احتجاجات فرنسا: ماكرون ومتلازمة ماري أنطوانيت!.. بقلم: عثمان تزغارت

احتجاجات فرنسا: ماكرون ومتلازمة ماري أنطوانيت!.. بقلم: عثمان تزغارت

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٢ ديسمبر ٢٠١٨

من أفدح الأخطاء التي يقع فيها الحُكّام، حين يقفون في مواجهة حركات ذات طابع احتجاجي، العجز عن التمييز بين قواعد السياسة والميكانيكا. في علم الميكانيكا، إذا ارتكبتَ خطأً في قيادة سيارتك، وسبَّب ذلك حادثاً أو عطباً ما، يكفي أن تشخِّص الأضرار، وتعويض قطع الغيار التي أُتلفت، لينطلق المحرك مجدداً، كأنّ شيئاً لم يكن. أما في السياسة، التي هي فن المستحيل (لا الممكن)، فإن من الوهم الاعتقاد بإمكانية إعادة الأمور إلى سابق وضعها، بمجرد معالجة العوامل أو المسبّبات الأصلية التي أشعلت فتيل أزمة ما، أو إلغائها.

حين ينفلت المارد الاحتجاجي من قمقمه، تستعصي العودة إلى الوراء، لأن كرة الثلج المطلبية تتغذى، مع محطة احتجاجية جديدة، بمؤثرات وعوارض شتّى تجعل السبيل الوحيد لتهدئة الأوضاع والخروج من أتون الأزمة منح المحتجين أفقاً مستقبلياً مقنعاً يتضمن رؤية ومنهجاً سياسيين بديلين، عوض تضييع الوقت وإهدار الفرص في محاولة استرضاء مختلف الأفرقاء بالتنازلات والإغراءات التي لا يتجاوز مداها مفعول التخدير الموضعي والمؤقت.
المعضلة التي يتخبط فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مواجهة حراك «السترات الصفراء»، لا تقتصر فقط على تفاعله مع الأحداث بمنطق الميكانيكي لا رجل الدولة. لم يعجز الرئيس الشاب عن تقديم رؤية سياسية بديلة فحسب، بل أخفق في تشخيص مسبِّبات الأزمة وفهم طبيعة الحراك الاحتجاجي الذي ترفع «السترات الصفراء» لواءها.
بعد ثلاثة أسابيع من التعالي والمكابرة، تشبّث ماكرون خلالها بموقفه الدوغمائي الرافض لـ«تفكيك كل ما نسجناه خلال عام ونصف عام من الإصلاحات»، شرع تدريجاً في سلسلة غريبة من الخطوات التنازلية التي كانَ سمتَها الأساسية التخبط والارتجال. رئيس الحكومة، إدوار فيليب، اكتفى بقرار بالتجميد المؤقت لضريبة الوقود، لمدة ستة أشهر، وخاض من أجل ذلك معركة شاقة وسريالية في البرلمان انتهت بحصوله على تصويت الغالبية المطلقة من أصوات النواب المؤيدين للسياسات الماكرونية، في اقتراع غريب من نوعه أُريد له أن يكون تزكية برلمانية جديدة لبرنامج الحكومة، في الوقت الذي كانت فيه البلاد تغلي بالاحتجاجات! لكن المفاجآت العبثية لم تتوقف عند حدود تلك التزكية الغريبة، فبعد أقل من ساعة على الاقتراع، فوجئ الجميع ببيان لقصر الإيليزيه، عُدّ صفعة للحكومة ونواب الأغلبية، إذ اتخذ ماكرون قراراً أحادياً بإلغاء ضريبة الوقود نهائياً!
«طغمة التكنوقراط» الشباب المحيطة بنزيل الإليزيه اعتقدت أن ذلك القرار المفاجئ والمهين لرئيس حكومته وللغالبية البرلمانية المؤيدة له سيكون له «وقع القطيعة» لدى الرأي العام، بما من شأنه أن يضع الرئيس (مجدداً) في موقع «المرجعية» التي تمتلك مفاتيح حل الأزمة. لكن النتيجة كانت عكسية تماماً، فقد تصاعد الاحتقان، وشهدت البلاد سَبتاً رابعاً من الاحتجاجات والمواجهات العنيفة.
اتجهت الأنظار بعد ذلك إلى خطاب ماكرون الموعود، أملاً بأن يكون قد استوعب دروس الفرص المهدرة على مدى أربعة أسابيع من الاحتجاجات التي وضعت فرنسا على شفا حفرة من الانفلات الأمني والسياسي الشامل. لكن حزمة الوعود والحوافز المالية التي أعلنها ماكرون في خطابه لم تسقط ورقة التوت فقط عن عجزه كرجل دولة عن معالجة الأزمة وتجاوزها، بل عرّت قصوره في التشخيص والفهم لميكانيكا الحراك الاحتجاجي الذي أسّست له «السترات الصفراء».
