تنفيذ مخطط تصفية القضية الفلسطينية.. بقلم: عبد الجواد صالح

تنفيذ مخطط تصفية القضية الفلسطينية.. بقلم: عبد الجواد صالح

تحليل وآراء

الخميس، ٣ يناير ٢٠١٩

وافق الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على اشتراط شولتز الاستجابة الحرفية للصيغة التي طلبتها إدارة ريغان منه مقابل اشتراك «منظمة التحرير» في المفاوضات. فأعلن في مؤتمر في جنيف بتاريخ ١٤/١٢/١٩٨٨ النص المشترط عليه، وهو إدانته ورفضه الكفاح المسلح والتخلي عنه، ونبذ الإرهاب، وأن الرغبة في السلام استراتيجية وليست تكتيكاً ولن يتراجع عنها إطلاقاً، وقبول المنظمة القرارين 242 و338 أساساً للمفاوضات مع إسرائيل التي اعترف بحقها في الوجود، ثم إلغاء ميثاق المنظمة بكلمة فرنسية واحدة: «كادوك».
 
 
بدأت المفاوضات بين «منظمة التحرير الفلسطينية» وإسرائيل على أساس وثيقة «إعلان المبادئ» التي قدمتها الإدارة الأميركية كمرجعية للمفاوضات بين المنظمة وإسرائيل، وكانت التنازلات التي اشترطها شولتز مقدمة لسلسلة من التنازلات التي حولت المفاوضات إلى مهزلة. بدأ تنازل المفاوض الفلسطيني وقيادته السياسية عما هو دون مستوى مرجعية المفاوضات التي وضعتها حليفة إسرائيل في وثيقة «إعلان المبادئ». إذ تنازلت القيادة الفلسطينية عن مبدأ الولاية التي نصت عليها المادة الرابعة من الوثيقة التي اعترف بها الطرفان كمرجعية للمفاوضات، ونصها: «اعتبار الطرفين الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة مناطقية واحدة يجب المحافظة على وحدتها وسلامتها خلال الفترة الانتقالية».
التزاماً بالمادة الرابعة، رفض د. حيدر عبد الشافي، رئيس فريق المفاوضات في المرحلة العلنية، التنازل عن مبدأ الولاية عندما أصر على ضرورة التوقف عن بناء المستوطنات تحت مظلة المفاوضات، فهذا النشاط من شأنه تغيير الحقائق على الأرض ويتناقض مع الولاية التي نصت عليها المادة الرابعة. ولكن القيادة الفلسطينية ضربت عرض الحائط بموقف عبد الشافي، وقامت بالتفاوض من وراء ظهره في مفاوضات أوسلو السرية، بينما استمر الاستعمار الاستيطاني في نهب الأرض الفلسطينية تحت مظلة المفاوضات، حتى أصبح عدد المستوطنين أكثر من نصف مليون، معظمهم ملتزمون الأيديولوجية الصهيونية التي لا تؤمن بأي حق لشعب فلسطيني بالعيش على هذه الأرض.
واستطراداً لهذه التنازلات العبثية، غضت السلطة النظر عن المطالبة بانسحاب جيش الاحتلال من ٩٠٪ من منطقة «ج» بعد تولي المجلس التشريعي أعماله بثمانية عشر شهراً كما تنص «أوسلو»، إذ تشكل المنطقة «ج» 60% من الضفة الغربية، وهي التي تشكل الفضاء الزراعي، إضافة إلى كونها الرصيد لاحتياجات الأجيال المقبلة. ثم تُركت المنطقة بكليتها نهباً للمستوطنات التي مزقت الضفة إلى كانتونات محاصرة معدومة التواصل الجغرافي، بينما الكيان الصهيوني ماض بإجراءات غير مسبوقة تستهدف تهويد فلسطين من البحر إلى النهر، إذ يتولى مستعمروها منذ اليوم الأول ممارسة مناورات التطهير العرقي من حرق للعائلات، وغزو للقرى، وحرق لسيارات المواطنين، وتدمير لآلاف الدونمات من مزارع الزيتون والقمح من أجل حرمان الناس ضمان أمنهم الغذائي والأمني، بينما وقفت السلطة متفرجة كأن ما يجري ليس من مسؤولياتها لأنه يجري في بلاد الواق واق، ونسيت وعودها لشعبها بالسعي إلى نيل عضوية الأمم المتحدة عبر اللجوء إلى القضاء الدولي، دون أن تفعل حتى اللحظة.
