إدلب من المعركة إلى الاتفاق: المصالح والمخاوف والتداعيات

إدلب من المعركة إلى الاتفاق: المصالح والمخاوف والتداعيات

تحليل وآراء

السبت، ٦ أكتوبر ٢٠١٨

شهد شهر أيلول/سبتمبر تركيزاً كبيراً على إدلب، فكانت المحور الذي دارت حوله معظم المنشورات الصادرة عن مراكز الأبحاث الغربية، قبل الاتفاق الروسي التركي بشأنها في السابع عشر من الشهر الماضي، وبعده.
وكانت كذلك باباً عَمِدَ من خلاله الباحثون والكتاب –خصوصاً الأمريكيون– إلى توجيه رسائل إلى إدارتهم وأتباعها، وربما إلى الحكومة السورية ومعها حليفها الروسي.
خشيت مراكز الأبحاث هجوماً عسكرياً ضخماً يشنُّه الجيش العربي السوري لتحرير إدلب، المحافظة والمدينة، ينهي عبره آخر جيوب المسلحين الكبرى في البلاد، وبالتالي يقضي على آمال وتطلعات ومصالحَ كثيرةٍ لأمريكا وتركيا أولاً، ولدولٍ عدة راهنت يوماً على هؤلاء المسلحين.
وعليه، حاولت مقالات عديدة توجيه رسائل مبطنة لدمشق، ولموسكو من ورائها، من قبيل أن هجوماً على إدلب قد ينجح عسكرياً لكنه لن يحمل إلا الآثار السلبية على الصعيد الدبلوماسي، فهو سيثير غضب تركيا، أو يدفع أمريكا للرد، أو يسهم في زيادة التوتر وعدم الاستقرار على المدى البعيد، وحتى يدفع الإرهاب إلى الظهور من جديد، وكأن التنظيمات في إدلب ليست إرهابية على الإطلاق.
لا تريد دمشق مزيداً من المعارك، ولن تخوضها إلا إذا كانت الخيار الأخير، هذا ما أثبتته كل مراحل الأزمة، وما يُثبَت اليوم في إدلب أيضاً. لكنها تعلم كذلك أن الجاهزية التامة للحرب هي أولى خطوات الوصول إلى اتفاق. ومن هنا كان الحشد العسكري السوري، والروسي بالتوازي، والذي خلق قلقاً وخوفاً، دفع كل الأطراف المعادية لسورية إلى التفكير ملياً، ودفع تركيا المحاصرة في إدلب، والمعرضة لمخاطر استثنائية هناك، إلى الدفع نحو اتفاق.
ظهرت البراغماتية التركية جلية في هذا الاتفاق، إذ استبقت الجميع، أمريكا، إسرائيل، وحتى المسلحين أنفسهم، على الرغم من المسؤوليات الكبيرة التي يحمّلها إياها الاتفاق فيما يتعلق بموضوع نزع سلاح حلفائها والقضاء على المرتبط منهم بالقاعدة. كما ظهرت أيضاً الحرفة السياسية الروسية، التي قطعت بواسطة هذا الاتفاق الطريق على أي تقارب تركي-أمريكي قد ينتج عن عملية عسكرية في إدلب.
لقد غيّر الدور الروسي في سورية موازين القوى الدولية، بالكامل ربما، وقلب بالتالي المعادلات الأمريكية رأساً على عقب. إذ لم تعد الولايات المتحدة هي الحليف الأوحد القادر، ولم تعد الخيار الذي يريده الجميع، وبالتالي إذا لم تستطع ضمان مصالح من تريدهم حلفاء، سيذهبون، دون تردد، إلى روسيا الفاعل القديم/الجديد والمتجدد.
في مقابل هذا “النجاح الروسي”، إن جاز التعبير، الإدارة الأمريكية في سورية في مأزق حقيقي، إذ لا يسمح لها وضعها الحالي بتحقيق أيٍّ من مصالحها، الحقيقية أو المزعومة، ويضعها في معضلة استراتيجية، لا تتوقف على مكانتها في سورية أو المنطقة، بل تنسحب بالقياس إلى مكانتها العالمية السياسية، والاقتصادية حتى. فالانسحاب من سورية هزيمة اقتصادية وجيوسياسية، وإذا كانت الولايات المتحدة قادرة على تجاوز خسائر كهذه، إلا أن ثقة حلفائها بها في المنطقة لن تعود إلى ما كانت عليه في السابق مطلقاً.
من جهة ثانية، الحفاظ على المستوى الحالي من التواجد لا يبدو مجدياً، إذ لم تحقق أمريكا منذ بَدَأ تدخلها في سورية أي نجاح يذكر على أي مستوى، سياسياً كان أم ميدانياً. وحتى “النصر” الذي تحاول التغني به دائماً على تنظيم “داعش” بوساطة حلفائها الكرد، لم يزد الأوضاع إلا تعقيداً، ولم يقنع مراكز الأبحاث الأمريكية، التي ما تزال ترى في التنظيم القدرة على إعادة الانبعاث عبر ديناميات جديدة وبتمظهرات ربما لن تكون أقل خطورة من “خلافته” المنتهية.
