لماذا انقلب الأوروبيون على ترامب؟

لماذا انقلب الأوروبيون على ترامب؟

تحليل وآراء

الأربعاء، ٦ يونيو ٢٠١٨

مع انسحاب إدارة ترامب مؤخراً من الصفقة النووية الإيرانية، أصبحت العلاقة المضطربة فعلياً بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أكثر هشاشة وضعفاً. وقد رسخ قرار ترامب -بالنسبة للعديد من الأوروبيين- بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق الإيراني كره الأوربيين لنهجه حول الشؤون الدولية الذي يجعل أميركا أولاً بدلاً من التعددية.
ويبدو أن  فكرة معاداة الولايات المتحدة في مختلف أنحاء أوروبا آخذة في الازدياد، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تدهور شعبية الولايات المتحدة، إضافة إلى تكرار نقد القادة الأوروبيين لسياسات واشنطن الخارجية، إذ يصدر المعلقون تحذيرات قاتمة حول مصير التحالف عبر الأطلسي. وترى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنه لا يمكن لأوروبا بعد الآن الاعتماد على الولايات المتحدة وينبغي علينا “تولي زمام أمورنا بأنفسنا”.
تستحضر رئاسة ترامب الذكريات من عهد جورج دبليو بوش، عندما كانت المعارضة للحرب على العراق والسياسة الخارجية الأمريكية قوية، وكانت التوترات عبر الأطلسي في ذروتها. وبعد انتهاء فترة رئاسة أوباما، أصبح الرأي العام الأوروبي سلبياً على نحو ملفت حول شاغل البيت الأبيض مرة أخرى. ويبدو أن تقييمات الأوربيين لـ ترامب تشبه إلى حدّ كبير تقييمات بوش عند اقتراب نهاية فترة رئاسته، وكما أوضحت الدراسة التي أجراها مركز “بيو” للأبحاث والدراسات العالمية في فرنسا، على سبيل المثال فإن 14 في المائة فقط يثقون بقيادة ترامب الدولية، التي تماثل بالضرورة النسبة التي حصل عليها بوش وهي13 في المائة عام 2008 -خلال فترة رئاسة أوباما، لم تنخفض ثقة الفرنسيين به إلى ما دون 80 في المائة- وكما كانت الحال في فترة تولي بوش، ينتقد اليوم معظم الأوروبيين سياسة الولايات المتحدة الخارجية التي يبدو أنها تستخفّ بالتعاون الدولي.
ولكن ثمّة بعض الاختلافات المهمة بين عهدي ترامب وبوش أيضاً، فالجولة الحالية لمعاداة أمريكا تحدث في لحظة قلق حول مصير النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والأفول النسبي للقوة الأمريكية.
كثيراً ما كانت ترتبط مشاعر العداء المتنامية تجاه الولايات المتحدة في أوروبا بمخاوف من توسيع القوة العسكرية للولايات المتحدة، أو نفوذها الاقتصادي، وانتشار الثقافة الأمريكية، لكن الآن يبدو أن الأوروبيين أقل قلقاً حول “قوة عظمى” غير مقيدة تستعرض عضلاتها في جميع أنحاء العالم، وهم أكثر قلقاً بشأن انسحاب أمريكا من العلاقة عبر الأطلسي.
بعد الحرب العالمية الثانية، مارست واشنطن قوتها الهائلة على المسرح العالمي لبناء تلك العلاقة، فقد رأى الكاتب والمنظر السياسي البريطاني عام 1947 هارولد لاسكي أن أميركا تخطو في العالم كأنها عملاق، فلا روما في أوج قوتها ولا بريطانيا العظمى في فترة تفوقها الاقتصادي تمتعت بنفوذ مباشر أو عميق أو منتشر إلى هذا الحدّ. وبعد عام، أطلقت الولايات المتحدة خطة “مارشال” وعملت مع حلفائها الأوروبيين لتشكيل النظام العالمي الليبرالي.
بالطبع، وحتى أثناء الحرب الباردة، كان هناك خلافات بين أمريكا وحلفائها الأوروبيين منها أزمة السويس عام 1956، وحرب فيتنام، والجدل حول نشر صواريخ متوسطة المدى في ألمانيا خلال فترة رئاسة ريغان، لكن التهديد السوفييتي كان بمثابة حافز مرعب لدول التحالف الغربي لتجاوز خلافاتهم.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، كانت القوة الأمريكية منقطعة النظير، وبعد الحادي عشر من أيلول، أثار الامتداد غير العادي للجيش الأمريكي قلق معظم الأوروبيين. كانت هناك معارضة واسعة لحرب الولايات المتحدة على العراق، مع اتفاق الكثير على أن إدارة بوش تواصل الحرب الأوسع نطاقاً على الإرهاب من جانب واحد. وتعتقد الغالبية العظمى في البلدان الأوروبية ممن أجرى مركز “بيو” استطلاعاً لآرائهم خلال فترة رئاسة بوش أن الولايات المتحدة تتطلع  لتحقيق مصالحها الخاصة دون أخذ مصالح الدول الأخرى بعين الاعتبار. في ذلك الوقت، كان الموقف العالمي الضعيف أمام الولايات المتحدة مرتبطاً بالمخاوف من قوة الولايات المتحدة غير المقيدة وتجاهلها للمعايير الدولية أو التعاون المتعدّد الأطراف.
