انتخابات «تركيا الجديدة»: لكلٍّ صراعه... من أجل البقاء.. بقلم: لور الحوري

انتخابات «تركيا الجديدة»: لكلٍّ صراعه... من أجل البقاء.. بقلم: لور الحوري

تحليل وآراء

الجمعة، ١ يونيو ٢٠١٨

بعد ثلاثة أسابيع، تنتخب تركيا رئيساً وبرلماناً جديدين، في ظلّ انحصار الجدل حالياً بين الأطراف الأكثر تمثيلاً في المعارضة من جهة والسلطة المتمثلة بأردوغان وحزبه من جهة ثانية، بشأن «مصير الديموقراطية». وبينما تعكس المعارضة حالة سأمٍ عامة إزاء سيطرة الرئيس المطلقة على البلاد، وتحاول اللعب على هذه الورقة لتحقيق نتائج ملموسة في الانتخابات، يبني أردوغان على تجربةٍ دامت 16 عاماً في الحكم ويبدو أنه متمسكٌ، أكثر من أي وقتٍ مضى، في إثبات أنه قادر على السير بتركيا إلى وضعية جديدة حتى عام 2023، تاريخ مئوية تأسيس الجمهورية... فيكون عرّاب مستقبلها.
لم تنتهِ القصة بعد بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. رجل تركيا القوي يعمل على إعادة التوازنات الداخلية لصالحه ليكمل السير نحو «تركيا الجديدة»، بكلّ ما يملك من قوّة، وهو الذي بات متمرّساً في إزالة العوائق التي تمنع هيمنته الشخصية على بلده. فعبر مراكمته الوسائل التي تمنحه القدرة المطلقة على التحكم في كافة المفاصل السياسية ومكامن صناعة القرار في البلاد، وتحديد من هو «الخائن» و«عدو الأمّة» و«المتآمر» و«الإرهابي»، أنشأ الرئيس التركي نموذجاً جديداً من الاصطفاف السياسي في تركيا.
ينكشف هذا الاصطفاف الجديد من خلال الانتخابات المبكرة في 24 حزيران المقبل، وهو لا يقتصر على انقسام بين علماني ويساري وقومي وإسلامي، بل يتأطّر بين جبهتين: واحدة ترفع شعار إعادة القواعد الديموقراطية، وأخرى تؤيد أردوغان.
يبقى أردوغان صاحب الحظوظ الأكبر في الفوز، إذ تحت عباءة «تحالف الشعب» الإسلامي ـــ القومي (تحالف «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»)، وبقدرات هائلة انتزعها خلال سنوات وجعلته المستأثر الأوحد بضبط الإيقاع السياسي لبلده، عيّن بحريّةٍ مطلقة موعداً جديداً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، يتلاءم مع مصلحته السياسية المتعلقة باستغلال عوامل السياسة الداخلية والخارجية واستباق تدهور الاقتصاد.
في مواجهة أردوغان، تجتمع أطراف معارضة تحت عباءة «تحالف الأمّة»، وهي بدورها تملك حظوظاً لا بأس بها في الفوز، برلمانياً بالأخص. هذه الأطراف تلقفت بسرعةٍ صدمة الانتخابات المبكرة التي أعلن عنها في منتصف نيسان الماضي، واستكملت المواجهة بعناوين استعادة دولةِ القانون والديموقراطية والعدالة. تلك العناوين جمعت الأضداد: حزب الشعب الجمهوري (علماني)، حزب الخير (قومي)، حزب السعادة (إسلامي)، الحزب الديموقراطي (يمين)، فيما قرر «حزب الشعوب الديموقراطي» (يسار) خوض الانتخابات وحيداً.
وسط هذا التنوّع المعارض، يواجه أردوغان للمرة الأولى منذ عام 2003 هذا الحجم من المنافسة، علماً بأنّ تلك الأحزاب قدّمت مرشحين مختلفين للرئاسة، لكنها وعدت بأن تجتمع خلف أي مرشح يستطيع التأهل إلى الدورة الثانية.
هذه الانتخابات، ومثلما هي عامل تحدٍّ ودافع لأحزاب المعارضة، هي أيضاً تحدٍّ حقيقي ليس لـ«حزب العدالة والتنمية» فقط، بل للرئيس نفسه. يمكن تفسيرها على أنّها تجسيد لصراعه الداخلي، لتجربته في الحكم، وطموحه الخاص بأن يكون «أبا» الهوية التركية الجديدة (على غرار مصطفى كمال، «أبي» تركيا).
هي، بشكلٍ أوسع، الجواب المنتظر عن سؤال حول ما إذا كان الشعب سيعيد اختياره بزخم الماضي نفسه، ويمنحه الثقة الكاملة للعبور به إلى «تركيا الجديدة»، هذا المفهوم الغامض والمتبدّل، المرهون بالتحوّلات التي رمى أردوغان البلاد بها، على الأقلّ منذ طرح التحوّل إلى النظام الرئاسي التنفيذي (تمّ التصويت على قبوله في نيسان 2017).
أيضاً، سوف يكشف هذا الاستحقاق الانتخابي عن حجم عمق الانقسام السياسي في البلاد، ويبيّن في الوقت نفسه حقيقة نجاح سياسات أردوغان في تحويل المجتمع، ومستوى سيطرته على مؤسسات الدولة، السياسية والعسكرية والقضائية، التي توسعت عقب انقلاب تموز 2016 الفاشل.
 
