«الهجمة الأميركية» الراهنة.. بقلم: سعد الله مزرعاني

«الهجمة الأميركية» الراهنة.. بقلم: سعد الله مزرعاني

تحليل وآراء

السبت، ٩ يونيو ٢٠١٨

نستعيد مفردة «الهجمة»، الآن، وهي كانت، في عقود مرحلة ما قبل انهيار «الاتحاد السوفياتي»، شديدة الشيوع والرواج في أدبياته وفي أوساط منظومته الرسمية والشعبية، إلى درجة الرتابة الشعاراتية! محتوى هذه المفردة، التي كانت تجمع ما بين الإدانة والتحذير والتحريض، اقترن بكونها «إمبريالية»، وهي مفردة أخرى حملت مدلولاً سياسياً (رغم انتمائها أكثر إلى عالم الاقتصاد) كان مرادفاً للعدوانية والتوثب والتآمر، ما استدعى التنديد الفوري والشامل. كان ذلك في مرحلة الإفراط في الأدلجة و«الحرب الباردة». وكان استخدام مفردات كهذه يشير إلى هوية القائل بها وإلى تموضعه، كفرد أو كتنظيم أو كجهة، في الانقسام العالمي ذي القطبين السوفياتي والأميركي. 
لم يكن هذا التصنيف، الذي كان، أحياناً، معفى من امتلاك وسائل الإقناع أو البحث عنها في تناقضات الدول والمجتمعات ومصالح الكتل والأفراد... لم يكن مجرد اتهام، بل إن مبرراته، على خلاف أدواته، كانت كبيرة في صراعات تلك المرحلة. وهي صراعات لم تستثنِ حقلاً من الحقول إلا جنَّدته في خدمة معاركها: الاقتصاد والسياسة والعلاقات والمنابر الدولية (الدبلوماسية) والعلم والفن والأدب والسينما والرياضة والمطالب والقضايا والحقوق والحريات... وصولاً إلى الفضاء («حرب النجوم») وامتلاك الترسانات النووية والصواريخ العابرة للقارات ووسائل القتل الجماعي: الكيميائية والجرثومية والوبائية... هذا فضلاً عن الإعلام ووسائله المكتوبة والمسموعة والمرئية، كذلك ما يؤدي إلى تحقيق انتصارات أو مكاسب بكل الوسائل، كالعدوان والاغتيالات والتشهير والقمع والعزل وفبركة الذرائع والتدخل في الشؤون الداخلية للدول ومحاولة تغيير أنظمتها بالضغوط والقوة والغزو العسكري...
لم يكن الصراع، طبعاً، من طرف واحد، لكن الطرف «الإمبريالي» الاستعماري، كان هو الأنشط والأكثر مبادرة في المجالات كافة. ولما انتهى هذا الصراع بانتصار قوى الغرب الرأسمالي وقائدته الولايات المتحدة، جرى من قبل كثيرين من الفريق الآخر ردّ سبب الهزيمة إلى «التآمر» الخارجي، أي إن «الهجمة التي» كانت، بالدرجة الأولى، عملية «تآمر» خارجية، كانت، بالتالي، السبب الرئيس لانهيار المنظومة الشتراكية. والتآمر ينطوي، بالضرورة، على الغدر والمفاجأة والعتمة، لا على النزاهة وتكافؤ الصراع والشفافية... وحين تكون أسباب الهزيمة خارجية، فليس لمواطن الضعف والفشل الداخليين تأثير مهم فيها! وحيثما ساد هذا التقييم، المنكِر للأخطاء والمُلقي بمسؤولية الهزائم على الآخرين، لم يستقم الأمر، ولم يجرِ أخذ العِبَرْ، وبالتأكيد، لم يحصل تصحيح للاعوجاج وتجاوز للهزيمة وللخسائر أو لبعض منهما. هكذا كان الأمر، في الغالب الأعم، في «الحركة الثورية العالمية» التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي.
الخلل في تقييم المسارات والمسؤوليات لا يلغي أن القوى الاستعمارية، القديمة والجديدة، هي التي قادت الهجوم في السابق؛ وهي تواصله اليوم، على مهدّدي نفوذها وهيمنتها ومصالحها. وهي، حتى في مرحلة ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وبعد أن روّجت لانتصارها النهائي (فوكوياما ونهاية الصراع والتاريخ)، نظّمت عدة هجمات كان أبرزها غزو العراق واحتلاله عام 2003. كان في الطليعة، يومها، «المحافظون الجدد»، في ظل ولاية جورج بوش الابن. وُضعت «الهجمة» آنذاك في نطاق «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» التي أعلنها «البيت الأبيض» الأميركي في أيلول 2002. وهي استراتيجية عدوانية استباقية وضعت القوة المباشرة المتفوقة في خدمة مصالح و«قيم» وأنماط سلوك وحياة الدولة الاستعمارية الكبرى والتي باتت القطب العالمي الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ميدان الهجوم الجديد، وساحته الأساسية، الذي قاده «المحافظون الجُدد»، كان الشرق الأوسط، انطلاقاً من بغداد. الهدف المعلن إعادة استيلاد جديدة، بحلة «ديموقراطية» مزعومة، لهذا «الشرق الأوسط الواسع» الممتد من باكستان إلى موريتانيا، وفق تصوّر ومصالح واشنطن وشركائها وأدواتها، وخصوصاً الصهيونية. تجدّد غزو العراق بغزو لبنان عام 2006. لكن أخفق الغزو الثاني كما الأول. خسائر كبيرة اقتصادية وسياسية ومعنوية وأخلاقية، مُنيت بها واشنطن وتل أبيب وكل شركاء الغزو في الحالتين، فرضت انكفاءً بتوصية من لجنة بيكر –هاملتون. تلت ذلك هزيمة الجمهوريين في واشنطن وحلفائهم في لندن واسبانيا... مرحلة الرئيس باراك أوباما كرَّست هذه الهزيمة بالانسحاب والانكفاء وتغيير الأولويات والأدوات. في امتداد ذلك وسياقه، بادرت القيادة الروسية، بعد استكمال العدة، إلى رفض ومواجهة الأحادية الأميركية. ساعدتها في ذلك «إخفاقات» واشنطن أولاً، ثم تطورات عالمية على المستوى العسكري والاقتصادي والتنافسي، دفعت إلى بناء تكتلات مضادة للتفرد الأميركي، أبرزها تجمع دول «بريكس». الروس بقيادة فلاديمير بوتين، الذين كانوا أكثر حيويةً وانخراطاً، باشروا هجومهم المعاكس عبر التدخل المباشر في الأزمة السورية وبناءً على طلب حكومة الرئيس بشار الأسد في أيلول 2015. لم يكن بإمكان واشنطن أن تحاول استعادة زمام المبادرة في ظل إدارة أوباما التي اتسمت بالانكفاء والتصالحية وشيء من العقلانية، خصوصاً بعد أن ورثت أزمة خطيرة ضربت الاقتصاد الأميركي أواخر عام 2008، إلى تعاظم الفشل والخسائر في أفغانستان وفشل آخر في ليبيا... تسارع التطورات لغير مصلحة واشنطن وتابعيها مهَّد لتغيير في السياسة الأميركية استثمره الشعبوي الفوضوي دونالد ترامب القادم من عالم الإعلام «الواقعي» والعقارات وكازينوات القمار والعنصرية والدعم الصهيوني...! 
بعد ارتباك وفوضى، استغرقا حوالى سنة ونصف سنة من ولاية ترامب، بدأت تتبلور سياسات إدارته وأولوياتها وفريقها الحاكم إلى الرئيس الذي رفع شعار «أميركا أولاً». تقع المنافسة الأميركية الحقيقية مع روسيا والصين، بالدرجة الأولى. لكن ترامب يعاني من أزمة اتهامه بالحصول على دعم موسكو في الانتخابات، ما ساعده في هزيمة منافسته هيلاري كلينتون. النفوذ الصهيوني الهائل في صفوف عائلته وناخبيه وفريقه، وأسباب أخرى في مواقف حلفائه في المنطقة، وخصوصاً من بين دول الخليج، دفع إلى التركيز على «الخطر الإيراني» وعلى مشروع «صفقة القرن» لتصفية حقوق الفلسطينيين. هنا تتجلى «الهجمة» الأميركية، حالياً، إعلامياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً. تبدو تل أبيب هي الرابح الأكبر حتى إشعار آخر. الواقع أن هذه الهجمة تندرج في سياق أشمل لا يستثني أياً من الحقول على امتداد العالم، ويشمل الحلفاء كما الأعداء: من منظومات التجارة والعلاقات الدولية إلى الاتفاقات الثنائية في مجالات الأمن والاقتصاد والتبادل، إلى إقامة الجدران والحواجز ضد الدول المجاورة (المكسيك خصوصاً)، إلى الخروج من اتفاقيات المناخ ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة، إلى كسر تقاليد الرئاسة نفسها في البيت الأبيض في مسائل الإعلام وإغراق الإدارة بالمقرّبين، عائلياً وتجارياً بشكل خاص.
الهجمة الأميركية الجديدة سيكون لها أثر كبير في المنطقة. إعادة ترتيب أوراق الصراع والعلاقات على أساس مواجهة مفاعيلها واستهدافاتها، خصوصاً في شقها الصهيوني، هي الأولوية كبرى. مرة جديدة، المستهدف، هو كل الشرق الأوسط وكل مصائر ومصالح شعوبه، وضمن صراع تدميري، تكون انقسامات العرب، وتغذية هذه الانقسامات بالاحتراب الأهلي، على أُسس قومية أو دينية (التطرف والتكفير الإرهابي) أو مذهبية، هي الأداة الأفعل لانتحارهم وتصفية قضاياهم ومصالحهم، ولاستتباعهم وإخضاعهم...