من سورية إلى لبنان.. من يبيع تذاكر الموت؟

من سورية إلى لبنان.. من يبيع تذاكر الموت؟

تحليل وآراء

السبت، ٢٧ يناير ٢٠١٨

لا أحد يضع أولاده واطفاله في قارب مهترئ ويبحر بهم ولا يُخاطر بحياتهم في جرود الموت إلا عندما يصبح البحر والجرود أكثر أماناً من أرض بلاده. جملة قالها العديد من أبناء الشعب السوري لحظة عبورهم من وطنهم الى بلاد أخرى ظناً منهم أنها ستكون اكثر أمناً وأماناً من وطن ما عاد يتسع لهم وما عاد يتحنن عليهم حتى بكسرة خبز. فماذ حدث في بلدة الصويري اللبنانية؟ وما الذي أجبر ضحايا العبور الى ترك بلدهم والنزوح باتجاه لبنان في جو متدني الحرارة لا يقوى على احتماله حتى الحشرات التي تسكن باطن الأرض.

ضحايا البرد وتجار الموت
منتصف الاسبوع الماضي أعلنت قيادة الجيش – مديرية التوجيه في انه وعلى أثر ورود معلومات عن وجود نازحين سوريين عالقين بالثلوج في جرود منطقة الصويري – المصنع، خلال محاولة دخولهم خلسة إلى الأراضي اللبنانية، توجهت دورية من الجيش الى المنطقة المذكورة، حيث عثرت على 9 جثث نازحين قضوا نتيجة العاصفة الثلجية، وأنقذت 6 أشخاص آخرين، توفي أحدهم لاحقاً في أحد المستشفيات متأثراً بالصقيع. كما أوقفت شخصين من التابعية السورية متورطين في محاولة التهريب. وقد تم نقل الجثث إلى مستشفيات المنطقة. وقد ازدادت المصيبة وتعاظمت بشكل اكبر مع إعلان القوى الأمنية يوم الاحد عن العثور على جثتين في جرود الصويري تعودان لامرأة في العقد الثالث من عمرها وطفلتها البالغة من العمر 3 سنوات. والمُدمي والمُبكي في هذا الخبر، كان مشهد الأم وطفلتها حيث ماتتا بعد محاولتهما الاحتماء ببعض من الصقيع وتحديداً الأم التي كانت يداها مشدودتين حول الطفلة وكأنها كانت فقط تحاول إنقاذ حياة ابنتها.

الجثث التسع التي عثرت عليها الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية استدعت تدخل الدفاع المدني والصليب الأحمر اللبناني بالتعاون مع تلك الأجهزة لانتشال الجثث المنتشرة على طريق التهريب التي قضت بسبب تدني درجات الحرارة وفقدان الاتصال بهم، وقد تم نقل الجثث إلى مستشفيات البقاع، حيث أفادت معلومات أن توقيت تهريبهم في مثل هذه الظروف المناخية أودت بحياة تسعة أشخاص بينهم أطفال. وعلى الرغم من الانتشار الكثيف للجيش اللبناني من خلال تمركزه في نقاط ثابتة ودوريات مكثفة إلا أن خط تهريب السوريين لا يزال مستمراً نتيجة لجوء المهربين إلى أساليب وطرق ملتوية للحصول على المال ولو على حساب جثث الهاربين وتضليلهم، مع الاشارة إلى أن الجيش اللبناني وكافة الأجهزة الأمنية تمكنوا من توقيف مئات الأشخاص من التابعية السورية أثناء تهريبهم، وقامت تلك الأجهزة باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، وتمكنت من توقيف مهربين لبنانيين وسوريين ضالعين في عمليات تهريب البشر من سوريين وجنسيات مختلفة عبر تلك الطرق الجبلية.

من يقف وراء عمليات تهريب البشر؟
يبقى سؤال مهم: من يقف وراء عمليات تهريب السوريين إلى لبنان من الجهة السورية؟ خصوصاً أن تلك المنطقة الحدودية تقع تحت قبضة النظام السوري وسيطرة الفرقة الرابعة، حيث يُقال إن عمليات التهريب تجري بعلم وتجاهل بعض الضباط السوريين المولجين أمن تلك المناطق الحدودية من الجهة السورية وبالتعاون مع أشخاص لبنانيين يُطلق عليهم تسمية (تجار الموت)، ينسقون عبر هواتفهم المحمولة مع جهات عسكرية وأمنية من الداخل السوري.