آما آخر الخيارات، فهو زيادة الجهد العسكري الأمريكي وتوسيع نطاقه، والذي يطالب به باحثون غربيون عدّة، وهو أكثر الحلول تطرفاً، وأقلها وضوحاً في النتائج المحتملة، خاصة أنه لم يحمل إيجابيات كثيرة في التجارب السابقة من أفغانستان حتى العراق، ولن يساهم حتى في تعزيز مواقع حليفيها الرئيسين في المنطقة (الأتراك والكرد)، خاصة وأنهما على عداءٍ كبير، متجذر وطويل الأمد.
في الغالب، لن تستطيع الولايات المتحدة إيجاد حلٍّ للموضوع التركي الكردي، وهي التي لم يُعرف عنها يوماً التوفيق بين مصالح حلفائها، دون أن يكونوا في الأصل أعداء ومتناحرين ولا يجمع بينهما إلا قاسم مشترك واحد هو الفشل في حكم المناطق التي انتزعوها عنوة في سورية، والتي أصبحت عرضة لأزمات اجتماعية وانهيارات أمنية، تتهدد الشمال السوري، وما بعده.
تعلو ما بين النخب الفكرية السياسية الأمريكية أصوات كثيرة تطالب الولايات المتحدة تغيير استراتيجيتها حيال سورية، لتتلاءم مع التغيرات الجذرية في الوضع السوري السياسي الدبلوماسي والعسكري الميداني. وبتنا نقرأ مصطلحات غابت مطولاً عن أوراق السياسات البحثية الأمريكية من قبيل “الاعتراف بفشل التنظيمات المسلحة”، “التعامل مع عزم الحكومة استعادة كل شبر”. وكلمة “إجبار” مثلاً، التي تحولت منذ مدة إلى “ضغطٍ” أو “دفع”، تحولت اليوم إلى “إقناع” أو “الطلب من” خاصة حيال سورية وروسيا، مع حفاظهم على مستوى معين من العدائية تجاه إيران ووجودها ودورها في سورية.
قد تلجأ الولايات المتحدة إلى ضربات عسكرية، خاصة وأنها توحي للمسلحين دائماً بفبركة “تمثيلية أسلحة كيماوية” جديدة، عبر تصريحات لكبار مسؤوليها بأنها لن تتوانى عن الرد على استخدام الحكومة السورية للكيماوي “مرة أخرى”. وهنا يجوز التساؤل: هل استطاعت تركيا أن تسبق أمريكا إلى الاقتناع بأن التنظيمات المسلحة لم تعد قادرة على تغيير مسار الحرب، وبدأت بالعمل انطلاقاً من ذلك؟ وكم من الوقت ستحتاج واشنطن لتصل إلى هذه القناعة، وما الذي ستجنيه، وما الذي ستخسره في طريقها إلى ذلك، خاصة وأن كل الفواعل الأخرى تنشط لتحقيق أهدافها، ويحقق بعضها نتائج إيجابية، والمثال الأبرز هنا هو روسيا، فهي تريد، لتحقيق أهدافها، وقف الحرب واستعادة، أو ربما تحسين، مكانة سورية دولياً، وأن تحصل دمشق بالتالي على الدعم اللازم لإعادة الإعمار، ولا يبدو أبداً أن ما تريده موسكو بعيد المنال.
يغطي عدد أيلول/سبتمبر من تقرير «سورية في عيون مراكز الدراسات العالمية» أهم ما أصدرته هذه المراكز في تصديها للشأن السوري، وينقسم إلى المحاور الخمسة السياسية الآتية:
المحور الأول: تغطي مقالاته القلق الذي ساد مراكز الأبحاث نتيجة الخشية من حملة سورية لتحرير محافظة إدلب، مدعومة من القوات الجوية والبحرية الروسية، التهديدات الغربية، والتداعيات المحتملة الإقليمية والدولية.
المحور الثاني: يتناول ما نشر حول الاتفاق الروسي-التركي حول إدلب، مفاعيله، وتداعياته، إمكانيات فشله، وتأثيرات نجاحه.
المحور الثالث: يعرض نموذجاً عما يُنشر من أوراق بحثية تطالب الولايات المتحدة بتغيير سياستها واستراتيجيتها في سورية، آخذة بالحسبان التبدلات الجذرية التي طرأت على الحدث السوري.
المحور الرابع: يتصدى لقضية الفشل الإداري الكردي في دير الزور، والتركي في المناطق التي تحتلها شمال سورية، وما يحمله هذا الفشل من مخاطر اجتماعية وأمنية لن يكون مداها المكاني أو الزماني محدوداً.
أما المحور الأخير: فيقتصر على دراسة عن تنظيم “داعش” تقارن بين وضعه اليوم ووضعه عام 2008، وما هي السيناريوهات والديناميات التي يمكن من خلالها أن يعيد التنظيم إحياء نفسه.
مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات