المواجهة العالمية الشاملة بين روسيا واميركا.. بقلم: جورج حداد

المواجهة العالمية الشاملة بين روسيا واميركا.. بقلم: جورج حداد

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٠ يوليو ٢٠١٨

بعد موجة عارمة من حمى الـكاذيب والافتراءات وفرض العقوبات كمظهر من مظاهر المعاداة المَرَضية لروسيا لدى أميركا وحلفائها، وهي الحمى التي كادت تنذر بوقوع الانفجار الكبير بين القطبين الاميركي والروسي لدى أول احتكاك مباشر في سوريا أو أوكرانيا أو جنوبي شرقي آسيا أو بحر البلطيق، اجتمع الرئيسان الاميركي والروسي لبضع ساعات في هلسنكي، بكل ما تحمله فنلندا من رمزية التواصل البناء بين روسيا والغرب. وجاء الاجتماع بمثابة دوش بارد لحملة النباح الهستيري المعادي لروسيا من قبل جوقة البروباغندا الاميركية ـ الغربية. وفي المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده الرئيسان في نهاية الاجتماع لخص دونالد ترامب التغيير الذي حصل في النظرة الاميركة الى روسيا بالقول: ان اميركا تعتبر روسيا منافسا وليست عدوا.
وقد لفت نظر جميع المراقبين العقلانية المفاجئة التي هبطت على دونالد ترامب.
وتفيد مختلف الانباء الصحفية ان الرئيسين تطرقا الى عناوين جميع القضايا الخلافية التي تهم البلدين: سوريا، العراق، اليمن، ايران والاتفاق النووي معها والعقوبات ضدها، أمن الكيان الاسرائيلي، شبه الجزيرة الكورية، العقوبات ضد روسيا، توسع الناتو واقترابه من الحدود الروسية، الحرب التجارية بين أميركا والصين، السياسة الجمركية الاميركية، أسعار النفط والغاز والسوق العالمية للطاقة، المنافسة الاميركية – الروسية لتزويد اوروبا بالنفط والغاز، ملف تخفيض التسلح الاميركي ـ الروسي، ملف منع انتشار الاسلحة النووية، وملف تلوث البيئة.
 