كم من المؤلم أن يستفيق اللبنانيون على خبر ليلة الموت على الحدود اللبنانية – السورية وتحديداً عند نقطة المصنع مع هول العاصفة الباردة التي ضربت لبنان الأسبوع الماضي. فمع اشتداد العاصفة، عثر الدفاع المدني على أكثر من عشر جثث عائدة للاجئين سوريين كانوا يعبرون باتجاه الداخل السوري، قضوا نتيجة البرد الشديد. لم يظن هؤلاء الهاربون من بطش النظام السوري أن تلاحقهم لعنة الموت وهم في طريق هروبهم، وبدلاً من أن تكون الطبيعة أكثر رأفة ورحمة بهم كانت قاسية عليهم إلى حد القضاء عليهم.

ليلة مأساوية قضاها اللاجئون السوريون تحت رحمة البرد على الحدود اللبنانية – السورية وتحديداً عند <معابر الموت> ما بين جبال الصويري ومجدل عنجر والمصنع والحدود السورية والتي يجتازها عشرات السوريين يومياً هرباً من الموت في بلادهم بمساعدة أناس أقل ما يقال فيهم أنهم (تجار موت) وليسوا بمهربين يساعدون أناساً لجأوا إليهم ودفعوا ما يملكون في سبيل الإنتقال إلى مكان أكثر أمناً من حيثما كانوا، حيث آلة البطش والقتل تعمل ليلاً ونهاراً حاصدة المزيد من الارواح. وفي المعلومات فإن (تجار الموت) وأغلبهم من البلدات المحيطة يقبضون مبلغاً يتراوح ما بين 200 دولار و500 دولار مقابل كل فرد، أما بالنسبة لتهريب العائلات فترتفع الأسعار إلى أكثر من 1000 دولار في بعض الأحيان. وتستمع في هذه القرى كالصويري ومجدل عنجر مثلاً إلى حكايات هؤلاء الشباب ومغامراتهم مع القوى الأمنية وتحديداًمع الجيش اللبناني الذي يوجد لديه مراكز منتشرة ونقاط مراقبة في أعلى جبال الصويري ومجدل عنجر.

من المعروف أنه سبق للقوى الأمنية أن داهمت هؤلاء الشباب الذين لا يتجاوز أعمار بعضهم 15 و18 سنة وتمكنت من القبض على بعضهم وعلى العائلات والأشخاص الذين يعملون على تهريبهم. وعند الحدود يتحدث البعض أن عمليات العبور غير الشرعية قد ازدادت في الفترة الأخيرة بعد الإجراءات المعقدة والصعبة التي فرضها الأمن العام على المعابر الحدودية وتحديداً عند نقطة المصنع حيث أصبح اللاجئ أو العابر براً، يحتاج الى مبالغ مرتفعة إضافة إلى كفيل لبناني وهذا ما لم يعد مُتاحاً اليوم.

موقع بلدة الصويري
ومن باب التذكير، فمع اندلاع الشرارة الأولى للثورة السورية في آذار 2011 عمدت الجهات المتصارعة الى ممارسة أبشع أنواع التعذيب والترهيب بحق جزء كبير من الشعب السوري بشتى الوسائل من سجن وقتل وتعذيب واغتصاب، وقد أجبر ذلك شريحة كبيرة من هذا الشعب على ترك ديارهم والتوجه نحو بلدان الجوار هرباً من آلة الحرب المسلطة على رقابهم، وفي حين كان للبنان النصيب الأكبر في استضافة عدد غير قليل من النازحين السوريين الهاربين، حيث كان أغلبهم من محافظتي حمص ودمشق وريفيهما سيما بعد اشتداد المعارك وذلك عبر الحدود البرية، نشطت بكثرة عمليات تهريب اللاجئين من قرى سورية باتجاه الأراضي اللبنانية وذلك عبر ممرات غير شرعية هرباً من المسائلة ومن أجهزة الدولة خصوصاً في الآونة الأخيرة حيث ما عاد يُسمح لأي مواطن سوري بالدخول إلى لبنان بهدف الإقامة وتحديداً بعد توقيف المساعدات الدولية من جهة، واعتبار ان العديد من المدن والقرى السورية أصبحت آمنة بشكل كلي ولم يعد هناك من داع لدخول أي شخص إلى لبنان تحت عنوان نازح أو لاجئ.