وأدهى وأمر أنها تجاهلت وتنكرت لأهم وثيقتين أمميتين، أولاهما توصية محكمة العدل الدولية وثانيتهما تقرير ستون، وكلتاهما فضحت الكيان الصهيوني وإجراءاته التعسفية التي تدينه بجرائم حرب! وتصل تنازلات القيادة الفلسطينية الى حد التآمر باعترافها بمبدأ التبادلية، أي تبادل الأرض الفلسطينية المصادرة لمصلحة بناء المستوطنات التي بنيت على أرض القدس والوطن المحتل كافة بتبادلها بأراض في النقب، وبعض هذه الأراضي مستخدم كمكب للنفايات الذرية! ولا تتغاضى هذه القيادة عن أخطار المستوطنات فحسب، بل تتنكر لعشرات قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدينها كجرائم حرب، ولذلك تطالب بعض هذه القرارات بتفكيكها وإزالتها من الوجود، لتأتي هذه القيادة الفلسطينية وتمنحها الشرعية!
إنّ الطامة الكبرى آتية لا مفر منها بعد هذا الانحراف عن الأهداف الوطنية، إذ كان من المفترض بمقتضى «إعلان المبادئ» عند نهاية السنة الثانية وقبل بداية الثالثة من المرحلة الانتقالية التفاوض حول قضايا المرحلة النهائية كما تنص المادة «الخامسة» من الوثيقة وعلى رأسها قضايا القدس، اللاجئين، المستوطنات، المياه والحدود. لكن المفاوضات حول هذه القضايا، لم تجْر. وقد قررت شخصياً بصفتي عضواً في المجلس التشريعي الأول، قبل نهاية السنة الثانية من المرحلة الانتقالية، وهو الوقت الذي كان يجب فيه بحث قضايا المرحلة لنهائية حسب «إعلان المبادئ»، تقديم مشاريع قوانين تغطي وجهة نظري وأمل الشعب الفلسطيني بشأن جميع قضايا المرحلة النهائية، وكان هدفي التعرف الى توجهات هذه القيادة وكشف حقيقة تواطئها، فبادرت إلى تقديم أول مشروع قانون عن أول قضية من قضايا المرحلة النهائية وهي القدس عاصمة فلسطين، ولكن رئيس المجلس السيد أحمد قريع رفض مشروع القانون الذي قدمته، ما زاد شكي وخوفي.
ثم فوجئت بطلب رئيس المجلس تمديد فترة «التشريعي» الأول عند نهاية المرحلة الانتقالية عام 1999، وجن جنوني عندما لم يربط الرئيس طلب التمديد بقضايا المرحلة النهائية، فطلبت نقطة نظام وخاطبت أعضاء المجلس: أيعقل أيها الإخوة والأخوات أن يمدد لـ«التشريعي» دون ربط عملية التمديد بقضايا المرحلة النهائية التي كان يجب إنهاء التفاوض عليها قبل أن نمدد «التشريعي». فإن فعلتم ذلك، أيها الإخوة والأخوات، فإنكم شركاء في الجريمة، وترتكبونها خدمة لنتنياهو، مجاناً!
وفجأة صرخ صوت: أوقفوا الميكروفون «عنه». فقطعوه. نظرت باتجاه الصوت فإذا به أمين سر الرئاسة السيد الطيب عبد الرحيم، وهو ليس عضواً في المجلس! رجعت بنظري نحو رئيس المجلس واعترضت على الانصياع لأمر من هو غير عضو مجلس، واستطردت قائلاً: هل تريدون التنازل عن أهم قضايا الوطن، قضايا المرحلة النهائية وعلى رأسها القدس وحق العودة والاستيطان والحدود والمياه، كل ذلك لنتنياهو وبالمجان؟! القدس، التي تضم في القلب المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله ومسجد الصخرة التي صعد محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء منها، القدس التي تضم بين جناحيها كنيسة القيامة، وجميع هذه المقدسات روح الأمة وهويتها ووحدتها القومية، نلقي بها في الهاوية؟ ماذا يقول شعبكم الذي اختار الخيمة ورفض التوطين حتى يضمن العودة إلى مدنه وقراه؟ وماذا أنتم فاعلون عندما تتنازلون عن أرضكم للاستيطان، فهل نسيتم عملية التطهير العرقي لشعبنا عام 1948؟
أستحلفكم بالله والوطن أيها الإخوة والأخوات تأجيل هذا الاجتماع إلى الغد، لمنح المجلس فرصة البحث مطولاً وبالتفصيل لأبعاد هذا الموقف الخطير الذي من شأنه تصفية القضية. أما خيارنا الثاني، اليتيم، فعلينا أن نعلن نهاية المرحلة الانتقالية، ونعلن باسم سيادة الشعب العربي الفلسطيني بدء معركة التحرر من الاحتلال.
