حرب أهلية باردة في بريطانيا.. بقلم: مارتن وولف

حرب أهلية باردة في بريطانيا.. بقلم: مارتن وولف

تحليل وآراء

الخميس، ١٥ فبراير ٢٠١٨

الأجانب محتارون في أمرنا، ويسألونني غالباً عما يُجرى في بلدي. والحال هذه تذكرني بشبابي يوم كانت المملكة المتحدة رجل أوروبا المريض. ولكن الباعث على القلق اليوم ليس مسألة اقتصادية بل سياسية. وعلى رغم أن المسألة سياسية، ثمة جانب اقتصادي فيها: تفوق الاقتصاد البريطاني تبدد منذ وقت كبير. ولكن كيف لبلد، يسألون، عُرف بالبرلمانية الديموقراطية المستقرة والبراغماتية أن ينزلق الى مثل هذه الفوضى المحرجة: حكومة غير قادرة على الحكم؛ شقاق في الحزبين الرئيسيين؛ وتراجع البرلمان أمام «إرادة الشعب» على الوجه الذي جلت عليه في استفتاء؛ وسياسيون يهاجمون مسؤولين، ووسائل إعلام تهاجم القضاء- وهذا كله يحدث في جو تغلب عليه هستيريا صيد الساحرات (ذعر مستشرٍ وإلقاء اللائمة على جماعة من الناس). وتبدو أحوال بريطانيا اليوم غير بريطانية. ولطالما عرفت المحافظة البريطانية بشفة الفم العليا المتصلبة والثابتة، واليوم يبدو أن الرجفان (الاضطراب) يهز شفاه البريطانيين.
فماذا يحصل؟ بريطانيا في حرب أهلية. والاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لم ينزع فتيل الحرب هذه: الطرفان المتواجهان (المؤيد للانسحاب، والمعارض له) متساويان في الوزن ويتبادلان مشاعر الازدراء والاحتقار. وتدور الحرب على وجه البلد وصورته، وحتى على ما إذا كان عقد المملكة المتحدة سينفرط أو ستكتب لها الحياة. ولا شك في أن الحرب الأهلية الدائرة في بريطانيا سلمية. وهذا من فضائل وحسنات العملية الديموقراطية السياسية. ولكن هوة الشرخ تعصى الردم بين الخصوم. وسبق لحرب أهلية أن وقعت في بريطانيا في الماضي، في القرن السابع عشر على وجه التحديد. وحينذاك دار النزاع على السيادة: هل تكون في يد الملك أو البرلمان. وترافق المسير نحو الاقتراع العام مع نزاع سلمي. واحتفلنا قبل أيام بذكرى قرن على منح النساء حق التصويت في 1918. ولكن نزاع القرن العشرين بين العمال والرأسمال كان ليكون أعنف لولا الحربان العالميتان ورصهما صفوف البريطانيين، على رغم خلافاتهم.
والاستفتاء لم يطوِ الحرب الأهلية البريطانية. والنزاع اليوم يدور على مصير المملكة المتحدة: وجواب أسئلة منها: أهي بلد أوروبي فحسب؛ ومن يحدد القوانين التي يلتزمها البريطانيون؛ ومن يقرر من يسعه العيش على أرضها؛ وهل المشروع الأوروبي جسر الى مستقبل أفضل، أم هو مؤامرة اشتراكية، أو مكيدة رأسمالية أو مؤامرة ضد السيادة الديموقراطية فحسب؟
وأكثر ما يستوقف في هذا النقاش هو أن أقصى اليسار وأقصى اليمين يُجمعان فحسب على جبه الوسط. فهما متفقان على أن الاتحاد الأوروبي مؤامرة على السيادة البرلمانية- مؤامرة على حق غالبية برلمانية موقتة في أن تفعل ما تشاء مع الشعب. ويرمي الاشتراكي اليساري الى إرساء جنّة اشتراكية، في وقت يرمي اليميني المؤيد للسوق الحرة الى جنّة رأسمالية. وفي الحالين، الاتحاد الأوروبي هو العدو. وتضطر الأحزاب لتقطف النجاح الى أن تتبنى المتشددين فيها وأن تميل الى الوسط، في آن معاً. لذا، شق بريكزيت (الانسحاب من الاتحاد الأوروبي) صفوف الحزبين البارزين، حزب العمال وحزب المحافظين. وبعد نحو 20 شهراً على الاستفتاء ونحو 11 شهراً على إطلاق العمل بالبند 50، لم تناقش الحكومة تقريباً معنى بريكزيت وما يترتب على العملية هذه، والمعارضة لا تعرف ما ترغب فيه وما هي فاعلة. ولا ريب في أن أجنحة بريكزيت المتباينة والمختلفة تعرف فحسب أنها تريد الرحيل (عن الاتحاد الأوروبي) والانسحاب من أوروبا.
ويبدو أن المملكة المتحدة هي ضحية نجاحها السابق. فهي جزيرة بحرية ارتقت الى مصاف قوة عظمى. ورسمت هويتها على أنها ضد أوروبا وخلافها، وضد أي قوة تريد الهيمنة على أوروبا. وجمعها رفض هيمنة أي قوة على أوروبا بحلفاء أوروبيين. ولكن اليوم، أوروبا تتحد وترص الصفوف، في وقت لم تعد بريطانيا قوة عظمى، وهي أمام مفترق طرق: هل تكون جزيرة نائية أم حلقة من حلقات أوروبا متحدة؟ واختارت بريطانيا جواباً زرع الشقاق فيها. وإذا كانت الانقسامات عميقة، استفحل الاستقطاب وتعاظم. ولا يعُتبر أحد حيادياً في عين مؤيدي البريكزيت على وجه التحديد. فمؤيدو الانسحاب من أوروبا ثوريون، وهم الأكثر جموحاً. وفي ميزانهم من لا يوافقهم الرأي هو ضدهم وعدو لهم. وصار الارتياب والشك يلفان عمل المؤسسات البريطانية العظيمة، وهذه شيدت حجراً حجراً وأرسيت إرساء متأنياً حرصاً على حيادها. وبعض المحافظين صاروا في مثابة أسلحة دمار دستوري مؤسساتي يطعنون في عمل المؤسسات ويقوضونها. وفي هذه الأزمة كل شيء ممكن: قد لا يبرَم اتفاق على بريكزيت يرسم وجه العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وقد يُنظَم استفتاء جديد. ولكن الأغلب أن تضطر بريطانيا الى الانسحاب نزولاً على شروط يُملي تفاصيلها الاتحاد الأوروبي. فحين يعم الانقسام بلداً ما، والفوضى (تعم) عمليته السياسية، يتولى أي كان زمام الأمور، فيوجه الآخر دفة الأمور في معزل عنه (البلد المنقسم). وفي هذه الحال الاتحاد الأوروبي سيوجه دفة خروج بريطانيا، ويحدد معايير الانفصال وشروطه. وعلى رأس الاتحاد هذا قادة حاديهم تاريخي: عدم العودة الى الماضي. وتاريخ أوروبا ليس تاريخ بريطانيا، والأوروبيون يرمون الى ما لا يرمي اليه البريطانيون. ولكنهم اليوم الفيصل في تحديد شروط الانفصال. وحينئذ، فحسب، سنرى إذا ما كانت الحرب الأهلية البريطانية ستخمد وتنتهي أو أنها ستتواصل وتحتدم احتداماً مريراً.
 
* معلق، خبير في الشؤون الاقتصادية، عن «فايننشل تايمز» البريطانية