قامة السنديان الباذخة.. بقلم: دعد ديب

قامة السنديان الباذخة.. بقلم: دعد ديب

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٤ أغسطس ٢٠١٨

حنا مينه خابية الذهب العتيقة، وقامة السنديان الباذخة، فيض من عطاء دائم الاخضرار، امتدت أكثر من نصف قرن خلت، هو جزء من إرثنا الثقافي وذاكرتنا التي نشأنا عليها، ورسمت ملامح وعي الكثير منَّا، إبان المد الثقافي لقوى التحرر الوطني، بصفته التعبير الجلي لأدب الواقعية الاشتراكية، الذي كان يستهوي الذائقة الأدبية للنقاد وأغلب فئات المجتمع على حدِّ سواء. 
هذا المفهوم وإن كان ملتبساً بانسجامه مع علاقات الإنتاج للعالم الثالث، حيث استقرَّ أخيراً على تعبير الواقعية التي عايشناها في «المصابيح الزرق» و«الشراع والعاصفة»، و«بقايا صور» و«الشمس في يوم غائم» التي رصدت الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وأعقبها بـ «الثلج يأتي من النافذة»، و«الربيع والخريف»، و«مأساة ديمتريو» لتعايش أحداث ما بعد الاستقلال مسلطاً الضوء على البعد الثالث لها، ألا وهو المستقبل من خلال رسم صورة البطل الإيجابي («الطروسي»، «زخريادس»، «فياض»، «كرم») مسقطاً عليه رؤيته الفكرية وحماسه الأيديولوجي، عبر ثيمة تلازم صورة البطل الشعبي مع المناضل السياسي. فكل بطل عنده، له مرشد أو واعظ أو موجه فكري، يقوم بتعبئته وصياغة مفاهيمه الفطرية ضمن نواظم الرؤى الطبقية والوطنية على مقاسات الماركسية الدارجة. هذا التأطير قد يصادر المشهدية الفنية والتلقائية الطبيعية للشخصية الروائية مما يجعلها ناطقة بأكثر مما يسمح به التنامي الطبيعي لها، أو بمعنى يستنطقها بما يريد الكاتب أن يقوله هو أو يقتنع به. لذلك قد تتبدى كصوت واحد، وخاصًة عندما يقدِّمها بصفات إيجابية كاملة، وهذا بحدّ ذاته لا يبدو واقعياً، فلكل كائن زلاته وهفواته ونقائصه كذلك، إضافة إلى التناقض المهم بين الفهم الاجتماعي للرؤية الثورية ومفهوم البطل الفردي حيث يبقى أسير الأيديولوجية الفكرية. فالمادية الديالكتيكية تحضر بالأفكار الفلسفية عند أغلب أبطاله ومرشديهم، مما يحجَّم من تلقائية العمل الإبداعي وربما يطيح بتسلسل نماء الشخصية الطبيعي. ذلك أن وحدة مبادئ التصورات الأيديولوجية عند المؤلف والموقف الفكري للبطل من المفترض أن يتم الكشف عنها في العمل الأدبي نفسه، بوصفها نبرة خاصة بمعاناة البطل وأحاديثه، أكثر مما هي ناطقة بوجهات نظر المؤلف، بمعنى أن تخلق مسافة ما بين موقف البطل وموقف المؤلف مرتبطة بحدود الوعي الطبيعي لكل منهما، لا أن يوضع قسراً في قالب نمطي معد سلفاً متمحور مع متطلبات حراك ما. ولربما كان الأمر استجابة للمنهجية التعليمية السائدة في المعترك الفني إبان تلك الحقبة من الزمن.
تأخذ شخصية المرأة جانباً مهما لدى الروائي الكبير، إذ يختزلها بنموذجين فقط هما: المرأة العاهرة المشتهاة الواضحة والصريحة، ونموذج الأم الباردة العفيفة، التي لا علاقة لها بالأنوثة ولا بالجنس. هذا الفصل التعسفي بين النموذجين قد يجد له تفسيراً أخلاقياً، يتعلق بترجيح العقلية الذكورية التي تحكم المجتمع الواقعي بالازدواجية الشرقية التقليدية، حيث تكون الزوجة معادلة للملكية الفردية للرجل، وبالتالي تكون مصانة بفعل تقعيدي لذاتها أولاً، ومن قبل المجتمع كذلك. وأما الأخرى فتبدو مرغوبة جسدياً ومرفوضة اجتماعياً، لذا تبقى خارج الفعل الحقيقي لحياة تلقي بظلالها القاتمة على جميع أفراد المجتمع، رغم أنها -أي المرأة- هي المؤهلة للثورة على واقعها بحكم وطأة الاضطهاد المزدوج عليها.
تتميز أعمال مينه بحركية نابضة بإيقاع تناغمي يميز علاقته بالموسيقى التي تبين واضحة من خلال موروثه الديني، عبر تراتيل الكنيسة الابتهالية، بصلاة مضمرة بأمل مرتقب بالإنسان الفكرة والمعنى، مستعيراً أحياناً من فولكلور الشعوب عبر رقصة الخنجر الشركسية في رواية «الشمس في يوم غائم» لإيقاظ الطاقة الخلاقة لهذه الأرض، المسكونة بالظلم والخوف والنسيان، مروراً بعازفة الكمان وهي تدوزن أوتاره، على وقع نبض أحاسيسها في روايـة «مأساة ديمتريو».
في خريطة اتجاهات الراوية العربية وإرهاصاتها الجديدة، سيبدو حنا مينه محافظاً في نظرته الاجتماعية رغم تبنيه للأفكار الثورية، التي يبحر في متنها في أغلب أعماله الروائية، بروح بحار عتيق، يعشق المغامرة والجنوح، ليأخذ هيامه بالبحر جانباً كبيراً من اهتمامه الأدبي، لينتقل من الصراع الاجتماعي وصراع الطبقات، إلى مقارعة الطبيعة والأنواء بفنية عالية وحس فطري متصاعد، لركوب الخطر والتوغل باللجة، لاكتناه أسرار المجهول الأزرق، مع إقراره بأن هذا العالم العائم أكبر من أن يحاط به. فمن الجنون إلى العمق إلى الاتساع، ومن الصفاء إلى الثوران، ومن الهدوء إلى الهدير، نعيشه معه صورة لروح أديبنا المتوثبة وضجيج أعماقه القلقة. .فهل يهدأ البحار... هل يترجل الفارس؟