ترامب الثوري والعالم.. بقلم: أنس وهيب الكردي

ترامب الثوري والعالم.. بقلم: أنس وهيب الكردي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢ يوليو ٢٠١٨

قد لا يأتي الثائر من أوساط الشعب المسحوقة، أو من الأحزاب العقائدية العظيمة، إذ يصدف أن يأتي ثائر من النخبة الاقتصادية أو الاجتماعية في دولة ما. لكن هل بالإمكان عد شخص مثل دونالد ترامب شخصاً ثورياً كما ماكسيميلان روبيسبير، فلاديمير لينين، ماوتسي تونغ أو تشي جي غيفارا.
ترعرع ترامب في أوساط أسرة ثرية تعمل في قطاع العقارات بالولايات المتحدة، فعمل على تأسيس إمبراطوريته الشخصية، ونجح في تحقيق ثراء عريض. انحاز تقليدياً مع الجمهوريين في الولايات المتحدة، لكنه اتخذ موقفاً خاصاً من النظام الدولي الذي أسسته بلاده ورعته وطورته ونشرته في أرجاء المعمورة. كان أكثر رجال الأعمال الأميركيين انتقاداً للنظام الدولي الاقتصادي الذي شكلته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية، معتبراً أنه مجحف بمصالح الأميركيين. معارضة ترامب للأسس الليبرالية للنظام الدولي لم تقتصر على المجال الاقتصادي، بل طالت أيضاً المسلمات السياسية التي يلتقي عليها الحزبان الكبيران في الولايات المتحدة حيال دور بلادهم على الساحة العالمية؛ كمدافع مقدام عن الديمقراطية الليبرالية، حقوق الإنسان، وغيرها. تصلبت آراء ترامب إبان السنوات العجاف التي مرت بها الولايات المتحدة عقب تفجر الأزمة المالية العالمية عام 2008، والتي جعلته يصوغ مقاربة متشددة ضد العولمة. وطوال عهد الرئيس السابق باراك أوباما، ترسخت آراء ترامب متحولةً إلى عقيدة متكاملة الأركان مضادة بالمطلق لسياسات الرئيس ذي البشرة السوداء.
هذه العقيدة، التي ترعرعت في أشد المواطن تأييداً للنظام الدولي الليبرالي والعولمة، ترى ببساطة أن النظام لم يعد يفيد الولايات المتحدة وأن الوقت قد حان لإعادة النظر ليس فقط في آلياته بل في أسسه وفلسفته. يشكل الضمان الأميركي حجر الرحى في النظام الدولي، بينما تؤلف تحالفات واشنطن العسكرية في أوروبا، آسيا، الشرق الأوسط، أفريقيا وأميركا اللاتينية أعمدته، على حين تعمل التجارة الحرة والمؤسسات الدولية التي لعبت واشنطن الدور الأكبر في إقامتها (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية)، كمحركات لعجلته الاقتصادية.
لم تكن جملة الآراء التي يحملها ترامب أكثر من مجرد اعتراضات على هامش المشهد السياسي في الولايات المتحدة يتقاسمها مع جزء محدود من الأميركيين، ومواطني بلدان أجنبية حول العالم، في مواجهة نظام راسخ مطمئن إلى قوته ونخبة قوية تفرض هيمنتها على القرية الكونية ولا تقيم لتلك الآراء أي وزن. ولقد تعامل العالم أجمع مع هذه الرؤى بوصفها غير ذات صلة وأنها ستتلاشى، بينما كان ترامب يحصد الانتصارات الانتخابية المتتالية في السباق إلى البيت الأبيض، الأمر الذي كشف تبني قطاعات واسعة من الجمهور الأميركي لمواقف ترامب المنبوذة. وجاء فوز هذا الأخير غير المتوقع، ليصل بتلك الآراء التي تمثل ثورة بالنسبة للوضع العالمي الراهن، إلى معقل السلطة في البيت الأبيض. مذ ذاك لم يضع ترامب الوقت في تحويل معتقداته ووعوده إلى حقائق هزت النظام الدولي الليبرالي بعنف، ولا تزال.
يعتقد هذا الرئيس بأن النخبة السياسية في واشنطن تتبنى جملة من المسلمات باتت تمثل عبئاً على القوة الأميركية، لا بل إنها أدت إلى تراجعها أمام منافسيها المعلنين والمحتملين على الصعيد العالمي. تختصر عقيدة ترامب بالشعار التالي: «أميركا أولاً»، ولو كان ذلك على حساب النظام الدولي الذي طورته على مدار سبعة عقود. وهنا يكمن الفارق بينه وبين أسلافه في البيت الأبيض، فالتزامهم الشامل بدعم النظام الدولي الليبرالي واستمراره، يتطلب موارد هائلة تدفع الولايات المتحدة للبحث عن حلفاء عالميين يؤازرونها في تحقيق تلك المهمة. وهؤلاء الذين يرى ترامب أنهم يستغلون الولايات المتحدة، للمساهمة في بناء نظام اقتصادي وأمني عالمي يستفيدون منه من دون دفع الثمن المناسب، لا بل إنهم يكبدون واشنطن أثماناً باهظة. وهو يعتقد أن الولايات المتحدة عليها أن تعمل لضمان مصالحها وحسب، وبالتالي فإن فائض قوتها سيمكنها من تحقيق ما تريده بأقل ما يمكن من الموارد اللازمة. لعل ذلك ما يجعل علاقته مع حلفاء بلاده التقليديين في أوروبا وأميركا الشمالية صعبة للغاية، إذ إن تضايقه منهم يدفعه لمعاملتهم معاملة شبيهة بتلك التي يعامل بها منافسي واشنطن. هؤلاء المنافسون لا يملك لهم ترامب أي عداء بل هو يسعى للانخراط معهم من دون أفكار مسبقة لتحقيق مصالح أميركية بحتة.
وإذا لم يعد الحلفاء حلفاء والأعداء أعداء، باتت يدا واشنطن مطلقة في ملاحقة مصالحها الوطنية الضيفة حتى لو كانت على حساب الحلفاء والشركاء وعبر الحوار مع من يعتبرون خصوماً ومنافسين.
هكذا، وفيما بدا النظام الدولي الذي أسسته واشنطن راسخاً ومستقراً في الظاهر، كشف ترامب عن مكامن ضعفه، وهو يعمل الآن بكامل طاقته ضده، غير آبه لما سيؤدي إليه إضعاف هذا النظام من نتائج على الولايات المتحدة والعالم، مستنداً إلى أن فائض القوة الذي تتمتع به واشنطن مقارنة بغيرها من الدول الكبرى والإقليمية، سيمكنها من تحمل المواجهات والانتصار فيها.
كما هي الحال مع أي ثوري، ربما سيفوت الأوان قبل أن يدرك ترامب أنه ليس بإمكانه التخلص من النظام الدولي من دون دفع ثمن خاص، وأن محاسن النظام القديم تندثر مثلها مثل مساوئه، وأن الميزات المتحققة من النظام الجديد قد لا تتطابق مع الخطط التي جرى وضعها قبلاً.