إدلب حديث العام 2018.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

إدلب حديث العام 2018.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٦ يناير ٢٠١٨

إذا ما كانت التطورات العسكرية الأخيرة في إدلب والغوطة تشير إلى وجود فجوات مهمة ما بين موسكو وأنقرة من جهة وبدرجة أخف ما بين موسكو وطهران، وهو ما عملت الأطراف الثلاثة من خلال حراكها الديبلوماسي على امتداد الأسبوعين الماضيين على محاصرته أو على منع تمدده على الأقل، سواء أكان عبر استدعاء أنقرة لسفيري موسكو وطهران لديها في التاسع من الشهر الجاري، أم من خلال إيحائها بأن التلكؤ البادي عليها فيما يخص مؤتمر سوتشي لا يعود إلى اعتراضها عليه بقدر ما هو مرحلة «سكون» لا بد منها للتدقيق في قوائم المدعوين إلى ذلك المؤتمر، وإذا ما كانت عملية إدلب تحديداً يمكن لها أن تهدد الدور التركي أو هي تعيده إلى المرحلة ما بين إسقاط الطائرة الروسية تشرين ثاني 2015 وبين المصالحة التركية الروسية التي جرت في تموز من العام 2016، الأمر الذي يفسر رفع نبرة التهديد لدى أنقرة للأكراد مؤخراً كمحاولة للدخول من «الشباك» إذا ما أخرجت من الباب، حتى إنها دفعت بقواتها بدءا من السابع من الجاري اتجاه قرية كفرلوزين في ريف إدلب، على الرغم من أنه سيكون من الصعب عليها أن تقدم على اقتحام عفرين إلا أنها ستكون متشددة بشأن إبقاء هذي الأخيرة تحت سيطرة دمشق فيما إذا ما ذهبت الأمور باتجاه حكم ذاتي في الشمال الشرقي من البلاد، إذا ما كان كل ذلك صحيح، وهو فعلاً صحيح، فإن محرك الأحداث الأخيرة التي أعادت سورية بأكملها إلى مناخات الحرب، هو أكبر من أنقرة، وهو يملك الأدوات اللازمة بدرجة تفوق هذي الأخيرة بكثير، ولربما كان تصريح السفير الروسي في لبنان بعد يومين من الهجوم الثاني على قاعدتي حميميم وطرطوس، والذي قال فيه إن أميركا متورطة في الهجوم على القاعدتين الروسيتين، لربما يصح القول إن هذا يكفي لتحديد تلك القوة التي تملك القدرات الأكبر، إلا أن الآفاق المرسومة لما يجري لم تتحدد، أقله بالنسبة للمتابع، إلا بعد أن قال نائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد يوم الخميس الماضي أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي: «إن أميركا ضد الوجود الإيراني في سورية، وهذي مسألة إستراتيجيه»، ولذا فقد بات من المؤكد القول إننا نستعيد مناخات الحرب من جديد بل الحرب المستعرة التي ستمتد إلى مناطق أخرى وأخرى، ولا يمكن بحال من الأحوال تفسير ما يحدث على أنه نتيجة طبيعية لانسداد الأفق أمام مفاوضات جنيف في جولته الثامنة، وتعثر انعقاد الجولة التاسعة المقرر انعقادها في الحادي والعشرين من الشهر الجاري في مدينة مونترو السويسرية التي من الصعب لها أن تنعقد في موعدها إلا إذا أريد لها الفشل ولسوف يتم تأجيلها بالتأكيد، تماماً كما أعلنت موسكو قبل أيام عن تأجيل موعد انعقاد سوتشي إلى 12 أو 13 من الشهر المقبل، فمحرك عام الأحداث هو أكبر من تلك الانسدادات والعثرات، وما يجري الآن هو ليس إلا حالة اندفاع أميركية باتت مقتنعة أن الوهن الأميركي هو الذي شجع موسكو لإطلاق مؤتمر سوتشي، وما الرسالة التي أرسلها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس مؤخراً إلى موسكو إلا تعبير عن الانقلاب الأميركي الحاصل فعلياً وقبيل أن تدخل الأزمة الوقت المستقطع، فقد جاء في شروط غوتيرس لإيفاد دي ميستورا لحضور سوتشي وجوب أن يكون هذا الأخير حدّد جلسة واحدة وأن يعتمد مخرجات جنيف والقرار 2254 ثم أن يجري تشكيل لجنة صياغة الدستور السوري الجديد من الأمم المتحدة، ومن الواضح أن هذي الشروط هي شروط أميركية وهي تتلاقى مع المعلن الأميركي الراهن والذي يأتي عبر الحليف الكردي أيضاً، فقد جاء على لسان ألدار خليل القيادي الكردي الذي يوصف بأنه مهندس الحكم الذاتي للأكراد في لقاء أجرته معه وكالة رويترز يوم الأحد الماضي: أن مساعي روسيا لحل الأزمة السورية ستبوء بالفشل، وأن مؤتمر سوتشي سيكون مصيره الفشل أيضاً، متوقعاً ألا يحدث أي انفراج في الأزمة السورية قبل العام 2021، ومن الجائز والمسوّغ أن ننظر إلى هذه التصريحات على أنها إستراتيجية أميركية جديدة تم إعلام الأكراد السوريين بها، وأن واشنطن اليوم تقف في مواجهة تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أيام والتي قال فيها إن المهمة الرئيسية للعام 2018 ستكون هي سحق جبهة النصرة، وإن إدلب ستكون حديث هذا العام الأخير أيضاً.
