الحرب على هاتفك.. بقلم: عامر محسن

الحرب على هاتفك.. بقلم: عامر محسن

تحليل وآراء

الاثنين، ١٨ فبراير ٢٠١٩

في هذه الأيام يخوض المسؤولون الأميركيون والصينيون مفاوضات متنقّلة لحلّ الخلاف التجاري بين البلدين، فيما «الموعد النهائي» الذي حدّده ترامب، في أوّل آذار، لمضاعفة التعرفة على مئات المليارات من المستوردات الصينية يقترب (لمّح الرئيس الأميركي مؤخّراً إلى أنّه قد يمدّد «المهلة» لإعطاء فرصةٍ للمفاوضات). في هذه المرحلة الدقيقة، أصدرت المحاكم الأميركية قراراً اتهامياً عنيفاً في حقّ «هواوي»، العملاق الصيني في مجال الاتصالات، يتضمّن جملة اتهامات تتراوح بين سرقة الملكية الفكرية والتصاميم وصولاً إلى الاحتيال البنكي و«خرق» العقوبات الأميركية وبيع منتجات الشركة في إيران. هذه اللائحة الطويلة لا تؤشّر إلى أنّ الحكومة الأميركية تبحث عن إدانةٍ أو اتفاق مع وزارة العدل، يتبعه اعتذارٌ وتنازلات وغرامة، كما حصل في عدّة حالات تتناول مؤسسات عالمية في السابق (وصلت الغرامات بسبب «خرق العقوبات الأميركية» على مصارف مثل «دويتشه بانك» وغيره إلى مليارات الدولارات، دفعتها هذه المؤسسات صاغرة)؛ بل هي تبدو كمقدمة لمنع «هواوي» من التعامل مع النظام المالي والاقتصادي الأميركي، أو محاولة قطع الهواء عنها.
استهداف «هواوي»، التي أصبحت رمزاً للتوتر القائم بين أميركا والصين، يجري على أكثر من جبهة: القضاء، الإعلام، السياسة، إلخ. التقارير تقول إن دونالد ترامب على وشك إصدار قرارٍ بمنع الشركة الصينية من تركيب أيّ معدّات للجيل الخامس على الأراضي الأميركية بداعي أنها تهدد الأمن القومي (وزيارة بومبيو الحالية إلى أوروبا تهدف في جزءٍ منها إلى إقناع هذه الدول بالابتعاد عن شبكات «هواوي»). وكالة «بلومبرغ»، مثلاً، نشرت تحقيقاً طويلاً - بالتعاون مع المحققين الأميركيين - عن قضيةٍ من المفترض أن تفضح «نهج» الشركة الصينية في سرقة الأسرار التجارية ومخالفة القوانين. هناك مستثمرٌ أميركيّ أنتج نوعاً من الزجاج «المتفوّق» لشاشة الهاتف الذكي (على ما يبدو، فإنّ الزجاج الذي يستخدم اليوم في أكثر الهواتف المتقدّمة اسمه «زجاج الغوريلا»، وقد حصدت الشركة التي اكتشفته ملياراتٍ من الأرباح). الفكرة الجديدة هي أن تلصق طبقةً مايكروسكوبية من جزيئات الألماس فوق زجاج الشاشة، وهذا - بحسب «بلومبرغ» - يجعله أقلّ قابلية للكسر والخدش عدّة مرّاتٍ مقارنة بـ«زجاج الغوريلا»، وهذا سيصبح المعيار المستقبلي في صناعة الهواتف. المستثمر الأميركي، واسمه آدم خان، يقول إنه وجد طريقةً للصق طبقة الألماس على زجاج الشاشة، وهو السرّ الذي كان يتفاوض عليه مع «هواوي». وجدت الموضوع ذاته نافلاً، إذ لا سرقة في كلّ القضية، بل اتهام بمخالفة «تقنية» قد تكون «هواوي» ارتكبَتها حين أرسلت عيّنة من زجاج آدم خان إلى الصين لاختبارها. ولكن المثير هو أن تقوم وزارة العدل الأميركية بهذا الجهد لـ«استدراج» «هواوي» لكي تقع في الخطأ، في عملية استغرقت أشهراً، ومع تغطية إعلامية كبيرة، وأن تجنّد آدم خان (ومستثمرين آخرين كثراً، تقول «بلومبرغ») لكي تجد ممسكاً ضد الشركة الصينية. ثمّ تنشر هذا التحقيق في أكثر من وسيلة إعلامية كبرى، قبل أن يجري توجيه أيّ اتهامٍ رسمي أو اعتقال أحد.
