الرؤى المتنافسة في أوروبا تهدد بتمزيق الاتحاد الأوروبي

الرؤى المتنافسة في أوروبا تهدد بتمزيق الاتحاد الأوروبي

تحليل وآراء

الخميس، ١٩ يوليو ٢٠١٨

حذّرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في وقت سابق من أن مستقبل الاتحاد الأوروبي يعتمد على ما إذا كان بإمكانه التوصل إلى إجابات حول مسألة الهجرة. ولكن بقدر ما هي  قضية الهجرة صعبة، فهي في الواقع مجرد عامل واحد من التحديات المعقدة للغاية التي تواجه الاتحاد الأوروبي، والتي تتوزع على طول خطوط الصدع المتعددة والمتداخلة التي تنامت على مدى العقد الماضي ويبدو أنها تتعمق.
 
يعتمد مستقبل المشروع الأوروبي ليس فقط على ما إذا كان بإمكان الاتحاد الأوروبي التعامل بفعالية مع اللاجئين من منطقة البحر الأبيض المتوسط، ولكن أيضاً حول ما إذا كان بإمكانه إيجاد طريقة للتوفيق بين المفاهيم المتباينة حول ما يجب أن تكون عليه أوروبا.
 
والأهم من ذلك أن أزمتي اليورو واللاجئين -اللتين زادت حدتهما مرة أخرى بشكل متزامن تقريباً خلال الشهرين الماضيين– هما اللتان قسمتا أوروبا على أسس جغرافية وسياسية. شكلت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تحالفات مختلفة حول كلّ من القضيتين. فعلى سبيل المثال، عارضت كل من اليونان وإيطاليا ألمانيا في أزمة اليورو، إلا أنهما وجدتا نفسيهما الآن في الجانب نفسه من قضية الهجرة حتى مع وصول الأحزاب “الشعوبية” إلى السلطة في اليونان وإيطاليا.
 
وسط هذا الاضطراب، ظهرت ثلاث رؤى متنافسة: الأولى فكرة ميركل عن أوروبا  “تنافسية”. إذ أصبح الاتحاد الأوروبي في ظل “قيادتها” منذ بداية أزمة اليورو عام 2010، وعلى نحو متزايد وسيلة لفرض الانضباط في السوق على الدول الأعضاء، بما في ذلك التقشف على البلدان المدينة في منطقة اليورو. بعبارة أخرى، على الرغم من أنه تم التعبير عنها بعبارات مؤيدة لأوروبا، وتنطوي على مزيد من التكامل، إلا أن هذه الرؤية تعكس في الأساس رؤية نيوليبرالية.
 
والرؤية الثانية هي فكرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتعلقة بـ”أوروبا الحامية”، إذ يتصور ماكرون اتحاداً أوروبياً فيه مزيد من التضامن بين المواطنين وبين الدول الأعضاء. وهذا ما يعني –عملياً- المزيد من إعادة التوزيع وتقاسم المخاطر في منطقة اليورو في “اتحاد التحويل” الذي تتخوف منه  ألمانيا والدول الأخرى الدائنة. وتشكل هذه رؤية يسار الوسط عن أوروبا – على الرغم من تركزها في فرنسا، لكن ماكرون ينفذ إصلاحات هيكلية في محاولة لاكتساب المصداقية في برلين، ما يجعله عرضة للنظر إليه نفسه وبشكل متزايد على أنه نيوليبرالي.
 
أما الرؤية الثالثة، فهي فكرة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عن أوروبا “المسيحية” بدول ذات سيادة. وقد برزت رؤيته لأول مرة رداً على محاولة ألمانيا إجبار الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على قبول الحصص الإلزامية للاجئين في عام 2015، لكنها تطورت إلى نقد أوسع للمشروع الأوروبي. ويعتبر أوربان نفسه “ديمقراطي غير ليبرالي” في معارضة لما يراه ليبرالية غير ديمقراطية للاتحاد الأوروبي. ويشاركه رؤيته ليس فقط حكومة حزب القانون والعدالة في بولندا، ولكن أيضاً الأحزاب اليمينية المتطرفة في الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
 
يخوض كلّ من الوسطيين والشعبويين صراعاً أساسياً حول قضية الليبرالية واللا ليبرالية. لكن الواقع أشد سوءاً من ذلك، كما يتضح من حقيقة أنه على الرغم من الاختلافات الواضحة حول قضية الهجرة، فإن الحزب الديمقراطي “الليبرالي” بقيادة ميركل وحزب أوربان “فيديسز” غير الليبرالي لا يزالان في التجمع نفسه في البرلمان الأوروبي، والممثل بحزب الشعب الأوروبي- يمين الوسط.  وفي مكان ما بينهما، يوجد الحزب الديمقراطي المسيحي البافاري بقيادة وزير الداخلية الألماني هورست سيهوفر، الذي يهدّد بإسقاط حكومة ميركل ما لم تتحرك أكثر نحو رؤية أوربان.
 