وفي إسقاطات تلك المتغيرات على أرض الواقع سارعت الفصائل المسلحة المعارضة بما فيها النصرة إلى الخروج من مسمى «هيئة تحرير الشام» التي وسمت هي الأخرى بالإرهاب، وهو ما ظهر عبر الإعلان عن تأسيس « جيش المسلمين في الشام» مطلع هذا الشهر، والذي حاول أن يقول إنه خال من أي وجود للقاعدة إرضاءً لتركيا وهو في الوقت نفسه سيكون ورقة ضاغطة بيد أميركا، وبعد أيام على التأسيس أعلن في الحادي عشر من الشهر الجاري عن انطلاق معركة «رد الطغيان» التي جاء في بيان إعلانها أنها تهدف لاستعادة ألف كيلو متر مربع كان الجيش السوري قد استطاع السيطرة عليها خلال خمسة عشر يوماً من بدء هجومه لاستعادة السيطرة على إدلب، وهو ما يعود بالذاكرة إلى المناخات التي استولدت «جيش الفتح» 24 من آذار العام 2015 والذي استطاع بعد أربعة أيام من هذا التاريخ السيطرة على إدلب بدعم سعودي قطري تركي أميركي، وما تغير الآن في المشهد هو أن أطراف الرباعي الثلاثة الأولى تبدو خارج المشهد، إلا أن ذلك قد لا يستمر طويلا فهذي الدول على الأرجح سوف ترى في المستجدات الراهنة فرصة سانحة للعودة إلى الساحة بالنسبة للأولين وإلى زيادة النفوذ في سورية بالنسبة للأتراك، وفي استعادة تلك المناخات تشير تقارير عديدة إلى عودة الكثير من عناصر القاعدة الذين فروا إلى العراق أو تركيا إلى سورية من جديد، ولم تكن مصادفة أن تعلن مؤسسة «السحاب» الذراع الإعلامية لتنظيم القاعدة في العاشر من الشهر الجاري عن وجود فرع لها في سورية مستقل، كما ألمحت إلى إسناد قيادته إلى شخص من الرعيل الأول، في مؤشر شبه مؤكد أن القيادة ربما تكون قد أسندت إلى أبو همام السوري، واسمه سمير محجازي، الذي سبق له رفض انضمامه للقتال تحت راية « فتح الشام» الذي أريد القول آنذاك من خلاله أن لا علاقة له بالقاعدة بعد أن كان زعيم النصرة أبي محمد الجولاني قد أعلن عن انفكاكه عنها في تموز من العام 2016، وهو ممن بايع زعيم التنظيم أسامة بن لادن باليد.
لكن على الرغم من كل هذي المناخات المستعرة السابقة الذكر، تبدو موسكو أشد إصراراً على تحقيق اختراق سياسي في ملف التسوية السورية بدوافع داخلية، كالانتخابات الرئاسية الروسية ستجري في آذار المقبل، وكذا بدافع تثبيت مواقعها الدولية التي حققتها على امتداد الأزمة السورية منذ انطلاقها في العام 2011، وهي تستند في ذلك إلى تحالف مهم مع طهران على الرغم من وجود خلاف حول بعض التفاصيل، وإلى تقارب مهم أيضاً مع أنقرة التي لا يمضي يوم واحد إلا وتخطو فيه خطوة تبعدها عن واشنطن، ولربما كانت خطوة وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي الأخيرة في العاشر من الشهر الجاري هي الأهم والأكثر دلالة عندما قال إن بلاده قد تعمد إلى إجراء تغييرات جذرية في بنيان الجيش التركي لكي يتلاءم مع مصادر التسليح الجديدة في إشارة إلى صفقة الصواريخ إس إس 400 الموقعة مع الروس، لكن مع ذلك يبدو أن التقارب الروسي مع الأتراك فيه حلقة مفقودة تظهر آثارها في العديد من المؤشرات ومن خلالها تبدو أنقرة باحثة نحو فضاءات أوروبية أخرى هروبا من سيطرة الفضاء الروسي، فالاتصالات الراهنة مع باريس تحاول الآن إخراج «مجموعة أصدقاء سورية» إلى الحياة من جديد وعقد اجتماع وزاري لأعضائها الأحد عشر في أنقرة الشهر المقبل.