على الهامش هنا: الصينيون لا يملكون بعد نفوذاً في الإعلام أو براعةً، حتى يقدروا على مواجهة الشيطنة التي تجري للصين ولشركاتها (بالمناسبة، كل وسائل الإعلام الغربية الأساسية تقريباً، من «واشنطن بوست» إلى أقصى اليمين، تقف مع الحكومة الأميركية في التشكيك في «هواوي» والتحذير منها ومن نفوذها). ولكن، لو كان الحال مختلفاً، لأصبح في الإمكان بناء سردية معاكسة عن فكرة «الشركة الشريرة/ الحكومة الخيّرة التي تحمينا منها». مثلاً، إنّ «هواوي»، هذه الشركة العالمية الهائلة التي توسّعت وهيمنت خلال زمنٍ قصير، هي شركةٌ مملوكةٌ - حرفيّاً - من موظّفيها. لا يوجد مستثمرون خارجيون ومصلحة مالكي الأسهم هي ذاتها مصلحة العمّال، في شيء يشبه حلم الاشتراكية المتقدّمة، ومع ذلك يتمّ تقديم «هواوي» في الغرب على أنّها «غودزيلا»، وهذا في جوٍّ إعلامي وثقافي يقدّس ويُأسطر الشركات الكبرى ومالكيها، ويحوّل إيلون مَسك وجيف بيزوس إلى نجمين لدى جماهير غفيرة ونبيَّين للعصر الحديث، لمجرّد أنّ هذه المؤسسات ثريّة وناجحة.
 
تقسيم الأرباح والتنافس
يقول الخبراء إنّ المعضلة، في حال قرّرت الحكومة الأميركية الحجر على شركة اتصالات مثل «هواوي»، ليست في فقدان السوق الأميركي المربح (فالماركة الصينية غير موجودة أصلاً في سوق الهواتف الأميركي، وممنوع على الحكومة ومورّديها التعامل معها في بناء الشبكات، وهي على وشك أن تُحظر على القطاع الخاص أيضاً)، ولا حتّى في أن تُمنع عن استخدام برامج التشغيل (مثل «أندرويد») التي تنتجها «غوغل» الأميركية، فهي قد تجد بديلاً محلياً لها. المشكلة الأكبر ستكون في الشرائح الدقيقة التي تشكّل قلب الهاتف ودماغه، وتصميم هذه المعالجات تحتكره حالياً شركات أميركية حصراً (وشركة بريطانية واحدة، من المرجّح أن تطيع منظومة العقوبات الأميركية). من حسن حظّ «هواوي»، أو نتيجة تخطيطٍ مسبق واحتراز، فإنّ الشّركة الصينية تقوم منذ سنوات بتصميم برنامج تشغيلٍ بديلٍ لـ«أندرويد»، حتى لا تحتاج إلى «غوغل» بعدها؛ وهي أيضاً من الشركات القليلة التي تنتج معالجاتها الخاصّة ولا تعتمد على «كوالكوم» الأميركية أو «انتل». ولكن هذا كلّه قد لا يكون كافياً، فمعالجات «هواوي» مبنية على تكنولوجيا شركة «إي آر أم» البريطانية، وهي قد تتوقف عن ترخيصها لـ«هواوي» إن وقعت تحت عقوبات أميركية مشدّدة.
هذا يعيدنا إلى أساس التنافس بين البلدين الكبيرين وإلى دور الاحتكار في الرأسمالية المعاصرة. ترامب يؤمن بأنّه، إن انقطعت المنتجات الصينية عن بلاده، فإنّ صناعات بديلة ستقوم في أميركا لاستبدالها، وهذا قد لا يكون أمراً سيئاً بالضرورة؛ ولكن الافتراض المعاكس، أي منع التكنولوجيا الغربية عن الصين، قد يشلّ البلد الصاعد - أو يؤخّر تقدّمه - في العديد من المجالات المستقبليّة. هذا يشرح لنا أيضاً سبب إصرار القيادة الصينية (وقد عبّر عن ذلك الرئيس الصيني شي جنبينغ بوضوح في خطابٍ في «قاعة الشعب» منذ شهرين) على ضرورة امتلاك التقنيات المتقدمة وتوطينها صينياً بأي شكل، وعلى رأسها تكنولوجيا الشرائح الدقيقة.