ومع ذلك، فإن الاختلافات بين الرؤى الثلاث حقيقية. فعندما حاز ماكرون على جائزة شارلمان في مدينة آخن في غرب ألمانيا، ازداد الضغط على ميركل، التي فشلت في الاستجابة لدعوته لإصلاح منطقة اليورو. وقال: “في ألمانيا، لا يمكن أن يكون هناك جاذبية دائمة للميزانية والفوائض التجارية، لأنها تُحقّق على حساب الآخرين. وبعد الاستماع إليه، قالت ميركل إنها ستبحث عن أرضية مشتركة رغم خلافاتهما. مضيفة: “هذا هو سحر أوروبا”. لكن أوربان رفض على الفور فكرتهما عن أوروبا أكثر تكاملاً واعتبرها “كابوساً”.
 
وبعدها استجابت  ميركل أخيراً إلى ماكرون ووافقت على “قدرة مالية” صغيرة في منطقة اليورو، أي ميزانية  كجزء من محاولة طال انتظارها لإعادة إطلاق العلاقة الفرنسية الألمانية “كمحرك” للاتحاد الأوروبي. لكن إعلان ميسبيرج كان ينظر إليه، وعلى نطاق واسع بوصفه خيبة أمل، لأن التنازلات التي قدمتها ميركل لا تقدم الكثير لجعل العملة الموحدة مستدامة.
 
حتى هذه التنازلات لاقت على الفور –ومن دون أية مفاجأة- معارضة من دول أخرى في أوروبا الشمالية الأكثر عداءً لرؤية ماكرون من ألمانيا.
 
يكمن الخطر في أن التناقضات بين الرؤى الثلاث ستجعل الاتحاد الأوروبي يعاني من خلل وظيفي متزايد، مما يؤدي إلى تفاقم رد الفعل العنيف ضده.
 
شعرت الحكومة الإيطالية الجديدة، وهي تحالف لحركة خمس نجوم المناهضة  للمؤسسة، وحزب رابطة الشمال المتطرف، بالإحباط بسبب الفشل في إحراز تقدم بشأن مسألة الهجرة، حيث رفضت التوقيع على عروض المجلس الأوروبي، وقال مسؤول إيطالي: “لن يتم الاتفاق على شيء حتى يتم الاتفاق على كل شيء”.
 
يمكن أن تكون إيطاليا، التي هي الآن في قلب أزمتي اليورو واللاجئين كما كانت اليونان من قبل، الدولة الرئيسية المتأرجحة في صراع الرؤى  ثلاثي الاتجاهات. هناك أقسام في المجتمع الإيطالي تدعم كلاً من هذه الرؤى. ويدعم كثيرون من يمين الوسط الإيطالي، الذين كانوا مؤيدين دائماً للتكامل الأوروبي، وبشكل خاص اليورو كطريقة لفرض الانضباط الخارجي على البلاد- رؤية ميركل عن أوروبا قادرة على المنافسة. بينما يدعم يسار الوسط الإيطالي رؤية ماكرون عن “أوروبا التي تحمي”. في غضون ذلك، تتشارك رابطة الشمال المتطرفة الكثير من رؤية أوربان المعادية للمهاجرين.
 
كل رؤية هي استجابة لتزايد منتقدي الاتحاد الأوروبي  في أجزاء مختلفة من القارة، ومحاولة لإعادة ربط الاتحاد الأوروبي بالمواطنين. المشكلة هي أن الرؤى غير متوافقة. ما ينبغي القيام به لتقليص انتقادات الاتحاد الأوروبي في جنوب أوروبا سيزيدها في الشمال، والعكس صحيح. وبالمثل، فإن ما قد يتطلبه الأمر لتقليص الانتقادات الأوروبية في شرق أوروبا سيزيدها في الغرب، والعكس صحيح. السؤال هو ما إذا كانت هناك طريقة للخروج من لعبة الربح الصفري هذه؟!.