ولكن، لم يخرج من لم يرضع الشجاعة من حليب أمه، حتى من بين من ادّعى المعارضة فينطق بكلمة يتيمة واحدة: أثَنُّي! لَأنْقذَ القضية من الانزلاق في ما هي فيه اليوم! وعاد رئيس المجلس التشريعي ليقدم قانون القدس الذي رفضه سابقاً بعدما وجد مخرجاً لإمراره في وثيقة جرى التفاوض عليها سرّاً بخصوص قضايا المرحلة النهائية تُعرف بوثيقة أبو مازن ــــ بيلين، إذ توصلا إلى حل تصبح بموجبه «القدس الغربية والشرقية» عاصمة للكيان الصهيوني! واتفقا على تسمية المدينة باسمين، أولاهما «يروشولايم» اسم عاصمة الكيان الصهيوني، وباللاتينية Jerusalem. أما التسمية الثانية، فهي بالعربية القدس، وباللاتينية Al Quds وهذا اسم العاصمة الفلسطينية، ولكن هذه العاصمة الفلسطينية ليس لها علاقة بالقدس الشرقية التي تحوي كنوز التراث الإسلامي والمسيحي العربيين!
ولإخراج وإمرار حلهما، ضمّ الثنائي عباس وبيلين أبو ديس والعيزرية إلى «يروشولايم»، ثم قسمت «يروشولايم» وخرجت منها العيزرية وأبو ديس بفعل الساحرين ليصبح اسمهما القدس، لكن دون أقصاها وصخرتها وقيامتها. وهنا يلحّ سؤال خطر على بال عالم بما يدور حوله: لماذا وكيف خطر على بال السيد محمود عباس نقل مسؤولية الأماكن المقدسة في القدس من مسؤولية الدولة الأردنية كدولة وحكومة إلى العائلة الهاشمية ممثلة بالملك عبد الله الثاني؟ولتوكيد هذا الخذلان حول القدس، سبق أن غضت السلطة الطرف عن طرد مؤسسات فلسطينية معظمها لم تعرف المنظمة بتأسيسها أو بمن يديرها، وهي مؤسسات مقاتلة في سبيل الدفاع عن القدس والصامدين دفاعاً عنها وعن فلسطين، فلم تبذل الجهود المطلوبة لإبقاء هذه المؤسسات في القدس، استناداً إلى القانون الدولي الذي يفرض على السلطة المحتلة التعامل مع الأفراد والمؤسسات الواقعة تحت إدارتها وفق ما يمليه هذا القانون الدولي.
ومؤشر آخر حول ذلك البؤس إعلان عباس، وهو رئيس «منظمة التحرير»، قراره الشخصي برفض حقه بالعودة إلى بلدته صفد التي هُجر وأهله منها بالقوة، وهو موقف ينسجم مع ما نصت عليه وثيقته المشتركة مع بيلين. وللتاريخ أيضاً، فعندما عُين عباس رئيساً للوزراء، عرضَ عليَّ الوزارة في حكومته، فسألته ما برنامجك؟ ـــ المفاوضات. أجاب! فسألته: هل لديك اقتناع بأن الارتكاز على التفاوض سيحرر شبراً من أرض فلسطين؟ فأجاب بنعم. فقلت له: إذا أعطاك شارون شبراً من الأرض بواسطة المفاوضات وحدها، فسأعطيك روحي! لن يحدث هذا دون أن تصبح غاندي الفلسطيني وتعمل على تعبئة مئات الآلاف من الرجال والنساء، عائلات مع أطفالها، تسير كموج البحر، عراة الصدور، موجة إثر موجة لفتح القدس، حتى يكل الجندي الصهيوني من القتل. وعندها لديّ الاستعداد لأكون معك جندياً، كتفي بكتفك في وزارتك، رغم أنني أتفق مع القانون الدولي الذي يقر مقاومة الاحتلال وأي ظلم أو ظالم بكل الوسائل التي يمتلكها الإنسان، بما فيها الكفاح المسلح. ولكنني معك، الآن في النضال السياسي، وتعبئة كتل شعبية. لقد حقق العمل التطوعي تحرير جبال بيت دقو من خطر البيع لليهود أكثر ما حققته نوعية الكفاح المسلح الذي مارستموه! وتبين لي أنه غير مقتنع واقعاً وحقيقة بالكفاح السياسي كما خاضه غاندي، وكما خضته بنفسي.
