بين كذبة الماسونية وكذبة انتفاضة عربية.. شكراً دونالد ترامب

بين كذبة الماسونية وكذبة انتفاضة عربية.. شكراً دونالد ترامب

تحليل وآراء

الأحد، ١٠ ديسمبر ٢٠١٧

منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب لكرسي البيت الأبيض قبل عامٍ تقريباً، كنا نكرِّر مع كلِّ تصرفٍ أرعنٍ يقوم بهِ بأننا لسنا متفاجئين، لأنه ببساطة أظهر الوجه الحقيقي لأميركا، لأن كل ما فعلهُ وسيفعله، هناك من الرؤساء الأميركيين من فعلَ أسوأَ منه لكن بصمت، ولعل العلانية التي يتعاطى بها ترامب عندما يتصرف بإذلالٍ مع الخانعين أمامه ليس ناتجاً فقط عن شعور «فرط القوة» الذي تعانيه الولايات المتحدة بقدر ما هو ناتجٍ عن تحقيرٍ لهؤلاء الخانعين الذين كانوا في السابق يظهرون أمام شعوبهم بالحد الأدنى من الكرامة الناتجة عن صمت الإدارات الأميركية، أما اليوم فكرامتهم ووعود رجب طيب أردوغان بالرد الصاعق على خطوة إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، سواء، وبمعنى آخر: شكراً ترامب، هي ليست خطأً مطبعياً أو زلة لسان، شكراً ترامب لأنك عريت الجميع قبل أن تعري أميركا.
هذا القرار عرَّانا من الداخل، لأنه كشف لنا الكثير من الفواصل الصغيرة التي كانت تمر من دون استئذان في الوعي العربي، هذه التعرية بدت على ثلاثة مستويات: المستوى الأول كان في الإطار الإيديولوجي والعقائدي، حيث تناسى رافعو ألوية الإيديولوجيات الحدث وشرعَ كل منهم لشد اللحاف لطرفه واستغلال الحدث لإعادة تعويم ما يظن أنه حبل النجاة الوحيد لهذه الأمة، فالمتأسلمون كالعادة، رفعوا سيف «القدس قضية إسلامية» وهم منذ سبعين عاماً يدعون على «اليهود» ولم نر من هذا الدعاء إلا المزيد من تفريخ للجماعات الإرهابية التي لا يمر طريقها لتحرير القدس إلا عبر جثث الأبرياء في سورية وليبيا والعراق واليمن، أما العروبيون فخرجوا يستغلون الأمر رافعين شعار أن «القدس قضية عربية»، والبعض منهم لم يكتفوا بذلك بل أعادوا لنا تكرار خطابات من قبيل «انتفاضة عربية قادمة»، أو «استيقاظ عربي»، وجل ما شاهدناه تجمعاتٍ هنا وهناك لا يتجاوز تعدادها عدد أعضاء البعثة البوليفية في مجلس الأمن التي دعته لجلسة عاجلة قبل أمس لمناقشة الخطوة الأميركية، علماً أنها ليست عربية وليست إسلامية! حتى الطبقة المتجددة من «المستثقفين العرب» التي برزت إلى السطح خلال فوضى الربيع العربي وهم طبقة «اللادينيين» لم يوفروا الفرصة ليستغلوا الحدث، ويعطونا بعد وجبةٍ من الشتائم بحق المؤمنين ومعتقداتهم، درساً في التاريخ بأن القدس ليست قضية عربية ولا إسلامية، هي قضيه إنسانية من وجهة نظرهم، وتناسوا أن قمة الإنسانية هي بالتعاطي مع معتقدات الآخرين بطريقةٍ مهذبةٍ بتحديد أن الأدب أهم من الثقافة، كما أن «أدب الدين قبل الدين».