المعطيات تشير ان الطرفين اتفقا على ان لا يكون اي ملف سببا للصدام والنزاع المسلح بينهما
وطبعا انه لم يكن بالامكان أن تطرح وتناقش بالتفصيل كل هذه الملفات وتوضع الحلول لها في جلسة لقاء اولي بين الرئيسين. ولكن المعطيات تشير ان الطرفين اتفقا على ان لا يكون اي ملف سببا للصدام والنزاع المسلح بينهما، بل ان تتم مناقشته للتوصل الى تسويات.
والسؤال هو: لماذا غيرت القيادة الاميركية ايقاع معزوفتها المعادية لروسيا وجنحت الى التفاهم معها؟
يقول بعض الخبراء ان المواجهة العالمية الشاملة بين القطبين الاميركي والروسي قد غدت منذ بضعة شهور على مستوى جديد تماما، وبتناسب جديد تماما ترجح فيه الكفة الروسية. وان العالم ذا القطب الاميركي الأوحد أصبح من التاريخ. وقد أصبح يوجد وضعية جديدة، تقتضي وجود زاوية نظر جديدة للتحليلات والتوقعات المتعلقة بفسيفساء القضايا الاقليمية والقطاعية التي تتألف منها اللوحة الجيوستراتيجية العالمية الشاملة.
ويشير هؤلاء الخبراء الى تاريخ مفصلي هو 1 اذار 2018. ففي هذا التاريخ وجه الرئيس بوتين رسالته الى البرلمان الفيديرالي الروسي. وهي رسالة متعددة الوجهات وتتمحور حول احدث سلاح روسي جديد. وصادف تاريخ الرسالة الذكرى السنوية 11 لكلمة الرئيس بوتين في ميونيخ بالمانيا، حينما قال “ان المركز الواحد للسلطة، والمركز الواحد للقوة، والمركز الواحد لاتخاذ القرارات ـ اي الولايات المتحدة الاميركيةـ ليس فقط لم يعد مقبولا، بل ولم يعد ممكنا”. ولم يعد ممكنا الرأي الاميركي الذي عبر عنه سبيغنيو بريجينسكي، الممستشار السابق للامن القومي الاميركي بالقول: “ان العالم الجديد ينبغي ان يبنى ضد روسيا وعلى حساب روسيا”.
بعد 11 سنة من كلمة بوتين في ميونيخ، اي في 1 اذار 2018 اعلن بوتين ان روسيا قد استعادت التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الاميركية
وبعد 11 سنة من كلمة بوتين في ميونيخ، اي في 1 اذار 2018 اعلن بوتين ان روسيا قد استعادت التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الاميركية، بل وتفوقت عليها في القطاع العسكري الاكثر خطورة وهو: “السلاح الفوصوتي” اي ذو السرعة الخارقة فوق سرعة الصوت.
لقد قضي الامر وأقفلت الدائرة
وذكّر بوتين ان كل شيء بدأ مع خروج الولايات المتحدة الاميركية من اتفاقية 1972 المتعلقة بالدفاع الجوي الصاروخي والتي كانت تقضي بابعاد انظمة الصواريخ المضادة الاميركية عن الحدود الروسية، التي يمكنها ان تقضي على الدفاعات الاستراتيجية النووية الروسية. وكان قد تم نشر منظومة الصواريخ الاميركية المضادة في بولونيا ورومانيا بحجة مواجهة الخطر الايراني.
فمنذ ذلك الحين كان من المهم لروسيا ان تستعيد التوازن الاستراتيجي مع اميركا والناتو. وقد توصلت الى ذلك. ومرة جديدة تنهض روسيا لاداء دورها العالمي من خلال جيشها.
وقد أعلن بوتين في 1 اذار 2018 ان المهمة الستراتيجية لانجاز دورة اعادة تسليح الجيش قد استكملت. والثغرة التي كان يمكن من خلالها ان تشن اميركا الهجوم على روسيا قد أغلقت.
وقال بوتين: “لقد اعدنا تسلحنا بتكنولوجيا جديدة. واذا كنتم ستهاجموننا فسيكلفكم ذلك ما لا طاقة لكم به. لقد فاتكم القطار.
وقد بدأ الانتاج التسلسلي للانظمة التسليحية الجديدة ودخلت في الخدمة لدى جيشنا. لقد سبق وحذرناكم، ولكنكم لم تستمعوا الينا، وسنرى الان ماذا بامكانكم ان تفعلوا”.
ان روسيا تمتلك الان تفوقا كبيرا، بالسلاح الفوصوتي. وللمرة الاولى منذ عدة سنوات تلوح روسيا بـ “العصا الغليظة” المتمثلة في الصاروخ الهائل متعدد الطبقات المسمى “سارمات”.
روسيا وضعت عمليا جميع اصدقائها وحلفائها في العالم اجمع في حماية مظلتها النووية ـ الصاروخية الواقية من العدوان الاميركي ـ الناتوي
ودون ان يحتاج بوتين لان يقول ذلك صراحة، فإن روسيا وضعت عمليا جميع اصدقائها وحلفائها في العالم اجمع في حماية مظلتها النووية ـ الصاروخية الواقية من العدوان الاميركي ـ الناتوي. وهذا عامل جديد في الجيوستراتيجية الدولية.
ففي المرحلة الجديدة من الحرب الباردة، السلاح الفوصوتي ،صبح هو العامل الحاسم. على أساس هذا السلاح بنت اميركا استراتيجيتها الجديدة حول “الضربة العالمية الخاطفة”. وقد ردت روسيا بأنها ستجد الرد المناسب للجم سلوك اميركا بوصفها “دركي العالم”. وقد تمكن الروس في سرعة مذهلة من صناعة الرؤوس الحربية الآيروباليستية الفوصوتية التي يحملها الصاروخ العملاق الجديد “سارمات” ذو الـ 20 بلوكا (او كتلة) التي يتجه كل منها الى هدف مختلف او يمكن توجيهها كلها الى هدف واحد. وأصبحت روسيا الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها خلال نصف ساعة فقط أن تقضي على أي موقع في العالم حتى بدون استخدام السلاح النووي. إذ بواسطة الرؤوس الحربية والصواريخ الفوصوتية التي اصبحت تمتلكها روسيا، والتي تمتاز بقوة تفجيرية هائلة ودقة تصويب متناهية (امكانية الانحراف عن النقطة المحددة لا تزيد عن متر واحد فقط) اصبح بامكان روسيا ان تقضي بضربة خاطفة واحدة (حتى بدون استخدام السلاح النووي) على جميع مراكز القيادة والتحكم المعادية، السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية والاعلامية والخدماتية والاتصالاتية والمواصلاتية الخ، مما يترك الدولة المعادية جسدا بلا رأس وبلا اعضاء عضوية. واذا احتاج الامر الى استخدام السلاح النووي، فإن أميركا ذات المساحة الشاسعة تحتاج الى صاروخ “سارمات” واحد، الذي يتألف من 20 كتلة. اما اي دولة ناتوية اخرى فإنها لا تحتاج الى صاروح سارمات بل الى احد الصواريخ الاصغر حجما وقوة تفجيرية.
 
هذه هي أحد الأسباب الجوهرية للعقلانية التي هبط وحيها “فجأة!” على ترامب في قمة هلسنكي، وليس فقط تقلباته البهلوانية في المواقف السياسية. ولكن صفة التقلب البهلواني في المواقف قد تخدم ترامب في “تغطية السماوات بالقباوات” وتبرير تراجعه عن المواقف العدائية المسبقة ضد روسيا.
العهد