قال لي: إنك تحمّلني عبئاً فوق طاقتي لا أستطيع حمله. فقلت له، ولكن كيف يمكن أن تحقق المشروع الوطني الفلسطيني، مشروع «فتح» الوطني! ماذا ستفعل إذاً؟ فردّ: سأفاوض. فافترقنا. والشيء بالشيء يذكر، فعندما كنا أعضاء في «اللجنة التنفيذية»، وبعد مؤتمر بغداد الذي تقرر فيه رصد موازنة لدعم صمود الشعب العربي الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، بإدارة «منظمة التحرير» والأردن، إذ ترأس عباس رئاسة لجنة المنظمة وكنت أحد أعضائها. وقفت ضد الفريقين في وجهات النظر في أول لقاء مشترك، حول مرجعية الداخل! إذ اقترح الأردن، الذي كان يترأس وفدها رجل مخابرات من أصل فلسطيني، منح صلاحيات تحديد المستفيدين وأهداف الاستثمار لموظفي الحكومة الأردنية الذين أصبحوا موظفين لدى الحكم العسكري الصهيوني ويأتمرون بأمره، فعارضت ذلك واقترحت أن يكون رؤساء البلديات المنتخبون مباشرة من الشعب هم أصحاب القرار وأي مشاريع للتنمية والصمود.
أما منح الموظفين هذا الدور، فكأنكم تمنحونه للحكام العسكريين الصهاينة أصحاب الدور الذي يستهدف إفقار الناس ليهاجروا من قراهم ومدنهم. وأما التوجه إلى «رش» المبالغ في الداخل، بغض النظر عن وجهة استثمارها، فإنها ستكون أداة تخريب نفسية ومالية للإنسان الفلسطيني، لا أداة للدعم وللصمود. وكانت عملياً وفعلياً أداة تخريب وإفساد! وعند رجوعنا، ذهب السيد عباس إلى الرئيس الراحل وطلب منه إعفائي من عضوية اللجنة الفلسطينية وأكد طلبه: أنا أو عبد الجواد صالح، فنال ما أراد. وتم تنفيذ سياسة «رشّ» المال وتحقق معه الفساد والإفساد وتساوى العميل والمناضل والفقير والغني. حزنت لمصير الصمود أن غياب حياة برلمانية في إطار «منظمة التحرير» يفقدها أداة الردع والتوازن. وتحقق تخوفي من نشر الفساد وتبديد مال الناس التي تقاتل بصدورها العارية!
والمعضلة أن المنظمة لم تقم بعملية تقويم حتى يستفاد من مثل هذه التجربة، ولعل الغاية من هذه الممارسات هي الوصول إلى المرحلة التي نعيشها اليوم. كانت معركتي في الأيام الأولى للمجلس التشريعي، بالتعاون مع مجموعة من أعضاء «فتح»؛ على رأسها أبو علي شاهين، العمل على صياغة دستور لخدمة المرحلة الانتقالية سمي القانون الأساسي، فقد قاتلنا ونجحنا في تبني نظام برلماني، لكننا فشلنا في تأسيس منصب رئيس وزراء اقترحته شخصياً، بينما نجح الضغط الأميركي في ما بعد.
