تحولات ما بين سنغافورة وهانوي.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحولات ما بين سنغافورة وهانوي.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الخميس، ٧ مارس ٢٠١٩

في صباح الثاني عشر من حزيران الماضي جمعت إحدى قاعات فندق كابيلا المغلقة في جزيرة سنتوسا بسنغافورة الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والكوري الديمقراطي كيم يونغ أون لمدة 40 دقيقه بصحبة مترجميهما فقط، وفي أعقابها أعلنت وكالة يونهاب الكورية الديمقراطية عن توقيع وثيقة قالت إنها مهمة لكن لم يجر الكشف عن تفاصيلها، إلا أن أسارير رموز الإدارة الأميركية لم تكن لتخفي حبورها، كانت كلها بادية السرور مما يؤشر لحالة رضا أميركي بكل المقاييس، وعليه فقد أعدت العدة منذ ذلك الوقت للمنازلة الكبرى التي أعلن في واشنطن منذ مطلع شباط الماضي أن هانوي هي التي ستحتضنها، لربما كان المكان مؤشراً يومئ إلى اعتماد واشنطن النموذج الفيتنامي في تسوية الأزمة مع بيونغ يانغ.
فيما بين القمتين سعت كل من اليابان وكوريا الجنوبية إلى تقليص الزمن الفاصل بينهما في تحسس مشروع يتلمس مخاطر التحولات الجارية في عالم بدا متسارعاً بشكل كبير حتى ليبدو أمسه القريب كما ولو أنه يغوص في تاريخ غير معاصر، على حين بدا أن رهانات بيونغ يانغ تستثمر في العامل نفسه ما دام تمرحل هذا الأخير يصب في مصلحتها، والرهان كما تبدى في هانوي كان كبيراً على تموضع روسي صيني جديد ما بعد سنغافورة، لا بد ستفرضه تطورات الأزمة السورية، والمواجهة الأميركية مع طهران، ثم الأزمة الفنزويلية.
من الثابت اليوم بعد ثمانية أشهر على قمة سنغافورة أن الزعيم الكوري قد نجح في رهانه على الزمن وكذا في تسويق غموضه الذي لا يتيح للخصم معرفة الخيارات التي يمكن له الذهاب إليها، وفي هذا السياق يمكن أن نشير لما أوردته وكالة «CNN» الأميركية من أن ترامب كان قد عرض للزعيم الكوري في سينغافورة شريط فيديو يصور كوريا الديمقراطية مثل مدينة ديزني، وعاد ترامب في هانوي ليقول إنهم يعرفون كل شبر في كوريا، والوكالة في حينها علقت أن الزعيم الكوري قابل العرض بابتسامه صفراء، والإشارة هنا بالغة الدلالة كأني بالزعيم الكوري يريد أن يقول لنظيره إن الورقة المقدمة على طاولة المفاوضات تفقد قيمتها بمجرد وضعها عليها فلا تعود تعطي القيمة المرجوة منها.
رصد المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب في هانوي وإلى جانبه وزير خارجيته مستعينا به في تأكيد أقواله في أحايين عدة ربما بصدى رجعي لاتهامات محاميه السابق مايكل كوهين له بالكذب التي كانت تتوالى في الكونغرس فترخي بظلالها الثقيلة عليه، رصد ذلك المؤتمر خيبة أمل أميركية واضحة عبر عنها ترامب بالقول إن ثمة فجوة بين ما عرضه الكوريون وبين ما نريده نحن، وإن الاتفاق الذي كانت مسودته جاهزة قد أخفق بعد طلب بيونغ يانغ رفع كامل العقوبات في مقابل نزع السلاح النووي في مواقع هي أقل أهمية بالنسبة لنا.
