المعبر المحرم.. بقلم: علي محمود هاشم

المعبر المحرم.. بقلم: علي محمود هاشم

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٨ يناير ٢٠١٩

جسّد الإعلان عن انسحاب القوات الأمريكية من سورية أحد أكثر القرارات إرباكا للفهم خلال الآونة الأخيرة من الحرب.. اللافت، تضاده المنطقي مع إستراتيجية عدمية انبثقت إبان فشل حرب «الجهات الأربع» على سورية، وقوامها المنع «النكائي» لقيامة «البحار الخمسة» و«طريق الحرير» التائقين لدفق التجارة بين شرق آسيا وغربها وبحارهما، بعدما فشل ذلك الغرب باقتطاع شرق سورية لتدشين طرق منافسة متقاطعة جنوباً وشمالاً.
تفكيك الإرباك، قد لا يستوي إلا بإعادة تصنيف القرار الأمريكي ضمن بيئته التجارية القارّية، فمن حيث النتيجة، بدا وكأنه ردّ على تبدلات تكتيكية في هندسة الهيمنة الملكية البريطانية المرتجاة على مقاطع طرق التجارة ضمن مناطق نفوذها شرق المتوسط، ما تمظهر عبر تطورات دبلوماسية بدأت في معبر «نصيب» السوري مع الأردن، قبل الاندفاع الخليجي باتجاه الجغرافية السورية.
عودة «أبناء» بريطانيا إلى سورية، سبقه انكشاف رهانات مريرة على طرفي البحر الأحمر شمالاً وجنوباً.
فبعد فشل الحرب على سورية، ذهبت بريطانيا إلى استعمال متجدد لإمارة «أبو ظبي» كرأس حربة في عملية دموية هدفها الاستحواذ على الجمهورية اليمنية وبناء «جسر النور» فوق باب المندب.
لو جرى الأمر على هذا النحو، كان لدعائم ذلك الجسر الحالم أن تنفتح على طريق «الميل الأصفر» مخترقا وسط إفريقيا نحو إمارة «جبل طارق» البريطانية القابعة عند بوابة البحر المتوسط وشواطئ الأطلسي، ولكان لهذا المسعى أن يتجاوز بالفعل البرّ السوري الرابض بين آسيا وأوروبا وإفريقيا.
الهزيمة البريطانية التي سطرها الجيش اليمني ولجانه الشعبية من مواقعهم المطلّة على باب المندب، وازاها اجتثاث جراحي لأحلام التاج بعدما قام الروس والصينيون برسم خرائط جديدة من التحالفات مع دول منتقاة على الضفة الغربية للمضيق.
على التوازي مع «جسر النور»، ذهبت الجذور البريطانية «السعودية/ الإسرائيلية» المتقاطقة في بعض واشنطن، لإطلاق مبادرة «جسر سلمان» عند العنق الشمالي للبحر الأحمر في سياق بروباغاندا عظيمة دعيت «مشروع نيوم».
مصر، التي كان لها أن تعانق مآلا مأساويا لدرّتها الأمنية في «قناة السويس»، انكشفت على مخاطر إستراتيجية جراء وهبها جزر «تيران وصنافير» للمملكة الوهابية السعودية، ولربما علم النظام المصري بعدها ما ينتظره على «جسر سلمان»، ما أفسح في المجال أمام «عودة الوعي» هذه ومن ثم العودة إلى الحضن السوري.
ليست مصر المتضرر الوحيد من «جسر سلمان»، فأبو ظبي، ومن ضمن الإمارات المتحدة، لم يكن لها أن تستسيغ «نيوم» المتحفز للانقضاض على درّتها التجارية والأمنية في «جبل علي»، وهي لربما أيضاً أثرت العودة إلى الحضن السوري، كأقل الشرّين.
عند هذه النقطة، وبقليل من الشكوك الصحّية، يمكن فهم السماح للأردن بإعادة افتتاح جانبه من معبر نصيب وما تلاه من تلميحات لبناء طريق تجارة الترانزيت يربط «جبل علي» بالمتوسط، كاستدراك بريطاني لاقتطاع حصة من الهيمنة الممكنة على طريق الحرير عبر تكريس ما يؤسس لأمر واقع يدفع مساراته المستقبلية نحو مناطق نفوذها التاريخية بعيدا عن الجغرافية السورية العراقية.
على هذه الخلفية، يفصح قرار الانسحاب الأمريكي عن نيّة الولايات المتحدة التلويح بتخليها عن دور حارس الأحلام البريطانية المتداخلة مع حلقات نافذة ضمن الدولة الأمريكية العميقة بمنع التواصل السوري العراقي المباشر، وكتلويح لتلك الأحلام باحتمال تجاوز «تابو» التواصل البرّي «المحرّم» بين سورية والعراق، من خلال إسدال الستار على مسرحية «محاربة داعش» العالقة في فصلها الأخير..
فإسدال الستار لو حصل، وحتى لو أفضى إلى سيطرة الميليشيات الكردية على جيب التنظيم الذي اصطنع بشكل فاجر لتهديد الطريق السوري الوحيد المتاح إلى العراق، فهو سيعني تأمينا له بطريقة أو أخرى، وحينذاك، فقد تذهب الأحلام البريطانية من وراء تشجيع توابعها في المنطقة للانفتاح على سورية أدراج الرياح!.
على المقلب الآخر، يعكس التمنع العراقي اليوم عن افتتاح المعابر المتاحة مع سورية، جانباً من التجاذب الداخلي الذي نجح مؤخراً بترحيل مسارات الطاقة نحو الأردن وتركيا تمثلا للرغبات البريطانية في تكريس وقائع تحصر المسارات التجارية ضمن مناطق نفوذها التاريخية، وما الدفع غير التنافسي بأنابيب النفط العراقي نحو ميناء العقبة توازيا مع استئناف الضخ عبر أنابيب «كركوك جيهان» الذي يمرر النفط السوري المسروق أيضاً، سوى براهين أخرى على ذلك.
على هذا المنوال، يبدو العراق كمن أجبر على اقتطاع فروة رأسه بسكينه، فالمحطة التبادلية الرابعة لطريق الحرير التاريخي لم تخلق عبثا في تدمر السورية، وإذا ما قيض لعقده المرورية في وسط آسيا وأفغانستان أن تتحلحل قريباً، فسيواجه العراق معركة خطيرة مع مصالحه التجارية التي لا ممر لها سوى الأراضي السورية.
إلى ذلك الحين، لربما يجدر بدول الخليج الكف عن ممارسة البلاهة للتغطية على دورها في تنفيذ الأجندة البريطانية الجديدة، بما فيها فلسفة العودة إلى سورية «لانتزاعها من الحضن الإيراني»، فهذه المقولة المتبرعمة من الومضة الملكية البريطانية: «الهلال الشيعي»، سبق وأن اصطُلحت لشنّ الحرب الوهابية على سورية!، وعلى طريقة «قرقشة» الصحراء، ها هي اليوم الشعار الأبله لوقفها؟!.
الوطن