على الرغم من إحراز أوباما شعبية أكبر من شعبية بوش في أوروبا، ولكن إدارته كانت تغذي من حين لآخر الخوف والاستياء، فلم يكن استخدامه المتزايد لضربات طائرات من دون طيار ضد الإرهابيين في أماكن مثل باكستان، واليمن، والصومال يحظى بشعبية على نطاق واسع.
في هذه الأثناء، كشفت تسريبات إدوارد سنودن حول استخدام الولايات المتحدة برامج مراقبة حول العالم ما اعتبره الكثيرون بُعداً جديداً مثيراً للقلق للقوة الأمريكية: “القدرة على الوصول عبر الفضاء الإلكتروني ومراقبة اتصالات أي شخص تقريباً في أي مكان”. كان لقصة سنودن آثار خطيرة على القوة الأمريكية الناعمة، فقد انخفضت نسبة الذين يؤمنون باحترام الحكومة الأمريكية للحرية الشخصية في العديد من الدول بعد التسريبات، بحسب استطلاعات الرأي لمركز “بيو”. كانت هذه المسألة مهمة بشكل خاص في ألمانيا، حيث ذُكر أن الولايات المتحدة تتنصت على ميركل. وبخلاف ذلك، فإن المخاوف الأوروبية من القوة الأمريكية غير المقيدة في عهد ترامب أصبحت أقل تأثراً، بسبب الإحساس بتراجع الولايات المتحدة عن النظام العالمي الذي ساعدت في تشكيله. لقد شكل مصير هذا النظام موضوع جدل كبير منذ نشوء “البريكست” وانتخاب ترامب. ويبدو أن الدول الغربية التي شكّلت النظام الدولي على مدى سبعة عقود تترنح في مواجهة الضغوط الخارجية الناشئة عن نهوض الصين والقوى الناشئة الأخرى، والضغوط الداخلية الناجمة عن تزايد النزعة الشعبية، ويعتقد معظم الأوروبيين أن هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي آخذة في الأفول. ورأت الأكثرية التي شملها استطلاع الرأي الذي أجراه العام الماضي مركز “بيو” في فرنسا وألمانيا وبريطانيا أن الصين -وليس أمريكا- هي القوة الاقتصادية الرائدة في العالم. وأن تصبح أمريكا أقل قوة يعني حالة ارتياب بالنسبة للنظام الدولي الذي جلب السلام والازدهار النسبيين لأوروبا لمدة سبعة عقود.
كانت ردود أفعال الأوربيين سلبية تجاه بعض السياسات الرئيسية لترامب، وخاصة انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها الدولية. عارض معظم الأوربيين ممن استُطلعت آراؤهم انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقات تغير المناخ والاتفاقات التجارية، والاتفاق النووي الإيراني. ولا يرغب الأوربيون عموماً أن يروا أميركا تقيم حواجز -سواء بالمعنى الحرفي أو المجازي– بينها وبين بقية العالم. كما تواجه خطة ترامب لبناء جدار على الحدود المكسيكية معارضة قوية من معظم الأوروبيين، وبدرجة أقل قرار حظر سفر مواطني دول ذات غالبية مسلمة لأمريكا.
كثيراً ما اشتكى القادة الأوروبيون من عدم التزام ترامب بالشراكة عبر الأطلسي والقيم التي ارتكز عليها النظام الذي بنته القوى الغربية. ودون أن ينتقد ترامب بشكل مباشر، ضمّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطابه الأخير أمام الكونغرس الأمريكي، انتقادات أوروبية حول وجهات نظر الزعيم الأمريكي: يمكننا أن نختار الانعزالية والانسحاب والقومية، التي يمكن أن تكون مغرية لنا كوسيلة غوث مؤقتة لمخاوفنا. لكن إغلاق الباب في وجه العالم لن يوقف تطور العالم. لذلك، في حين أن تقييم ترامب يشبه تقييم بوش منذ عقد من الزمان، إلا أن أسلوب نقد أوروبا يختلف بعض الشيء. وسواء أكانت إيران، أم التجارة، أو تغير المناخ، أو التشكك في قيمة التحالفات القائمة منذ فترة طويلة مثل حلف شمال الأطلسي، فإن الأوروبيين الآن يعربون بانتظام عن أسفهم لانسحاب الولايات المتحدة. ويرى معظم الأوربيين أن أمريكا تخرج عن النظام العالمي الذي شكلته وتتجه للانعزال بينما تصعد قوى أخرى.