وللتاريخ، عندما تسلم أبو مازن رئاسة الوزراء طلبت شخصياً من الرئيس الراحل إصدار قرار من المجلس المركزي ضد اتفاق أبو مازن ـــ بيلين لتوكيد أن المنظمة لا تعترف بهذا الاتفاق الذي أطاح أهم الثوابت الفلسطينية، فرفض اقتراحي. وجاء الرئيس الأميركي ليلبس ثوب السيد عباس كما في مصالحة الدم الفلسطينية، لإمرار كل التنازلات التي قدمتها السلطة، قبل ظهور هذا الرئيس، على حساب القضية ومصير الشعب: القدس، وحق عودة اللاجئين، والمستوطنات، وبقية قضايا الحل النهائي، التي مسخت الأهم منها الواحدة تلو الأخرى في وثيقته أبو مازن ـــ بيلين.
إن تنازلات القيادة الفلسطينية الخطيرة، التي تتعدى الوضع الجنائي، افتخر كبير مفاوضي هذه القيادة بتبجح التنازل عن أهمها عند منح الكيان الصهيوني أكبر «يروشلايم» لم يحلم بها، كما جاء في وثائق فضائية «الجزيرة»! لقد أضاعت هذه القيادة ربع قرن من حياة الشعب وحلمه بمفاوضات عبثية انتهت بتفريغ جهود الأجهزة الأمنية الفلسطينية لخدمة أمن الاستيطان على حساب صمود الشعب الفلسطيني. ودمّر عباس النظام الديموقراطي الفلسطيني، ومؤسساته ذات الطبيعة السيادية، وعلى رأس ذلك نسف الدستور، وهو القانون الأساس الناظم لحياة المجتمع والمحدد لحقوق المواطن وواجباته، ثم شطب الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ثم احتلّ كرسي الرئاسة عنوة دون شرعية دستورية، ثم جمّد المجلس التشريعي بهدف تدمير السلطة التشريعية، وحرمان الشعب دور المجلس الرقابي على السلطة التنفيذية، وإلغاء دوره التخطيطي والتنموي للمال العام والاقتصاد الوطني، وتغييب تطوير الموارد البشرية من خلال الإشراف على الموازنة العامة والتصديق عليها، وحل محل هذا النظام الديموقراطي نظام بوليسي ديكتاتوري!
أما الاحتلال ومستوطنوه، فراكموا يومياً مناورات حيّة للتطهير العرقي للشعب الفلسطيني. ولزيادة تعقيد المعقد يُنشر خبر إشكالي الهدف مفاده أن رد فعل رئيس السلطة على مبادرة السلام الأميركية سيتوقف على مدى قدرته على تحقيق الربح الشخصي منها. فهو في الثالثة والثمانين من العمر، مريض، وأيامه في الحكم اقتربت من النهاية، إذ تتمحور قراراته وتسيطر على أفكاره مسألة تراثه الذي سيخلّفه من وراءه. والأهم ما سيحدث لعائلته في اليوم الذي يتولى خليفته مكانه في المقاطعة، وأنّ همه حول مستقبل عائلته أكثر من قلقه على السلطة الفلسطينية ومستقبلها، وخاصة على مستقبل ولديه، ياسر 56 عاماً وطارق 50 عاماً، رغم أن كليهما يدير تجارة واسعة في دول الخليج، من عقارات وشركات دعاية واستيراد سجائر. وقد انتشرت أخبار كثيرة حول حياة البذخ التي يعيشها الأبناء في السنوات الأخيرة، وأضحت محور نقاشات مشتعلة في وسائل الإعلام الاجتماعي والنقد الجماهيري في أوساط المجتمع الفلسطيني (20/7/2018).
وما أثار اهتمامي في الخبر هو اهتمام السيد عباس بـ«الإرث المعنوي» legacy الذي سيتركه لأولاده، ولا حاجة بالتذكير أنّ أهم إرث تركه ليس لأولاده فحسب بل للشعب الفلسطيني هو اتفاق أوسلو، وعلى رأس بنوده التنسيق الأمني الذي يقتصر على الطرف الفلسطيني لمصلحة الكيان الصهيوني، ومن تراثه أيضاً تدميره أول دستور في تاريخ الشعب العربي الفلسطيني، مدمراً معه الأمل في المستقبل. ولا يعني ذلك سوى الانقلاب ضد النظام الديموقراطي، ليحل محله نظام بوليسي ديكتاتوري! إذ عيّن عباس نفسه بنفسه، بعد انتهاء ولايته الدستودية رئيساً للسلطة على أنقاض ركام النظام السياسي الفلسطيني، ركام ما يدمره الاحتلال بعدما دمر بنفسه دور الشعب في المقاومة، وحرمه اختيار رئيسه وممثليه بواسطة انتخابات حرة ونزيهة.