المستوى الثاني، وهو الإطار الرسمي، الذي تواصل فيه العرض الكوميدي لمن يسمونهم «زعماء» فكان من الطبيعي أن يخرج ملك إمارة شرق نهر الأردن، ليتغنى ببعض المظاهرات المنددة بقرار ترامب، وتناسى من اعتاد التسول هنا وهناك أن السفارة الإسرائيلية تبعد عن مكان المتظاهرين عشرات الأمتار، لماذا لا يقوم بإغلاقها؟ هل أن شعبهُ المنتفض يستطيع طرح سؤال كهذا؟
أما «أمير مؤمنيه» رجب طيب أردوغان فذهب لليونان مطالباً بإعادة ترسيم الحدود من منطلق استعادة إرث أجداده في دولة القتل العثمانية، وتناسى أنه كان قد هدد قبل ساعات بتدابيرَ قوية إذا ما أخذت الولايات المتحدة تلك الخطوة، لكن جل ما رأيناه سوقَ عكاظٍ في مجلس النواب التركي يصفق لأميره عندما يتحدى بالكلام الإدارة الأميركية وبعدها تذهب التهديدات أدراج الرياح.
البعض الآخر انتظر «خادم الحرمين» ليجعل «ثالث الحرمين» من ضمن مهامه لكن عبثاً، أما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أو كما يسمونه بـ«ناصر الجديد»، فلا يمكننا أبداً أن نحمِّله أكثر مما يحتمل، وهو من كان قد بشر الإسرائيليين بأن أمنهم من أمن المواطن المصري، ويبدو أنهم أخبروه أن هذه المعادلة لا تتحقق إلا بإعلان القدس عاصمة للكيان المسخ، فهل يكسر بخاطرهم؟
أخيراً وهو المستوى الأهم، أي ردة الفعل الشعبية.
في مجتمعاتنا لا يوجد شيء اسمه ردة فعل شعبية بريئة، حتى ما قبل ثورات «الربيع العربي» فإن ردات الفعل الشعبية كانت بالنهاية سياسة رسمية أو حزبية بهدف تعبئة الشارع لما يخدم الحكومات والأنظمة، واليوم وبعد ما جرى ويجري انتظرنا ردة الفعل الشعبية التي تهتز لها أركان الإدارة الأميركية لنتفاجأ أن من يرفعون شعار «الموت لإسرائيل» قولاً وفعلاً، وحدهم فقط من عبروا صراحةً عن موقفهم، والمشكلة أن هؤلاء «مكروهون» من وجهة النظر الشعبية، لأن ما فعلته الدعاية الصهيونية بشيطنتهم طيلة السنوات الماضية أتت بنتيجتها، أي إن حراكهم لن يقدم ولن يؤخر، لكن أين باقي الشعوب؟ أين من يُناظر بنا عن «استفاقة عربية» ليجيبنا متى سيستفيق المعنيون؟ أين من نأتي بهم لحضور مؤتمرات عن العروبة؟ لماذا لم نرهم يقودون أي تحركٍ في دولهم، لماذا لا تصارحوننا؟ هل هم يمثلون أنفسهم أم يمثلون حقيقيةً مداً شعبياً جارفاً تستولي قراره الحكومات العميلة؟! ولكي نريحكم من عبث الإجابة تعالوا نطرح عليكم السؤال بطريقةٍ مختلفةٍ:
ماذا لو أجرينا استفتاء في مصر وكان العنوان: هل تؤيد إلغاء اتفاقية «كامب ديفيد»؟ في الأردن، وحتى في مناطق نفوذ «سلطة أوسلو العميلة»، ترى ماذا سيكون الجواب؟ القضية هنا ليست تشاؤمية، القضية هنا إضاءة على واقعٍ تريدوننا دائماً أن نراه من منظوركم وليس من منظور التعاطي معه كمشكلة نريد لها حلاً، لأن انتظار الشعوب العربية لكي تنتفض عن بكرةِ أبيها هو بمثابة انتظار أردوغان ليثبت لترامب أن القدس خط أحمر، كلا الأمرين انتظارٌ للوهم ورسمٌ في الرمال، فالحكومات العربية التي كانت ولا تزال تبث لشعوبها أفكاراً لتعريتها وغسل دماغها، نفذت المهمة بنجاح، فأصبحت شعوباً خالية من أي انتماء، تعيش الكذبة تلو الثانية، تعيش اللا انتماء المترافق مع بعض قشور التبرج المعرفي؛ هذه الشعوب كانت ولا تزال تعيش وهم الانتماء، وانتظرت ما يثبتهُ تماماً كما انتظرت أن يأتي اليوم الذي تتعرف فيه عن قربٍ على وهمٍ اسمه الماسونية، التي أقنعوهم أنها تنظيم يريد ابتلاع المنطقة وتراثها، هذه الشعوب ستكتشف يوماً أن الماسونية هي أكبر كذبة زرعتها الأنظمة في عقولهم، هي أشبه بتلك الفزاعة التي يضعونها في حقول المعرفة لمنع العصافير من التقاط ما يسد رمقها، فتصبح الشعوب عبارة عن جوعى تنقاد خلف رغيف الخبز وتصبح الحكومات والأنظمة قادرة أن تفعل ما تشاء بذريعة أنها «مهدَّدة» والنتيجة بعد قرنٍ من «وهم الماسونية» تجاهلنا الماسونيات التي تعيش بين ظهرانينا، تجاهلنا أن ما من ماسونية أكثر قماءة من ماسونية الوهابية، ولا من ماسونية تعويم صغار القوم ورفع شأنهم ومطاردة أصحاب الفكر وإطفائهم بذرائع مختلفة أكثرها طرافة الحفاظ على الأمة من الوهن، ما من ماسونية أكثر قماءة من ماسونية بيع الشعارات والاتجار بها، إياكم أن تصدقوا يوماً أن الماسونية هدفها تدمير الحكومات، هذه الماسونية كان ولا يزال هدفها تدمير الشعوب وبأيدي هذه الحكومات، فماذا ينتظرنا؟
إن قيام ترامب بهذا العمل ليس فقط تنفيذاً لما يريده، لكنه بالنهاية إنقاذ لنفسه وبمعنى آخر تحدثنا كثيراً عن العلاقة المضطربة بين البنتاغون وترامب، بل إن أي تحرك سياسي مستقبله نزع ترامب من الرئاسة هو بالنهاية عمل مدفوع برضى البنتاغون، لذلك فإن ما قام به ترامب اليوم هو الثمن الذي سيستعيد فيه شرعيته، وقد نذهب أبعد من ذلك لنقول إن ضغط البنتاغون الحالي لا يساويه إلا «السائل المنوي» الخاص بالرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي وجدوه على فستان مونيكا ليونسكي، كلا الحادثين هما بالنهاية للضغط السياسي على الرئيس، وإن كان كلينتون نجح بالتحرر من القضية عبر قبول توجيه ضربات جوية للنظام العراقي السابق وتخفيف توقعاته بشأن عملية السلام يومها، فهل يمكننا القول: إن ترامب نجح حالياً باستعادة استقلاليته؟ ببساطة نعم لكن الفارق أن الطريقة مختلفة وبمعنى آخر فإن ترامب بهذا القرار لم يضرب فقط الشرعية الدولية عرض الحائط لكنه بالنهاية قد يفتح أبواب جهنم في المنطقة، والمريح بالنسبة لهم أن أبواب جهنم تلك لن تتبدل فيها قواعد الاشتباك عن سابقتها، وبمعنى آخر: شكراً ترامب لأنك الآن تضع الجميع أمام مسؤولياتهم، فإن لم يكن لهذا الحدث الوقع الذي يستحقه شعبياً ورسمياً فإن إعادة ترتيب الأولويات وتحديداً في الشعارات العابرة للحدود بات أمراً ضرورياً لمن ينشد فعلياً التغيير، لأن الكرامة والانتماء للكرامة لا يأتيان بالإكراه؛ فمهما تبدلت الظروف وتبدلت المعطيات فإن المقاوم يبقى مقاوماً، ومن استسهل العيش على الفتات لا يمكن لك أن تعلمه معنى عزة النفس.