زمن الحصاد.. بقلم: فارس الجيرودي

زمن الحصاد.. بقلم: فارس الجيرودي

تحليل وآراء

الأحد، ٦ يناير ٢٠١٩

بينما تستمر التحليلات في العالم العربي حول أبعاد الانسحاب الأميركي من سورية، وحول إذا ما كان الانسحاب يستبطن خطةً لهجومٍ أميركيٍ جديد، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس أن الولايات المتحدة خسرت سورية منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض، ورأى أن فقدان واشنطن لفرصها في السيطرة على هذا البلد يعود أساساً إلى تراجع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن توجيه ضربة عسكرية لدمشق عام 2013، بعد تجاوزها الخطوط الحمراء «حسب الرواية الرسمية الأميركية».
لكن تقييمات ترامب لسياسة سلفه أوباما، تبدو نظريةً جداً، من الواضح أنه يطرحها في سياق رده على منتقدي قراره الانسحاب من سورية، وخصوصاً أن هؤلاء المنتقدين يلعبون على وتر عشق الشعب الأميركي للقوة ونفورهم من الرؤساء الضعفاء.
فقد أثبتت السنوات الماضية من حكم ترامب أن إقدامه فيما يخص الملف السوري، لم يكن أكبر من إقدام سلفه أوباما، إذ جرى عملياً طرد الميليشيات المتطرفة المعادية للدولة السورية، من معظم أراضي البلاد خلال عهد ترامب، ومن دون أن يتمكن من التدخل للحيلولة دون ذلك، إلا عبر الحملات الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية ضد حليفي دمشق روسيا وإيران، بينما لم تؤد الضربة المحسوبة التي وجهها لمواقع القوات السورية في نيسان 2017 إلى أي تغييرات ذات شأن على موازين القوى في ميدان المعركة، ولا نتج عنها إخراج مطار سوري واحد عن العمل.
لذلك علينا كأنصارٍ لمحور المقاومة أن نتجاوز النقاش العقيم حول أبعاد وأهداف الانسحاب الأميركي، وأن نكون أكثر ثقةً بأن ما أنجزه محورنا، وما قدمه شعبنا من تضحياتٍ ضخمة، هو ما أجبر الخصم الأميركي على التراجع أخيراً من خطوط النار الأمامية، مفضلاً السلامة بعد أن خسر فرصه بتغيير المعادلات السورية.
يبقى الأجدى اليوم أن نفكر باستثمار النصر المرحلي الذي تحقق، فكم من نصر ضاعت ثماره، لأن صناعه أخفقوا في حصاد ما زرعوه، إما لقصورٍ في الرؤية، أو لإخفاق في ترتيب الأولويات.
لقد اشتهر عن الرئيس الراحل حافظ الأسد رؤيته الجيوسياسية للجمهورية العربية السورية، كمركز لمجالها الحيوي الطبيعي الذي يشتمل أيضاً على لبنان والعراق والأردن وفلسطين، أو سورية الطبيعية كما أسماها المفكر اللبناني الكبير أنطون سعادة، ولم تكن تلك الرؤية بديلاً من عروبة سورية في نظر الرئيس الراحل بل كانت مدخلاً طبيعياً إليها، لذلك بذل الكثير من الجهد وأعطى أولويةً لتوثيق علاقات سورية بالبلدان السابقة، لكن الظروف التي حكمت السياسة في العالم والمنطقة خلال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد، حالت دون تطبيق تلك الرؤية على أرض الواقع، باستثناء علاقة سورية بالمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، والتي أثمرت كثيراً، لجهة استنزاف الكيان الصهيوني، ومنعه من الاستقرار، وإعاقة مخططاته الهادفة لممارسة التوسع والإخضاع لمحيطه.
اليوم ومع الانتصار الكبير الذي حققته سورية على العنجهية الأميركية وأدواتها الإرهابية، والذي يعود الفضل الأكبر فيه لما قدمه شعبها من تضحيات، أصبحنا نمتلك فرصةً تاريخيةً لتحقيق ما كان في الماضي أملاً بعيداً.
فليس حدثاً عابراً أن يكرر ترامب ومسؤولوه عشرات المرات عبارة «أيام الأسد معدودة»، وأن تجمع الولايات المتحدة ضدك 132 دولة من أتباعها في مؤتمر دولي في مراكش عام 2012 تحت عنوان «مؤتمر أصدقاء سورية»، وأن تضع كل تلك الدول، التي تضم أغنى وأقوى دول العالم، هدفاً معلناً لها إسقاط الدولة السورية، ودعم كل من يقاتلها، حتى ولو انتمى علناً لتنظيم القاعدة الإرهابي الذي هدد أمن معظم بلدان العالم وقتل مواطنيها، وامتنعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون عن تصنيف جبهة النصرة، فرع القاعدة في سورية، منظمةً إرهابيةً، حتى ما بعد التموضع الروسي في سورية، والذي أنهى عملياً أي فرص لإسقاط دمشق.
كما أن الحملة الإعلامية الضخمة التي شنت ضد الدولة السورية خلال السنوات الثماني الماضية، والتي استخدمت آليات علم النفس الجماعي وأساليب الإيحاء بأن حكم الرئيس بشار الأسد زائل قريباً لا محالة، ستفرز لا شك أثراً معاكساً في صفوف الجمهور العربي بعد أن تبين أن الرئيس الأسد انتصر على التحالف الدولي العريض ضده، وأنه الرئيس الوحيد الذي أعلنت الولايات المتحدة أن شرعيته انتهت، لكنه رغم ذلك لم يمت شنقاً ولا قتلاً ولا هرب أو سُجِن.
إن فائض القوة المتشكل لدى سورية، وهيبة الزعامة التي حققتها قيادتها، والدعم الذي تحظى به من قوتين حليفتين صاعدتين في الإقليم والعالم، روسيا إيران، يجعلها اليوم في مكانةِ القادرِ على استثمار موقعها الجغرافي، لتكون منسق تكتلٍ مشرقي، يبدأ بتكامل اقتصادي بين كل من العراق، لبنان، الأردن، سورية، وينعكس إيجاباً على شعوب هذه البلدان التي تعيش ظروفاً اقتصادية صعبة.
ليتوج ذلك الانفتاح الاقتصادي لاحقاً بتنسيقٍ أمنيٍ ضد الخطرين الإرهابي والصهيوني، ولينتهي بتكاملٍ سياسي، يكون الرد الإستراتيجي على الرؤية الاستشراقية الغربية التي تصنف منطقتنا، كأرض للإثنيات والطوائف والقبائل المتقاتلة المتصارعة، دون مستوى الأمة أو الشعب.