لكن هذه القرارات التي تم اتخاذها واعتمادها عبر الحدود اللبنانية – السورية وبالتنسيق بين الدولتين، لم تلق تجاوباً عند البعض من الشعب السوري بحيث نشطت حركته في الفترة الأخيرة من خلال عمليات التهريب الى الداخل اللبناني وتحديداً عبر الجرود التي تربط لبنان بسوريا وصولاً الى بلدة الصويري القريبة من منطقة المصنع عند الحدود. والسؤال هنا أيضاً، ما هو موقع بلدة الصويري من الحدود اللبنانية – السورية؟

تعتبر بلدة الصويري التي يعتمدها المهربون لدخول الاراضي اللبنانية، آخر نقطة حدودية بعد مجدل عنجر مع الجرود التي تفصل سوريا عن لبنان عند منطقة المصنع ويعتمدها مهربو البشر بسلوكها سيراً على الاقدام لدخول الاراضي اللبنانية، وتستغرق المسافة التي يقطعها العابرون من اربع الى خمس ساعات مشياً على الاقدام. وتعترضهم صعوبات كبيرة في حال سوء الاحوال الجوية وهم يسلكون جروداً صعبة التضاريس تقع في مناطق تعلو مراكز الأمن العالم اللبناني والسوري كما وأن الضحايا الذين قضوا اثناء عبورهم الى حياة أفضل، لم يكونوا مجهزين باللباس الملائم للصقيع الموجود في المنطقة وقد واجهتهم اثناء عبورهم عواصف ثلجية لم يستطيعوا الصمود أمامها.

مشكلة لبنان مع النزوح والنازحين
يُعتبر لبنان بلد غير موقع على اتفاقيات اللاجئين بشكل عام، ومن هذا المنطلق لم يتعامل مع النازحين السوريين بصفة لاجئين لأن قوانينه وتشريعاته تعتبر النازح السوري مجرد سائح، علماً أن هؤلاء اللاجئين خرجوا من بلادهم بلباس يستر عريهم وتركوا كل شيء وراءهم من أموال وأملاك وأثاث هرباً من ظروف الحرب والقتل والانتهاكات التي لاحقتهم، كل بحسب منطقته ومذهبه، ومع هذا فقد استُقبل اللاجئون السوريون في لبنان بالعديد من الانتهاكات العنصرية والتي وصلت في بعض مراحلها إلى الأذى الجسدي، وقد ترافقت هذه الانتهاكات مع اصدار الحكومة اللبنانية عدة قوانين وأوامر إدارية لتحديد إقامة اللاجئين السوريين على أراضيها، والتي لم تراعِ ظروف الحرب في سوريا ولا قرارات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان مثل: طلب اوراق إقامة باعتبار السوريين الهاربين من جحيم الحرب سواحاً وليسوا لاجئين، بالإضافة الى تعهدات بعدم العمل، ودفع مبلغ 200 دولار رسوم الاقامة زائد كفيل لبناني، من دون اغفال القرار المهين بمنعهم من التجول ضمن اوقات محددة سواء في العاصمة او الارياف.

لكن هذا لا يسقط على الاطلاق، أن جزءاً من اللبنانيين كان لهم نصيب وافر من الأذى والعنف على يد بعض هؤلاء النازحين من عمليات سلب واغتصاب وقتل وجرائم متنوعة ومتعددة، وما الحالات اليومية التي تُسجل على يد هذا الجزء، سوى دليل قاطع على فقدان كم كبير من التعاطف الشعبي مع الحالة السورية والتي يبدو انها مستمرة في الارتفاع على الرغم من التقارير التي تصنف العديد من المدن والبلدات تحت خانة الآمنة والتي يُمكن العيش فيها بمنأى عن القصف والموت.

الى مخيمات البقاع در
على القهر والفقر ذاته الذي يسير عليه العابرون من سوريا الى لبنان خلسة، ثمة نازحون في مخيمات البقاع يُعانون الأمرين من جراء انعدام وسائل الحياة الكريمة او التي قد تليق بالبشر.

