خواطر مُغتربة..بقلم :الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

خواطر مُغتربة..بقلم :الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٥ فبراير ٢٠١٩

ها أنا أشد الرحال من جديد وأغادر مدينة الياسمين.. الصقيع قادم.. نسمات الشتاء الباردة تُداعب الوجنات.. الثلج يكسو جبل قاسيون ويزيده ألقاً في شموخه.. الضباب يُخيم على الأجواء، ويثقل من ظلمة الطريق وكأنه يدعو الراحلين إلى العودة من حيث أتوا...
أما زالت الرؤية ضبابية أم أنها بدأت تنجلي مع قساوة الأيام؟
الليل مظلم.. أترانا نلتمس النور من عتمة؟
ها أنا أغادر ربوع الوطن.. إلى أين تحملني خطاي؟
ذاكرة الأيام تطوف في مخيلتي.. تعود بي إلى الوراء إلى سنوات مضت تحمل بي كلمات نُقشت في ذاكرتي.. كان هذا في ملتقى ثقافي في مدينة ليون الهادئة يجتمع فيه المثقفين والمغتربين.. ثقافات مختلفة وفي الاختلاف التقاء.. كل واحد يدلو بدلوه ويُعبر عن ثقافته عبر كلمة.. قصيدة.. قصة.. لوحة.. نعمة.. مفردات مختلفة تنصهر جميعها في لغة عالمية تُجسد فيها الإنسانية جمعاء، يومها تقدم شاب إفريقي في مُقتبل العمر وعزف على أوتار آلة موسيقية حملها معه من وطنه الأم.
نغمات فريدة لها وقع خاص في الآذان.. لغة خاصة مشبعة بالأحاسيس.. حركت مشاعر الحضور وكأنها تخاطب كل فرد.. وفجأة توقف عن العزف وقال:
«في ثقافتنا نعتبر أن الإنسان يموت مرتين الأولى عندما يغادر وطنه، والثانية عندما تفارق روحه جسده».
كلمات هذا الشاب كان لها وقع خاص في قلبي شبه الرحيل عند الوطن بانتزاع الروح من الجسد أتساءل في ذاتي: ألا يستمد الإنسان قوته من أرضه؟؟ وأي وجود يلتمسه في هذه الحياة إذا فقد الإنسان وطنه؟
لا يُدرك معنى كلام هذا الشاب إلا من عاش مرارة الغربة ولكن الغربة الأشد قسوة عندما يشعر الإنسان بغربة ذاتية لا ينتمي في فكره إلى من حوله.. لا يفهمونه وتنعدم لغة التواصل.. يعيش محاطاً بالناس، ولكن شعور الوحدة يقتله!
ها أنا أودع دمشق حزينة، ولكن قلبي مطمئن، فدمشق عادت إليها سكينتها الدمشقيون يتجولون بحرية في أزقتها.. العيون ترقب بصمت هادئ تعكس شعوراً بالأمان لطالما افتقدناه.
تتساءل القلوب بعنفوان عن جدارة هذه المدينة أي صمود أثبتته أمام الطغيان.. أمام الظلم والعدوان.
إنهاء إرادة الحياة
رغم القهر والموت.. رغم الهجمة الشرسة التي تعرضت لها والتي لم تنجلي بعد إلا أنها ما زالت صامدة ينبوع الحياة يتجدد فيها.
سماؤها تُمطر دموع ندية تغسل عنها آلامها ليال حرب همجية  فرضت عليها.. ها هي أوراق الأشجار تنفض عنها غبار الأيام وتعود الأنوار تشتعل في الآفاق تضيء طريق العودة لكل من غادرها في لحظة ضياع، في لحظة ضعف وهوان.
إنها دمشق راية العروبة وعنوان الحضارة، الكلُ يلتمس السبيل إليها وهي تناقش أبنائها وتنادي كل من ضل الطريق وتاه في غياهب الإعصار العربي الذي استهدف وجودها بالعودة إلى أحضائها.. إنها بحاجة إلى سواعد أبنائها.
عودوا لا وجود حقيقي للإنسان إلا في ربوع وطنه.
ها أنا أعود إلى غربتي بعد أن ارتشفت جرعة حب من مدينتي الأم ومدينة الإنسانية جمعاء دمشق أعود، ولكن في نفسي حزنٌ أليم لما آل إليه حال البعض جراء سنوات الحرب الغادرة، أي هواء ملوث هذا الذي اجتاحنا وشوه أنفاسنا العطرة.. رائحة الخداع والنفاق.. رائحة الغدر والغش تفوح في الأجواء.. سنوات ضياع، الأخ يريد أن ينهش لحم أخيه الإنسان، نعيش الآن أزمة  إنسانية حقيقية نحتاج لإعادة بناء الإنسان، لإعادة بناء المنظومة الأخلاقية، نحتاج للتصدي للمنظومة الفكرية السائدة.
خاصة في ظل الاجتياح الفكري العالمي الذي يستعمر عقول الشعوب ويسخرها وفق إرادته بما يحقق مصالحه وهذا يدعونا للتحرك العاجل وطرح مبدأ الشك الديكارتي في جميع المفاهيم السائدة سواء كانت ثقافية.. اقتصادية.. اجتماعية.. أو دينية ومدى تواكبها مع أسس التطور وهذا يقودنا إلى البحث عن مسألة هامة هي: أولوية علاقة الإنسان بالعلم.
العلم هو السلاح الوحيد الذي لا يُقهر
أسئلة كثيرة يجب أن نطرحها في هذه المرحلة الحرجة كيف نعيد بناء وتوجيه التيار الفكري في الحالة الراهنة في ظل سيطرة فكر ديني مشوه لدى البعض، أدى إلى خلق لديهم حالة من غياب الفكر والتبعية العمياء؟
ألا نحتاج لحالة من الوعي كي نستطيع مواجهة أي فكر سام يخترق عقولنا؟
ولكن هل اعتدنا على التفكير ونشأنا على مبدأ طرح الأسئلة في كل ما يدور من حولنا.
أما أننا اعتدنا على التلقين والتقليد؟؟
كيف نخلق حالة الوعي ونحن لا نمتلك أسس التفكير العلمي؟؟
لا ينقذنا من مأساتنا إلا في حالة سيادة سلطة الثقافة والعلم.
نحتاج لعودة الثقة بين الناس، بين الشعب والحكومة، نحتاج لإعادة جسور المحبة بين أطياف المجتمع كافة وهذا يتطلب قدر كاف من الوعي لخلق حالة من الحس المشترك، تجعلنا متحدين متماسكين مجتمعين معاً لإعادة ما تم تهديمه سواء على الصعيد النفسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، إحساس مشترك بالمسؤولية يؤهلنا للنهوض من جديد والقيام بأعباء المسؤولية الملقاة على عاتق كل فرد منا.