معادلة «المطار بالمطار» والعودة لاتفاق أضنة: سورية فقط من تقرِّر

معادلة «المطار بالمطار» والعودة لاتفاق أضنة: سورية فقط من تقرِّر

تحليل وآراء

الأحد، ٢٧ يناير ٢٠١٩

دائماً ما يُوصف وزير الخارجية السوري وليد المعلّم بأنه يزِنُ كلامه بميزانِ الذهب، أذكر أنني كتبتُ يوماً تعقيباً على هذا التوصيف وقلت: بل الأدق أن موازين الذهب تأخذ مُعايرتها من كلامِ وليد المعلم.
ربما أن القضية هنا ليست مرتبطة بشخصٍ، وإنما بالمدرسةِ الدبلوماسية السورية التي يميزها انتقاء العبارات والرد بالطريقة المناسبة على من يستحق الرد، سواءً كان الرد مرتبطاً بتهديداتِ عدو أم «زلاتِ صديق»، والأهم من كلّ ذلك اختيار اللحظةِ المناسبة لإرسال رسائل الدبلوماسية المشفَّرة برداءِ الحقِّ المشروع بالدفاعِ عن النفس، فكيف والرسالة هذه المرة هي تلكَ المعادلة التي أرساها السفير السوري في الأمم المتحدة بشار الجعفري قبلَ أيام والتي تختصرها عبارة: «المطار مقابِل المطار»!
كما جرتِ العادة مع تصريحاتٍ كهذه، هناك من يحاول التطوع عن قصدٍ أو غيرِ قصد لتفريغها من محتواها، كالقول: إن هذا الكلام مكرِّر عن أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، وغابَ عن ذهنِ هؤلاء أن الدمجَ بين ما يمثلهُ مطلقو التهديدَين هو دمجٌ غير موفق، وبمعنى آخر: نحترم نصر الله، لكنهُ بالنهاية لا يمثل «دولة»، هو عملياً يمثل زعيمَاً للمقاومة على المستوى الشعبي وبفكرِ جميع الأحرار في هذا العالم، أما الكلام الرسمي الصادِر عن ممثلٍ لدولةٍ فهو في مكانٍ آخر، يعي تبعاته العدو أكثر من المنَّظرين في الخط المقاوم.
كذلك الأمر لا يمكن النظر لهذا التصريح بأنهُ مجردَ رسالةٍ مباشرة للعدو الصهيوني، فهذا العدو ليسَ بحاجةٍ لرسائل كهذه لأنه ضمنياً يعرف أن سورية ترد، لكنه لم يمتلك الجرأة في أي من المراتِ ليعترفَ بحجم الخسائر، حتى من كان يتَّهم السوريين باتباع سياسة «التعتيم الإعلامي» على كل ما يتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية، بات اليوم يصطدِم بعدَ كلِّ حماقةٍ صهيونية بالبيان الرسمي للقيادةِ العامة للجيش والقوات المسلحة، فيما لا يزال أسيراً لكذبةِ أن الإسرائيلي لن يكذبَ في الاعتراف بالخسائر.