أعداء الأمة!
بشكلٍ عام، تشكّل انتخابات حزيران 2018 ذروة حكم «العدالة والتنمية»، وانعكاساً للطابع الاستثنائي للسياسة الذي أرساه خلال تجربته في الحكم. خاطب «العدالة والتنمية» في بداياته قطاعات مختلفة من المجتمع التركي، عبر تقليصه تدريجاً دور الجيش في مؤسسات الدولة وصناعة القرار.
هذا الحزب كان قد ظهر في «حقبةٍ كانت فيها تحركات المجتمع المدني تطالب بتصالح تركيا مع ماضيها، خصوصاً في ما يتعلق بالإبادة الأرمنية وقمع الأكراد، وتترافق مع سأم عام من تاريخ البلاد المليء بالانقلابات العسكرية والقمع السياسي، خصوصاً ضدّ الأحزاب ذات التوجه الإسلامي»، وفق ما تشرح إيلا جورج في مقالة أخيرة في مجلّة «لندن ريفيو». لكنّ الأكاديمي اليساري فاتح ياشلي، يلخّص في مقالة تحدّث فيها (في كانون الثاني 2015) عن تعاطي «العدالة والتنمية» مع الحركة السياسية الكردية، معالم الهوية «الجديدة» التي سعى إلى تكريسها هذا الحزب، بالقول إن «ممثّليه، وزعيمهم الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي كان يقتضي الدستور (في حينه) ألا يكون حزبياً، استخدموا وبشكل متكرّر عبارة تركيا الجديدة، وهذا النظام الجديد الذي يجري التأسيس له قائمٌ على ميزتين: أسلمة المجتمع والسلطوية».
تدريجاً، لم يعد «العدالة والتنمية» ممثّل الانقلاب الديموقراطي في البلاد، إذ فرض تحوّلات اجتماعية وسياسية، من القمّة إلى القواعد الاجتماعية المختلفة في تركيا. لم يقتصر على إعادة صناعة الهوية التركية فحسب، بل إلى استعارة أساليب الماضي لتطبيق ذلك، منذ عام 2013 على الأقلّ. وهو بذلك لم يقضِ على «الدولة العميقة»، بل أمسك بمفاتيحها، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشل في 14 تموز 2016 (راجع الكادر أدناه).
منذ ذلك الحين، بدأت أدبيات «جديدة ـــ قديمة» تدخل إلى القاموس السياسي في تركيا، معظمها ألقاب تعظيمية رافقت اسم رجب طيب أردوغان، مثل «رئيس الشعب»، الذي ورد في ختام الإعلان الدعائي لترشح أردوغان حينها. في المقابل، باتت التهم جاهزةً بحقّ من ينتقد أو يعارض أردوغان، أي الارتباط بـ«جماعة فتح الله غولن» و«حزب العمال الكردستاني». وُضع عشرات الآلاف في السجون، أوقف عشرات الآلاف عن عملهم، من أكاديميين وصحافيين وسياسيين وبرلمانيين، وأيضاً من الجيش. وُصفوا بأنهم «أعداء الأمة».
تلك المرحلة التي دخلت إليها البلاد هي خلاصة غرور تعاظَمَ بعد نيل «العدالة والتنمية» الأغلبية البرلمانية للمرة الثالثة على التوالي عام 2011 (49.83 في المئة)، مع انتقال «الأغلبية الصامتة» من حالة التهميش إلى حالة الفوز الدائم، واقتناع هؤلاء التام بأنهم يمثلون «تركيا الجديدة»، فضلاً عن تعاظم الطموح بأن يكون أردوغان «أبو» الهويّة التركية «الجديدة».
الأحجية كانت قد اكتلمت أيضاً بالنظر إلى ردّ فعل السلطات العنيف على تظاهرات جيزي عام 2013، المترافقة مع خطاب قومي سلطوي من قبل رئيس الوزراء في حينه، رجب طيب أردوغان، بقوله إن أحداث «جيزي بارك» ليست سوى مؤامرة داخلية وخارجية تتم برعاية عناصر «جماعة الخدمة» بزعامة فتح الله غولن. وبالانتقال إلى عام 2014، أظهر أردوغان، من خلال الانتخابات الرئاسية حينها، أنه لن يقبل بأن يكون مجرد رئيس شكلي، بل رئيس ديناميكي يستغل سلطاته الدستورية لأقصى حد.
نفّذ بعدها الرئيس التركي الخطوة الأولى باتجاه العبور إلى «تركيا الجديدة»، وهي تطبيق التعديلات الدستورية للتحول إلى النظام الرئاسي المطلق الذي أعدّه قبل فوزه بالرئاسة، وقال حينها: «الدستور الجديد للعبور إلى تركيا جديدة هو واحد من أولوياتنا إذا ما انتخبت رئيساً. دستور جديد يعني مستقبلاً جديداً».
إعادة الانتخابات التركية في نهاية 2015، بعد أشهر قليلة من نجاح «حزب الشعوب الديموقراطي» في الدخول إلى البرلمان وخسارة «العدالة والتنمية» غالبيته البرلمانية المطلقة، أظهرت أنّ الديموقراطية في البلاد أصبحت أشبه بـ«أكذوبة»: لم يستعد «العدالة والتنمية» في حينه غالبيته المطلقة، إلا باستغلاله ظروفاً داخلية وخارجية (الإرهاب والحرب في سوريا) والاعتماد على المشاعر القومية.
 
