرة، بل بعدم توجيه الدعوة إليهم، في إشارة توحي إلى مغازلة الروس الذين اعتبروها خطوة إيجابية من شأنها أن تساعد في التسوية السياسية كما جاء على لسان وزير الخارجية الروسي في أعقاب الإعلان عن انتهاء ذلك الاجتماع، وربما يمكن أيضاً لمس حالة الرضا الحذر التي أبدتها موسكو تجاه تشكيلة الوفد المعارض الذي سيمثل المعارضة في جولة جنيف الثامنة المقرر أن تنطلق في وقت لاحق من اليوم، وإن كانت ترى أن تلك التركيبة التي جاء عليها كفيلة بنزع كبرى الألغام التي يمكن أن تؤدي إلى انفجار الحوار السوري السوري، تلك التي تتمثل بقيادة الرئيس بشار الأسد للمرحلة الانتقالية من عدمها، فمعسكر المؤيدين يرجح على نظيره من المعارضين بواقع 19 مقعداً على الأقل في مواجهة 17 مقعداً كما نعتقد، وربما يشكل ذلك نزولاً أولياً للمعارضة من الطابق العلوي إلى الطابق الأرضي، على حين المؤكد أن المفاوضات ستأتي بالعديد من التنازلات قياساً إلى موازين القوى الداخلي والإقليمي وحتى الدولي الذي يميل بوضوح لمصلحة النظام ولا أهمية هنا تذكر للتصريحات الإعلامية التي تطلق بشكل يومي تقريباً، فالفرق كبير بين إطلاقها هكذا دون حساب طالما أنها من دون دفع لأثمانها، وما سيجري داخل غرف التفاوض بعد أن تقفل أبوابها على المتفاوضين، وما يزيد من وضع المعارضة الصعب صعوبة يمكن تأطيره تحت عنوان عريض هو حال التخبط السعودية القصوى البادية بوضوح على الأداء السياسي السعودي سواء منه الداخلي أم الخارجي، فالكثير من الممارسات التي تصدر عن الرياض غالباً ما ترتد على أعقابها.
قياساً إلى ما سبق، فإن محاولات «التمدد» السعودية لا تتيحه القدرات أو الظروف الراهنة ومعهما المعادلات الدولية القائمة، ولذا فإن الحصاد سريعاً ما تتبدى نتائجه المخيبة للآمال، وخير دليل عليها كان قد ظهر في طريقة تعاطي المملكة مع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري مطلع الشهر الجاري، والغريب أن المكاسب المتوقعة لعمل كهذا هي صفر على حين إن الخسائر تكاد تكون مضمونة، ومع ذلك رأينا تلك الاندفاعة نحو محاولة قلب ميزان القوى في الداخل اللبناني بطريقة غريبة أو أقلها أنها لا تتناسب مع مناخات السياسات الدولية، على حين تبدو محاولات نقل البندقية من كتف إلى أخرى ليست متعثرة فحسب، بل إنها لن تؤتي بالثمار المرجوة منها مهما صغرت، فالرياض التي تسعى اليوم إلى تحشيد الجبهات العربية لمواجهة «الخطر» الإيراني عبر استثارة الشعور القومي العربي، هي نفسها من عملت على وأد هذا الأخير منذ زمن الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز الذي استخدم دبابات عقائدية تمثلت في تنظيم الإخوان المسلمين في مواجهة صعود المد القومي بزعامة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والذي كان يسري كما النار في هشيم الجسد العربي برمته، أما «جريمة» ذلك المد فكانت تتمثل في أنه يهدد «الزعامة السعودية» إن لم يكن سيؤدي من حيث النتيجة إلى تهميش الدور الإقليمي السعودي، نظرة سريعة إلى الخريطة «العروبية» اليوم التي جهدت الرياض للوصول إليها، تشي بأن التلاقي بين مكوناتها ممكن فقط في «آدم وحواء» فالبيت الخليجي بات يقوم على محاور أحدها في مواجهة الآخر بعدما كان هذا البيت «طامورة» سعودية تضع فيها وتسحب منها ما ومتى تشاء، ومصر على الرغم من رهانها المستمر كما يبدو على «الهبات» السعودية باهظة الأثمان، فإنها تصر على ترك مسافة محددة مع الرياض، لا تسمح بتقليصها تحت أي ظرف كان، أما المفاجأة الجديدة في هذا السياق فقد جاءت من السودان مؤخراً، ففي أتون الزيارة التي قام بها الرئيس عمر البشير إلى روسيا الأسبوع الماضي، أجرت معه وكالة «سبوتنيك» الروسية للإعلام لقاء مطولاً قال فيه: إن الولايات المتحدة تعمل على تقسيم السودان إلى خمسة كيانات، وأضاف: إنه ناقش مع الرئيس الروسي إقامة قاعدة روسية على البحر الأحمر، وكلا الأمرين يشير إلى انقلاب كبير في السياسة الخارجية للسودان، وهي بالتأكيد ستشمل معها العلاقة مع الرياض التي ستكون فيها الخرطوم على موعد مع الخروج من دائرة النفوذ السعودية، وربما كان خير تمثيل لتتالي الخيبات السعودية قد جاء عبر انعقاد مؤتمر وزراء الدفاع في التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب مطلع هذا الأسبوع الذي كان أشبه بـ«فرقعة» إعلامية صرفة، على حين إن المستحصل منها يكاد ينحصر في بهرجة ضخمة كفيلة بإغناء الفضائيات.