واقع الحال يأخذنا لفرضيةِ أن هذا التصريح قد يكون نوعاً من «العِلم والخبر» لكل من لازال يغطي الحماقات الإسرائيلية، والأهم أن اختيارَ معادلة «المطار بالمطار» لم تكن عبثيةً، هي بالنهاية تمتلك مجهولاً أساسياً لم يستطع الإسرائيلي خلال سنوات الحربِ الثمان إيجاده: أليس السلاح القادر على الوصولِ إلى مطارِ تل أبيب هو ذاته السلاح الذي تجهلهُ «إسرائيل»، ولا تزال تدفع بعملائِها لإمكانية البحث عن كل ما يمكن أن يأتي لها بنتيجة عنهُ؟ هم جربوا سابقاً كذبة «تدمير الدفاعات الجوية السورية» عبر عملائِهم في التنظيمات الإرهابية، ليكتشفوا أن ما تمّ تدميرهُ ربما كان منسّقاً وخارجَ الخدمة بالأساس، لكن ماذا عن الذي لم يتم اكتشافهُ بعد؟
بالتأكيد أن هذا التهديد كان لهُ صدى في الكيان الصهيوني فأفردت وسائلَ إعلامه مساحاتٍ كبيرة لسبرِ أغواره، هم كانوا ينطلقونَ سابقاً من فرضيةٍ بسيطة بأن الروسي قادر في أي وقتٍ أن يضبطَ إيقاعات الردود السورية، وبمعنى أشمل: مع كل اعتداءٍ إسرائيلي هناك من يحاول الاصطياد بالماءِ العكر حول قدرةِ السوريين على الرد بعيداً عن الضغط الروسي، بل هناك من يذهبَ أبعدَ من ذلكَ ليتّهم الروس أساساً بمنعِ السوريين من استخدام السلاح المتطور.
بكل تأكيد تبدو هذه التصريحات بعيدة كل البعد عن الحقائق، وإذا كان المحللون الإسرائيليون أنفسهم اعترفوا بامتلاك الجيش العربي السوري قدرات الرد في عمق فلسطين المحتلة ما يعني عملياً تحررهم مما يسمونه «الفرملة الروسية»، عندئذٍ على مطلقي الاتهامات ذات أنفسهم أن يكفوا عن تسويقِ هكذا إشاعات لا تفيد إلا العدو، وإذا اعترفنا عملياً أن الروس لم يقدموا لنا أنفسهم يوماً كجزءٍ من «حلف المقاومة»، ولم يصدعوا رؤوسنا بتهديداتٍ من قبيل «مسح إسرائيل من الوجود»، إلا أنهم يعون جيداً حدود «موانتهم» في القرارِ السوري، القضية ليست متعلقة فقط بالموقِف من الكيان الصهيوني، لكن تتعداها لما هو أبعدَ، فكيف ذلك؟
يوم الأربعاء الماضي أنهى رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان محادثاتهِ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو والتي تعلقت بمعظمها حول ما يجري في سورية ومستقبل الشمال السوري، ونكاد نجزم أنه لولا «قنبلة» العودة لاتفاق التعاون المشترك بين تركيا وسورية، أو ما يُعرف بـ«اتفاق أضنة» التي رماها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعهُ برئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، لقلنا إن اللقاء لم يأتِ بجديد.
منذ انتهاء المؤتمر الصحفي سعَت المواقِع الإخبارية المحسوبة على «المعارضات السورية» ومن يدعمها في إعلام البترودولار لتقديم كلام بوتين وكأنهُ انتصارٌ لها، تحديداً عن طريقِ ترويجِ الكثير من الأكاذيب عن هذه الاتفاقية وبمعنى آخر:
لا نعلم إن كان بإمكانهم أن يعطونا مثلاً النص الحرفي للبند الذي يقولون إن الجانب السوري تنازل من خلالهِ عن «لواء اسكندرون» في هذه الاتفاقية، هل يمكنهم أن يعطونا رقم البند الذي من خلالهِ تعهدت القيادة السورية بإعادة النظر بالعلاقة مع أبناء اللواء السليب، بما فيها منعهم من الدراسة في الجامعات الحكومية السورية، أو النص الحرفي للبنود التي تمنح النظام التركي مزايا متعددة من جانبٍ واحدٍ، بما فيها إمكانيةَ التوغل في الأراضي السورية كما يكذبون!