حتى نشرح المقصد هنا: التجارة الدولية ليست مسألة «مسطّحة» كما كانت عام 1870: سلعٌ متشابهة يتم تبادلها على المستوى العالمي ولها قيمة معينة ولكل بلدٍ حصّة منها، إلخ... يوجد فارقٌ نوعي بين السّلع التي تصنّع في الغرب وتلك التي تخرج من الصّين خلال العقود الماضية؛ أي بين سلع لها قيمة وهوامش مرتفعة (مثل معالجات الكمبيوتر أو الطائرات) وأخرى «بسيطة» وتنافسية، مثل البضائع الاستهلاكية أو الألعاب أو صناعة التجميع (وهذه هوامشها وأرباحها قليلة، وإن كانت قيمتها الإجمالية عالية، وفي وسع أيٍّ كان أن يضارب عليك إن أنتجها بكلفةٍ أقلّ). هذان النمطان للإنتاج، إن قاما ضمن تقسيمةٍ عالمية واضحة، لا يتنافسان بل يتكاملان. بمعنى آخر، لا مشكلة لدى ألمانيا في أن تقوم الصّين باستلام الصناعات اليدوية والبسيطة، كما حصل في العقود الأخيرة، طالما أنّ ألمانيا تصدّر للصين، بالمقابل، الآلات الصناعية والطائرات والسيارات الفخمة. بل إنّ الطّلب على هذه السلع الغالية قد ازداد تحديداً بفضل التصدير الصيني وعائداته ونشوء بورجوازية مترفة في البلد إلخ؛ فتنمو ألمانيا بالتوازي مع نموّ الصين.
المشكلة تبدأ حين يتحوّل التكامل إلى تزاحم، أو تتحوّل الصين «من زبونٍ إلى منافس»، على حدّ تعبير مجلّة «ذا إيكونوميست» في تحقيقٍ لها عن الاقتصاد الألماني. والمجلّة تقول إنّ ألمانيا ستواجه مشكلةً في النموّ تحديداً بسبب تغيّر مناخ التجارة العالمية، الذي يؤذي التصدير، وعدم امتلاك ألمانيا - وأوروبا إجمالاً - شركات احتكارية ضخمة في حجم «أمازون» أو «علي بابا»، ولأن الصين بدأت تنافس ألمانيا في مجالات «تخصّصها» بدلاً من أن تكون زبونها الرئيس.
 
عالمٌ رقميّ جديد
هذا تذكيرٌ جديد بأن خلق القيمة ليس عملية اقتصاديّةً بحتة، وأن النظرية التي تقول بأنّ دولاً مثل ألمانيا يمكن أن تنمو إلى الأبد بفضل «رفع الإنتاجية» بشكلٍ لامتناهٍ هي وهمٌ واستحالة. توزّع الإنتاج والقيمة في العالم هو أساساً عملية سياسية، يحتاج إلى بنية تحتية من المؤسسات والاتفاقات، وتقرر شكله موازين القوى وعوامل الاحتكار. وحين تحصل هزّة سياسية، يتغير السياق بأكمله ومعه شكل الاقتصاد العالمي.
النتيجة الأولى لما يجري اليوم، حتى ولو توصّلت بيجينغ وواشنطن إلى «اتفاق هدنةٍ» بشكلٍ ما، هي أنّ النمط القديم للنمو العالمي وتقسيم الإنتاج لم يعد مضموناً أو مستقرّاً (وهذا ينسحب بالطبع على النظام المالي). مهما حصل في المستقبل، لن تقوم شركات صينية بالاعتماد على برامج ومكوّنات أميركية لا تملك لها بديلاً، بعد أن لوّح لها النظام الأميركي بسلاح المنع. سوف تراقب كلّ شركة صاعدة مصير «هواوي» وتحاول توقّيه، وستبني نفسها لعالمٍ يحكمه صراع صيني ــــ أميركي، وليس لعالمٍ من التكامل والتشابك والتبادل الحرّ. قد تقسم العقوبات المتبادلة العالم إلى «بلوكات» قريباً ـــ نطاقٌ للصين حصرياً وآخر لأميركا حصرياً، مثلاً، وثالث كبيرٌ تتنافسان عليه. كون بلادنا ستكون، بوضوحٍ، من ميادين التنافس بين القوّتين، فقد سيصير لزاماً عليك، حين تشتري هاتفاً ذكياً في المستقبل، أن تختار بين «المنظومة الصينية» و«المنظومة الغربية» للهواتف.