ما بين سنغافورة وهانوي جرت مياه كثيرة، ومن المؤكد أن الموقف الصيني قد شهد تحولاً مهماً هو الذي أفضى إلى ما سبق، ومؤكد أيضاً أن واشنطن لم تكن تستشعر، أو على الأقل لا تملك الإحاطة التامة به، ذلك التحول مما يمكن رصده عبر حجم الآمال التي كانت تبنيها واشنطن على قمة هانوي والكثير من التصريحات الأميركية كانت تشي بأن مطلقيها على يقين من أن الطبخة الكورية قد استوت، وهذا كله من الممكن تلمسه أيضاً في التساؤل الذي طرحه ترامب على نفسه في مؤتمره عندما قال: «ألم يكن بوسع بكين أن تفعل أكثر مما فعلت»؟ ثم أجاب عن سؤاله السابق بنفسه فقال: «نعم كان بوسعها أن تفعل أكثر»، ولربما كانت نقطة التحول في الانعطافة الصينية تكمن في رؤية بكين أن ترامب قد حشر نفسه بين جدار المكسيك وبين التوصل إلى تسوية مع الكوريين، وفي كلا المسارين بدا متعثراً، فأرادت تخفيض سقوف جدرانه المتعالية باتجاهاتها، والأمر نفسه تكرر بعد أيام عبر اشتراكها مع موسكو بالفيتو المزدوج ضد قرار كان يرسم إلى تشريع تدخل أميركي في فنزويلا.
في الظهور الإعلامي القصير الذي خرج فيه الزعيم الكوري في هانوي سئل عما إذا تم الاتفاق على فتح مكتب اتصال أميركي كوري ديمقراطي يكون مقره بيونغ يانغ فأجاب باقتضاب: «لا» السؤال كان ذكيا، فالتوافق فيما لو تم وفق هذه المعطيات كان سيمثل خرقاً، أو هو يعوض بالوزن نفسه، يعادل موافقة بيونغ يانغ على تفتيش موقع «يونغ أون» النووي الذي تراه واشنطن عصب المشروع النووي الكوري، وهو الأمر نفسه الذي يفسر عدم التوافق على موعد محدد لعقد قمة مقبلة بين البلدين باتت بعيدة كما يبدو.
القمة تمثل فشلا أميركيا، لكنها بمنزلة انتكاسة لليابان ولكوريا الجنوبية على حد سواء، واللتين كانتا تعولان عليها بدرجة كبيرة مما يمكن تلمسه في نسبة الصحفيين الكبيرة من البلدين التي غطت مؤتمر ترامب السابق الذكر والتي بلغت 80 بالمئة من مجمل وسائل الإعلام العالمية، فالذات الجماعية لكلا البلدين قلقة، وفي الأمر ما يدعو إليه، حتى إن درجة اليأس القصوى كانت قد دفعت بتوجه شبه رسمي كان قد عزا الفشل الأميركي في هانوي إلى اعترافات مايكل كوهين محامي ترامب السابق، التي كانت تنهال تباعاً فترخي بظلالها على القمة، على الرغم من أن تلك الاعترافات لا قيمة سياسية لها، ولا حتى قضائية، حيث الرهان على رجحان كفة هذي الأخيرة في مسألة من هذا النوع سيكون خطأ مهما بلغت استقلالية القضاء في الدولة الأميركية العميقة، فمن المؤكد أن كوهين قد كذب، وهو يقضي عقوبة بالسجن مدتها 3 سنوات جراء ما فعل، ومؤكد أن ترامب قد كذب أيضاً، إلا أن ذلك لن يؤدي إلى سقوطه، فالمزاج العام في أميركا تغير والوضعية التي أدت إلى سقوط الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون العام 1974 بعد كذبه ما عرف بفضيحة «ووترغيت» لن يجد دونالد ترامب نفسه فيها، والراجح هو أن الشارع الأميركي اليوم يفضل التساكن مع رئيس «كاذب» لكنه يرى فيه محققاً لآماله ورؤاه، على العيش مع رئيس «صادق» لكنه لا يرى فيه ما يراه في الأول.
كتب غاري يونغ في «ذي غارديان» البريطانية أنه التقى بسيدة مؤيدة لترامب وسألها عن موقفها من الرئيس بعد اعترافات كوهين فيما يخص علاقات الأول المشبوهة بالنساء، أجابت السيدة بأنها تريد أن ترى الوقائع، كما تريد سماع تصريحات ترامب نفسه لأنها لا تصدق الإعلام، وإذا ما أدركنا أن الكثير من الوقائع تبدو دامغة في تورط ترامب في نوع كهذا من العلاقات، يصبح من المؤكد أن السيدة، ومعها كل مؤيدي ترامب الذين لا يزالون يمثلون أغلبية وفق آخر استطلاعات الرأي، لا تريد أن تصدق، وهي لن تصدق.
الوطن