تضميد الجراح
لا يزال أردوغان يلجأ إلى خطاب «المؤامرة» في الوقتِ الحالي، طمعاً بأن ينقذه هذه المرة أيضاً. ينسحب خطاب «المؤامرة» على كلّ قطاعات الحياة في تركيا، حتى الاقتصاد، وهو أحد أهمّ أركان الفوز الدائم لأردوغان. ربما يشعر الرئيس التركي بالحنين إلى هذا الماضي حينما كان يستطيع أن يجاهر علناً بأنه وحزبه نقلا البلاد من اقتصاد متدهور إلى أحد أهمّ الاقتصادات في العالم. أما الآن، فلا بدّ من ملاحظة الأمور كما هي: الحزب نفسه الذي حوّل البلاد إلى قوّة اقتصادية لا يستهان بها، يجرّها الآن إلى هاويةٍ اقتصادية. بدأت بوادر التدهور تظهر من خلال التذبذب الذي عانت منه الليرة التركية بخسارتها حوالى 20 في المئة من قيمتها منذ بداية العام.
أسباب التراجع المنطقية عدة. لكن مستعيناً بالخطاب الشعبوي القومي الذي اعتاده الأتراك في السنوات الأربع الماضية، دعا الرئيس التركي المواطنين، في التجمع الانتخابي الأول لـ«العدالة والتنمية»، قبل أسبوعين، إلى «المشاركة في إفساد المؤامرة الاقتصادية عبر تحويل ما بحوزتهم من عملات أجنبية إلى الليرة التركية».
في مواجهة خطاب السلطة، باتت المعضلة الأبرز والأكثر حساسية في المجتمع التركي اليوم، نتيجةً للتجربة القاسية لحزب «العدالة والتنمية» وأردوغان في الحكم، هي البحث عن الوسيلة الأفضل للتخلص منه. هذا عنوان المعارضة الأساسي، وتحديداً «حزب الشعب الجمهوري». تبنّى مرشحه للرئاسة، محرم إينجه، شعار «يكفي»، الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يعني أنّ الصبر قد نفد حيال الحزب الحاكم.
تنتهي طموحات المعارضة هنا، عند التخلص من أردوغان، لتكون برامجها السياسية ردّ فعل على التغيير المصطنع الذي حاول فرضه على البلاد، إلى درجةٍ يمكن القول إنها وجهٌ آخر من وجوه السلطة، لكن ذلك لا يمنع شريحةً كبيرة في البلاد من تعليق الآمال عليها.
في العمق، لا تقارب برامج «حزب الشعب الجمهوري» أو حتى «حزب الخير» المواضيع الأكثر عمقاً بطريقةٍ تختلف جذرياً عن «العدالة والتنمية»، حتى في السياسة الخارجية، أو العلاقة مع الشرق الأوسط (وهي بالمناسبة مواضيع لم تناقش في العمق داخل تلك الأحزاب إلّا مؤخراً).