أنا، من جهتي، ما زلت لا أملك هاتفاً ذكياً، ولكنّي قد أُضطرّ إلى ذلك في المستقبل القريب. فالهاتف الذكي أصبح يشبه الـ«ريموت كونترول»، بمعنى أن كل الشركات والخدمات تفترض أنك تمتلكه وتتعامل معك عبره، وستصبح العوائق التي تنتج عن عدم امتلاك هاتفٍ ذكيّ أكبر من فوائده. وأنا لم أعارض فكرة حمل «سمارت فون»، لكلّ هذا الوقت، لأسبابٍ واهية، بل إنّ خلف الموضوع نظريّة، قد تكون استطراداً مفيداً في الختام (أو قد لا تكون، ولكني سأرويها على أيّ حال): الفكرة باختصار هي أنّ حالتنا الإنسانية اليوم تختلف بشكلٍ جوهريّ عنها في أي مرحلة سابقة من التاريخ. تاريخياً، الإنسان هو «حبيس مكانه»، بمعنى أنّ المؤثرات الخارجية التي يمكن أن «يهرب» إليها من عالمه المباشر قليلة ونادرة. لهذا السبب كان الناس يتأثّرون بأمورٍ مثل أطوار الليل أو تغيّر الفصول أو ظهور شهابٍ في السماء، فأيّ تغيّرٍ في محيطك كنت تلاحظه وتختبره بشكلٍ كامل. السبيل إلى «الخروج من واقعك» كان محصوراً في أن تقرأ كتاباً مثلاً، وهذا غير متاحٍ لأكثر النّاس، أو أن تحضر حكواتياً أو تذهب إلى المسرح أو تشارك في احتفالٍ دينيّ، ومن هنا كانت هذه التجارب عميقة ومؤثّرة، تبحث عنها وتحتاج إليها. نظريتي هي أنّه، في العالم الرقمي اليوم، فإنّ الآية قد انعكست: كمية المؤثرات الخارجية التي تُعرض عليك باستمرار ـــ من الإنترنت إلى التلفزيون إلى أفكار وأقوال أناسٍ لا تعرفهم ولكنها تتطاير في كل مكان ـــ هي أكبر بكثير مما يمكن أن تستوعبه خلال حياة واحدة (أو مئة حياة). من هنا، فإنّ التحدي اليوم هو ليس في الانتقائية، وليس في معانقة كلّ جهازٍ ترميه شركة بين يديك، بل في أن تضع أولوياتك بصرامة، حتى لا يقرّرها عنك غيرك. في أن تختار، عن وعيٍ، المؤثرات التي تريد أن تتفاعل معها وأن تجعلها جزءاً منك في هذه الحياة القصيرة، وأن تقنّن ما يصلك من الخارج حتى يجعلك إنساناً أفضل ولا يدفعك إلى الجنون.
لهذه الأسباب لم أقتنِ هاتفاً ذكياً حتى الآن، فأنا أفضّل النوعية على الكميّة: إن أردتُ أن أقرأ شيئاً، فلن أقرأه على هاتف، بل على شاشة كبيرة مريحة. إن أردت أن أشاهد فيديو، فسأحصل على نسخةٍ ممتازة. إن أردت أن ألعب لعبة، فلن تكون لعبة هاتفٍ سخيفة. وبالمناسبة، فإنّ الكمبيوتر المتفوّق الذي جمعت قطعه بيدي، وهو أعزّ ما أملك في هذه الدنيا، قد كلّف أقلّ من سعر هاتفٍ مترف (الشكر العميق للصديق ز. الذي جلب لي القطع من الخارج وهرّبها عبر المطار). ولكن، مهما أوهمت نفسك بأنّ الخيار في يدك وأنّك تحصّن نفسك بالخيار الفرديّ، فإنّ قدرك هو أن تعيش في عالمٍ صنعه لك غيرك، والحرب على هاتفك تجري في مكانٍ آخر.