ويُشهد له على المستوى التنفيذي أنه أصدر أوامره بالتصدي وضرب إخوتنا المسيحيين الذين اعترضوا سلمياً طريق البطريرك اليوناني لكنيسة المهد، بسبب بيعه حياً كاملاً هو من أحد أهم أحياء القدس لشركة صهيونية، وكان وقفاً تملكه الرعية المسيحية التي ثارت ضده. ولا أدري مدى صحة ما قيل بتناول السيد عباس في الليلة نفسها عشاءه على مائدة هذا السمسار الذي يساهم في تهويد مدينة القدس. يبدو أن عباس يخطط لتكريس مجلس مركزي من أصحاب الكروش، ميزتهم الوحيدة أنهم «أختام كاوتشوك»، بدلاً من «التشريعي» الذي يختار الناس عضوه بعد أن يكونوا قد خبروا معدنه، إذ يعزز «التشريعي» الحكم البرلماني، ويحقق التشريع الأقرب تعبيراً عن مصالح الناس. كما يمتلك «التشريعي» آليات عمل من شأنها تطوير الثروات الطبيعية والبشرية ينفذها من يمثل الشعب والخاضعون لتقويمه، وليس موظفين همهم خدمة أنفسهم. والأهم هو الدور الرقابي على السلطة التنفيذية من الرئيس إلى الوزير وصلاحية خلعهم. أما «المركزي»، فهو مجرد سوق عكاظ، ينتخب لجنة من المنتفعين، تخرج من الاجتماع وتصدر وثيقة بالقرارات التي يريدها الرئيس ولا ينفذ غير ما يريد. فمنذ كم سنة اتخذ قرار وقف التنسيق الأمني ولم ينفذ!
ليس أمام السيد عباس سوى فرصة واحدة تخلّد ذكراه إيجابياً، وتحرم الاحتلال تنفيذ حرب أهلية محسوبة، وتحمي الشعب من ويلاتها، وهي إصداره فوراً مرسوماً يقضي بتحديد موعد إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومحلية. فهذه الخطوة تمنح الشعب أولاً فسحة لترميم وإعادة تأهيل المجتمع لاسترداد روحه ودوره للتفكير في أمن الشعب الفلسطيني ومستقبله، وفي الوقت نفسه تُتيح للناس تقويم تجربة المفاوضات ونتائجها لتضع استراتيجية نهضوية للتحرر من الاحتلال. إنّ اتخاذ قرار إجراء الانتخابات الشاملة يمكن أن يتضمّن الخلاص للشعب، شريطة قيام قواه الوطنية الفعالة بتنظيم قائمة تشكل أكثرية أعضاء المجلس التشريعي لخوض الانتخابات كمجموعة تضمن القدرة على ضرورة التغيير وإحداثه كضرورة لتوحيد الشعب على برنامج مقاوم.
وعلى الناس الذين يريدون التغيير التحرك لتعبئة قيادة مؤهلة لإدارة دفة سفينة الشعب إلى شاطئ الأمان، ولإنقاذه من التدهور نحو هاوية لا خروج منها. إن أسباب فشل تحقيق الوحدة الوطنية منذ عشر سنوات لا تزيلها وسائل الإقناع المستخدمة التي لا تجدي نفعاً في نهاية الأمر إلا بالانتخابات لأن واسطتها الشعب وخاصة إذا ضمنت الشفافية. إن هذه الانتخابات المتوخاة، وأقولها بكل ثقة، ستبطل فعالية المستعمر، وستعمل على إبداع مناخات الصمود التي ستمنع وتحد من محاولات الترحيل من التنفيذ. وإن صفقة القرن، كحقيقة منفذة على الأرض، لا تحتاج إلى مزيد من المفاوضات، بل إلى توقيع «فلسطيني» لمنح الشرعية لأطول احتلال شهده التاريخ مقدمة للتهجير. إنّ إفشال الصفقة ممكن ويجب أن يتحقق، ولن يحققه غير إجراء انتخابات شاملة.