في برنامجه السياسي، يَعِد «حزب الخير» ومرشحته للرئاسة، ميرال أكشنار، بالعودة إلى النظام البرلماني ورفع حالة الطوارئ التي تمّ تمديدها منذ عام 2016 سبع مرات. إينجه بدوره، ومن خلال أسلوب المواجهة الذي يعتمده في مقابلاته التلفزيونية وكلماته، يشفي غليل كثر في تركيا من السلطة، كما أنه يطرح حلولاً بديهية تستجيب بطريقةٍ مباشرة لرغباتِ الشعب بعد تجربتهم الطويلة والصعبة مع «العدالة والتنمية»، فهو يَعِد مثلاً بتدريس اللغة الكردية في المدارس في حال فوزه.
خلع محرّم إينجه شعار «حزب الشعب الجمهوري» عن بدلته الرسمية، في حركةٍ رمزية تشير إلى أنه سيكون رئيساً محايداً للبلاد، بعيداً عن أيّ انتماءات حزبية، عكس أردوغان تماماً. في مقابلةٍ له مع مجلة «بيلد» الألمانية، يقول إينجه إن الفرق بينه وبين أردوغان هو أنه «يؤمن بالديموقراطية». هدفه الأساسي، كما يشرح في المقابلة، هو: «تضميد جراح تركيا». لا يطرح إينجه نفسه أيضاً كممثّل لليسار، كما قال في المقابلة، أما المعارضة الأكثر يسارية، فلا تجد، حتى في أوساط «الشعب الجمهوري» صوتاً لها، فقد حيّد حزب الشعب بعضاً من كوادره اليساريين ومنع ترشحهم للانتخابات البرلمانية على حساب أسماءٍ محافظة، في خطوة أثارت جدلاً كبيراً داخل الحزب.
أمام معارضة تبدو كأنها ردّ فعل على سياسات سلطوية بطرحها حلولاً «تخفيفية» لقسوة سنوات «العدالة والتنمية»، وسلطة ترتبط بطموحاتِ زعيم أوحد، تلوح المرحلة المقبلة بمثابة فرصةٍ سيعاد فيها تشكيل الجمهورية التركية، إما كما يريد أردوغان، أو عبر فرض واقع سياسي جديد، لا يختلف في العمق عن ماضي البلاد، لكن على الأقلّ، لا خطاب تخوينٍ وقمع فيه.
 
«الديموقراطية المحافظة»
اختصرت ليلة الانقلاب العنيفة تحديات حديثة عاشتها البلاد: «ما نلحظه الآن في تركيا هو عبارة عن دورة من الأنماط المفاهيمية والأدوار التابعة لها، فالرجل القوي والبطل والخائن هي أدوار ارتبطت بالثقافة السياسية التركية، وهي ليست أدواراً مدفوعة بالتنافس الإيديولوجي (فقط)، بل بشبكة معقدة من تسلسلات هرمية وخوف عام من فوضى اجتماعية»، تقول الباحثة في علم الأنتروبولوجيا جيني وايت.
حالة الهلع التي تلت محاولة الانقلاب، أوضحت بشكلٍ صارخ المهمة التي عيّنها «العدالة والتنمية» لنفسه، في إطار «الديموقراطية المحافظة». يمكن اختصارها بأنّها تسعى إلى «تطبيع النظام السياسي» ليتوافق مع المجتمع، والتحوّل نحو إيديولوجية حاكمة مهيمنة، تجد في التلاعب بالسياسة والمجتمع والمؤسسات وسيلتها لتحقيق تلك الحالة الطبيعية للأمة كما تراها