لكن في المقابل لابدّ من التأكيد أن سُعارَ المعارضاتِ السورية من الطرح البوتيني ينطلق من فرضيتين: الأولى أن هذا الطرح ما كان ليتم أساساً لولا موافقةِ القيادة السورية عليه، والثانية أن هكذا طرح عملياً وضع التركي أمام التزاماته وهذا ما أثبتته الوقائع، وبمعنى آخر، جاء البيان الصادر عن وزارة الخارجية والمغتربين والمتعلق بالعودة لتفعيل هذا الاتفاق كما يقول المثل الشعبي «زيت على زعتر»، فالسوريون أساساً لم ينسحبوا من الاتفاق بإرسال قواتهم لاحتلال أراضٍ ليست سورية، ولا هم دعموا تنظيماتٍ إرهابية حسب تصنيفات مجلس الأمن الدولي، ولا حتى اشتروا منها النفط التركي المسروق، والأهم من كل ذلك أن إعادة التفعيل مرتبطة حكماً بالعودة لما قبل 2011، فما هي احتمالية التزام النظام التركي بالطرح الروسي؟
واقع الأمر يقول: إن الطرح الروسي ربما سيكون أشبهَ بالسلم الأخير للنظام التركي للنزول عن الشجرة السورية لا السقوط منها، والكف عن الهروب من حتميةِ القضاء على التنظيمات الإرهابية التي سيطرت على إدلب، من خلال الضجيج الإعلامي حول مناطق شرقي نهر الفرات، وربما أن ما قد يدفع أردوغان للموافقة عليهِ هو عدم قدرتهِ على الثقة بالولايات المتحدة لمساعدتهِ على إنجاِز حلم المناطق الآمنة، بل إنه باع أنصاره وكعادته عبارات التحدي الرنانة يوم الجمعة الماضي عندما أعلن في خطابٍ انتخابي له في «أرض روم» أنهم سيقيمون هذه المنطقة الآمنة حتى من دون موافقة الأميركي لكنه أتبعهُ بتمنٍ أن يساعدهُ حلفاؤه، لا ندري من يقصد بحلفائه هل يقصد مثلاً الناتو المترنح، الذي حيا أحد زعمائه قبل أيام من سماهم «الشجعان في فنزويلا» لخروجِهم ضد القيادة الشرعية في ذلك البلد، فيما لا يزال إعلامه «الرسمي» يصف متظاهري «الستر الصفراء« في فرنسا بـ«المخربين»! أم الأميركي الذي يواجه الآن إحدى أقسى الأزمات الداخلية التي أودت بالقرار الرسمي الأميركي نحو تشظٍ غير مسبوق، أم أنه عملياً يقصد حلفاءه الجدد إيران وروسيا؟
لعله يقصدهم؛ لكنهما ببساطةٍ غيرَ قادرين على إعطائهِ فرصةَ النزول في كل دقيقة، وإذا كان الجانب السوري تلقى الطرح الروسي بيدين منفتحتين، فإن الكرة الآن بملعب النظام التركي، لكنه قبل أن يتخذ قراره عليهِ أن يدقق ملياً ببيان الخارجية السورية وأن يُعيد مراراً قراءةَ السطر المتعلق بعبارة: «أن يلتزم النظام التركي بالاتفاق ويتوقف عن دعمهِ وتمويلهِ وتسليحهِ وتدريبهِ للإرهابيين، وأن يسحب قواتهِ العسكرية من المناطق السورية التي يحتلها»، هي ليست مجردَ عبارةٍ جاءت كحشوٍ لإكمالِ البيان، هي شرط وضعتهُ الجمهورية العربية السورية قبل تفعيلِ هذا الاتفاق، تحديداً أن عودة النظام التركي للالتزام بالاتفاقية ستعني حُكماً قطع أرزاق «أيتامهِ» في المعارضات السورية والذين يحمل بعضهم لقبَ «أمير جماعة»، لأنهم سيصبحونَ عبئاً عليه، فهل يجرؤ؟
قد لا نستطيع استقراء الجواب لكننا ببساطة استقرأنا وسنستقرئ أن بكلِّ ما يتعلق بتهديداتِ الحرب، أو الانفتاح على السلم، فإن الدبلوماسية السورية تزين عباراتها بميزانِ الذهب.