تدخل من البقاع من بوابة الحرمان والفقر المدقع لتبحث في زوايا السنوات عن عالم منسي يُلاحقه الموت على جبهات الحياة الممتدة على بحر العرب وصحاريه. وعند اول مُخيم يُقابلك، تسقط من ذاكرتك مقولة بلاد العرب اوطاني وكل العرب اخواني، فلا نجد أنجدتهم ولا اليمن أسعدهم. أنت في حضرتهم، في حضرة الجوع والحرمان والبحث عن لقمة تسد الرمق. تتأمل في وجوههم، تنظر في عيونهم، تدخل في اعماقهم لتبحث عن زمن أنصفهم او عن رقعة فرح في حياتهم فلا تجد غير البؤس والقهر. هم النازحون السوريون الذين يعيشون على حافة المجتمع وكأنهم عار على هذه الدنيا فلا من يسأل عنهم ولا عن أوجاعهم وآلامهم ولا عن الايام والليالي التي تمضي وهم جياع. فقراء خيم النازحين من قب الياس الى عرسال، واحد والعمر واحد على الارض، والرب واحد وإن اختلفت الاديان السماوية.

هنا ثمة نقص في الغذاء والدواء وتفشي الأمراض والأوبئة وبكثرة، مع العلم ان اطباء تابعين لوزارة الصحة اللبنانية كانوا حذروا مراراً من تفشي الأمراض الجلدية بين النازحين وتحديداً أمراض الجرب، خصوصاً وانهم عانوا خلال الاعوام المنصرمة من كثرة الأوبئة بين النازحين إضافة إلى تفشي أمراض (الحميرة) والجدري وغيرها، رغم السيطرة على قسم كبير منها قبل أن تعود وتتفشى بشكل كبير في صفوف الاطفال ولاسيما أمراض الجرب و(الليشمانيا). وهنا لا بد من الاشارة الى انه منذ فترة غير بعيدة تم اكتشاف بعض الاصابات بمرض السل في عدد من مخيمات النزوح، لكن وبحسب تقرير صادر عن وزارة الصحة فإن لا شيء يدعو الى الذعر بعد ان تمت السيطرة على المرض بشكل شبه كامل.

حتى الفقر لم يفرق بين لبناني وسوري
الطرق سواء البرية أو البرية،لم تعد مجرد تفاصيل محزنة تروي قصة مواطنين لم تعد تسعهم اوطانهم، انما هي وجع يُلازم جزءاً كبيراً من الناس، قرر الرحيل في رحاب الدنيا هارباً اما من جوع واما من قتل، منهم من قضى في طريقه ومنهم من وصل ومنهم من لم يزل يبحث عن موطئ قدم يمكن ان يركن اليه في نهاية عمره او ما تبقى له من عمر في عالم يجنح أكثر صوب الظلم والعنف وانعدام العدالة الاجتماعية. ولبنان هو احدى الدول التي نالت نصيبها من طرق الموت هذه وتحديداً فيما عرف بالعبارة الاندونيسية التي ومن أصل 72 شخصاً كانوا على متنها نجا 18 لبنانياً و5 عراقيين و5 من اريتريا وطفل ايراني ويومئذٍ عاد 34 لبنانياً جثثاً هامدة بعد أن لفظ بحر الموت الأندونيسي أجسادهم وأعادهم إلى تراب وطنهم ليحتضنهم للمرة الأخيرة. يومها عادوا إلى وطن نسيهم في حياتهم لكنهم رفضوا إلا ان يكون ترابه هو الحضن الأخير لهم.

وفي السياق نفسه، لا بد من العودة الى صورة الطفل (ايلان) الذي كانت تُحركه الأمواج وحيداً على الشاطئ وكأنها كانت تلامس شعره الرقيق. طفل تمدد يومذاك على وجهه وأدار ظهره للعالم هرباً من عار امة لم تنصفه في حياته ولم تسمع استغاثاته، أمة تنكرت له في الدنيا كما في الآخرة. (ايلان) الطفل وفي لحظاته الاخيرة بحث عن يد امه فلم يجد غير الامواج لتأخذه في احضانها، بحث عن شقيقه غالب بعدما عجزت يد والده عن إنقاذه لكنه لم يجد غير الشاطئ مكاناً ليلقي عليه ظهره بعدما أتعبته رحلة المد والجزر. حتى طابة كرة القدم التي كان يعانقها طوال فترة العبور خذلته وابتعدت عنه وتركته يواجه مصيره وحده. مات (ايلان) ورحل لكنه مثله مثل أي طفل رحل مظلوماً عن هذه الدنيا، ترك في نفوس العالم حسرة ورسم على ملامح وجوههم دمعة لن تنسى ما دامت الدنيا قائمة وما دام ظلم البشر موجوداً.