بدا الرئيس الفرنسي في خطابه مصاباً بلوثة أشبه بـ«متلازمة ماري أنطوانيت». فتشخيصه للأزمة أعاد إلى الأذهان تلك الحادثة الفاقعة التي كانت «بطلتها» آخر ملكات فرنسا، يوم أطلّت من شرفة قصرها، وقد بلغت مسامعها هتافات الثوار، لتسأل مستشاريها عما يريده هؤلاء، وحين قيل لها إنهم يشتكون من أنْ ليس لديهم خبز، قالت متعجبة: إذا لم يجدوا خبزاً، فلماذا لا يأكلون «البريوش» (صنف من الكاتو الذي يشبه الخبز)!
انتفض أصحاب «السترات الصفراء» للمطالبة بتوزيع أكثر إنصافاً للأعباء الضريبية، شاجبين إلغاء الحكومة لضريبة الثراء، وإعدادها خطة من الإعفاءات ستمنح بموجبها ما لا يقل عن 40 مليار يورو لأرباب العمل خلال سنة 2019 وحدها، في الوقت الذي يشهد فيه ثلاثة أرباع الفرنسيين، من ذوي الدخل البسيط والمتوسط، إثقال عاتقهم بزيادات ضريبية تفوق ثلاثين في المئة.
لنزع تفعيل هذه الأزمة، كان ماكرون مطالباً بأن يثبت أنه قادر على دحض الصورة التي تكرست عنه، خلال الأشهر الثمانية عشر الأخيرة، بوصفه «رئيس الأثرياء». لكن إجراءات التهدئة (الباهتة والمخادعة) التي أعلنها، برهنت أن «جيناته السياسية» تمنعه من اتخاذ أي خطوة من شأنها الاصطدام بمصالح الأوساط المالية المهيمنة. فرفع الحد الأدنى من الأجور بمئة يورو «لا يجب أن يكلف أرباب العمل فلساً واحد»، كما قال، وعلاوة نهاية السنة، التي قررت الحكومة إعفاءها من الضريبة والأداءات الاجتماعية، لا يمكن فرضها بشكل إلزامي على أصحاب الشركات، بل «يُنصح بها القادرون منهم فقط»!
على النقيض تماماً من التوزيع المنصف للأعباء الضريبية الذي يطالب به حراك «السترات الصفراء»، اختار ماكرون إلقاء تكلفة الاجراءات التحفيزية التي اتخذها بالكامل على عاتق الخزينة العمومية، صاماً أذنيه عن تحذيرات خبراء الاقتصاد، بمن فيهم أكثرهم ليبرالية، من مغبة شراء السلم الاجتماعي عبر الإفراط في الإنفاق العمومي، لأن ذلك سيؤدي إلى تفاقم الدَّين العام، وبالتالي الاضطرار حتماً إلى رفع الضرائب مجدداً بعد عام أو عامين.
خبراء الاقتصاد قدموا مقترحاً بتسديد نفقات إجراءات التهدئة الماكرونية (قرابة 12 مليار يورو) عبر تعديل طفيف في برنامج الإعفاءات الضريبية المقررة لعام 2019، بحيث لا تشمل الشركات الكبرى التي تحقق أرباحاً سنوية تفوق مليون يورو، وهو ما سيسمح للحكومة بتوفير نحو 10 مليارات من الـ40 مليار يورو من الهدايا الضريبية التي تقرر منحها لأرباب العمل. عجز ماكرون عن اتخاذ مثل هذه الخطوة، بالرغم من التأييد الذي تحظى به حتى في الأوساط الليبرالية، ورفضه الدوغمائي لإعادة العمل بضريبة الثراء، يثبتان أنه لا يتصرف كـ«رئيس للأثرياء» فحسب، بل كمندوب للأوساط المالية المهيمنة في قصر الإيليزيه!
اللافت أن إجراءات ماكرون «الميكانيكية» لم تعجز فقط عن احتواء الحراك الاحتجاجي، بل أفرزت تصعيداً كبيراً في نبرة أحزاب المعارضة. ولم يقتصر الأمر فقط على «أحزاب الأطراف» (اليسار الراديكالي واليمين المتطرف) المؤيدة للحراك منذ بدايته، والتي دعت إلى سبت خامس من الاحتجاجات، بل شمل ذلك أيضاً الأحزاب التقليدية (اليمين الديغولي واليسار الاشتراكي)، التي كانت تتعامل حتى الآن بكثير من الريبة والتحفظ مع حراك «السترات الصفراء». فقد صعّد «الجمهوريون»، ولا سيما أقطاب الساركوزية، من نبرة انتقاداتهم للأداء الماكروني، معتبرين أنه «لا يرقى إلى مستوى الأحداث والخطورة القصوى للأوضاع». ومن جهته، قرّر الحزب الاشتراكي، بعد طول تردد، الانضمام إلى عريضة الرقابة البرلمانية التي تقدم بها حزب «فرنسا المتمردة» والحزب الشيوعي، بهدف إسقاط الحكومة.
وبالرغم من أن موازين القوى الحالية في البرلمان الفرنسي لا تمنح فرصاً فعلية لإسقاط الحكومة، إلا أن عريضة الرقابة هذه، التي ستناقش غداً الخميس، ستبرز حجم الإجماع السياسي المعارض لماكرون. كذلك فإنها ستسلط الضوء على الخلافات الداخلية التي بدأت بالظهور في صفوف الائتلاف الماكروني، وذلك قبل 48 ساعة من يوم احتجاجي خامس سيضع البلاد عند مفترق طرق محفوف بكل المخاطر.