فلسطين جنوبها.. والجولان في قلب سورية.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

فلسطين جنوبها.. والجولان في قلب سورية.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٦ مارس ٢٠١٩

لم تكن تغريدة الرئيس الأميركي التي أطلقها يوم الخميس الماضي مفاجئه، فالكثير مما كان يطفو على السطح كان يشي بأن سياقات الأحداث تنحو بنفسها في هذا الاتجاه، تغريدة دونالد ترامب على توتير كانت تقول: «الجولان يمثل أهمية إستراتيجية حساسة لأمن إسرائيل وللاستقرار الإقليمي»، غياب عنصر المفاجئة هنا يتأتى من بروز العديد من المؤشرات التي كانت تنبئ أن بحيرة الجنوب السوري لن تكون راكدة على المدى القريب، كانت هناك العديد من التصريحات التي توالت على لسان العديد من المسؤولين الإسرائيليين الذين بدوا وكأنهم في وضعية انتظار «بابا نويل» الذي يوزع الهدايا في المناسبات، جاء ذلك في أعقاب إسقاط تقرير الخارجية الأميركية الأخير صفة الاحتلال عن مرتفعات الجولان، ثم كان هناك مشروع القرار الذي قدم إلى مجلس الشيوخ الأميركي شهر شباط الماضي وهو يهدف إلى استصدار اعتراف أميركي بسيادة إسرائيل على الجولان، صحيح أن مشروعاً كهذا لم يكن الأول من نوعه، إلا أنه بدا أكثر جديه من سابقاته وخصوصاً إذا ما ربط بكاريزما ساكن البيت الأبيض الذي ما انفك يبذل كل ما يستطيع في تحطيم هذا الصنم الذي يسمونه الشرعية الدولية.
يمكن لحظ الجدية في المشروع سابق الذكر عبر استحضاره تذكيراً بأن السياق الذي يذهب إليه ليس بجديد على الذهنية الأميركية، ولا هو طارئ على أدبياتها، وإنما هو يغوص في أعماقها إلى عقود مضت، لنراه يعود بالذاكرة إلى رسالة الرئيس الأسبق جيرالد فورد التي وجهها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في عام 1975، وفيها عبر الأول عن أن واشنطن ترى عامل ربط لا تنفصم عراه ما بين انسحاب إسرائيلي مفترض آنذاك من سيناء، واحتفاظ تل أبيب بالسيطرة على مرتفعات الجولان، وكذا يعود بها، أي بالذاكرة، إلى وعد مماثل كان قد قدمه وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر في عام 1991.
التذكير بالوعدين مهم هنا لجهة السياقات التي قادت إليهما، ولفهم السياقات التي قادت نحو الوعد الجديد.
وعد جيرالد فورد كان حصيلة لجولات مكوكية كان يقوم بها وزير الخارجية هنري كيسنجر ما بين القاهرة وتل أبيب أولاً ثم بين دمشق والأخيرة ثانياً لإنضاج اتفاقات فك الاشتباك الأمر الذي حصل في العامين 1973 و1974 على التوالي، آنذاك كان جنين فكرة زيارة السادات لإسرائيل قد بدأ يرتسم، وفي السياق كانت القاهرة قد تلقت وعداً بعودة سيناء شريطة تفهمها لضرورات بقاء الجولان تحت السيطرة الإسرائيلية، أما لماذا هذا الربط الجازم بين الأمرين فذاك يعود إلى نقطة بالغة الحساسية في النظرية التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي، وهي تتلخص أن بالإمكان عزل مصر عن الصراع جغرافيا وراء حدودها حتى ولو استعادت سيناء شريطة أن تكون هذي الأخيرة منزوعة السلاح الأمر الذي يخلق فضاءً أمنياً بعمق يزيد مداه على 300 كم، وفي ذاك فإن مفهوم «القلعة» لن يكون مهدداً، على حين إن من المستحيل عزل سورية عن ذاك الصراع لأنها موجودة فيه بالتاريخ والجغرافيا، وهذا قائم إذا ما كان الجولان محتلاً أم لم يكن، والشاهد هو أن السوريين قد استطاعوا الوصول إلى مشارف بحيرة طبربا في غضون يوم واحد على انطلاق برقية «عواصف تمام» من دمشق إلى القاهرة كناية عن بدء المعركة على الجبهة السورية يوم السادس من تشرين 1973، على الرغم من أن الجولان كان محتلاً، وكان خط «آلون» يمثل هو الآخر وجهاً آخر للغفلة.
هذا التداخل، والفصل، على الجبهتين السورية والمصرية على التوالي مع إسرائيل كان قد ذكره محمد حسنين هيكل في قراءته للوثائق الإسرائيلية الخاصة بحرب حزيران 1967 صيف عام 2000 ونشره على صفحات «وجهات نظر والسفير»، والقراءة تقول: إن تل أبيب كانت تعمد إلى الصيد بطريقة الرمح (الهاربون) التي تقتضي إدماء السمكة عبر ممارسة أقصى درجات العنف على الجبهة المصرية ما يعزز هدف العزل الممكن، على حين إنها كانت تفضل الصيد بالشبكة (النت) التي لا تدمي السمكة على الجبهة السورية أيضاً تعزيزاً لفكرة أن العزل غير ممكن هنا.
وعد جيمس بيكر كان قد جاء في سياقات مؤتمر مدريد للسلام 1991، وفي حينه كانت الاختراقات قد حدثت على المسارين الفلسطيني والأردني، في الوقت الذي بدا فيه من المؤكد أن اختراقاً مماثلاً على المسار السوري سيكون أمراً مستحيلاً، ولذا فقد كان مطلوباً ممارسة أقصى الضغوط على دمشق لأن «لا سلام من دونها» ثم أن الشكوك كانت تسود تل أبيب وواشنطن في إمكان استمرار اتفاق سلام مع الفلسطينيين والأردنيين إذا ما تمنعت دمشق.
وعد ترامب اليوم مؤشر إلى نضوج «صفقة القرن» التي قال مهندسها غاريد كوشنر من الإمارات، وللمنبر دلالاته، في شباط الماضي: إن الإعلان عنها سيكون ما بعد انتخابات الكنيست الإسرائيلي في نيسان المقبل، والراجح أن ذلك سوف يحدث فعلاً مما يمكن تلمسه في مسعى حثيث هدف منذ مده إلى تعرية ما تخفيه، مع لحظ أن فعل التعرية كان قد تسارع مؤخراً بشكل كبير، والشاهد هو أن كتاباً كان قد صدر في واشنطن يوم الثلاثاء الماضي للكاتبة الاستقصائية الأميركية فيكي وارد بعنوان «كوشنر وشركاؤه: الطمع والطموح والفساد» وهو يشير إلى أن الصفقة تقوم أساساً على «السلام الاقتصادي» عبر تحسين أوضاع الفلسطينيين المعيشية ما سيساعد في قبولهم تخفيض سقف طموحاتهم الجغرافية، وتلك مهمة ستكون ملقاة على أكتاف المال الخليجي.
الصفقة وفق ما صاغتها الكاتبة الأميركية من أصول بريطانية هي أشبه بتعديل جزئي على اتفاقية سايكس بيكو 1916، وهي تقضي بتنازلات جغرافية يقدمها الأردن للسلطة الفلسطينية على أن يجري تعويض الأول عن خسائره من أراضي المملكة السعودية التي كانت قد حصلت مسبقاً على تعويضها في جزر تيران وصنافير المصرية، ولربما كان هذا هو ما يفسر مشروع «نيوم» العابر للحدود المصرية السعودية الأردنية الذي أطلقه ولي العهد السعودي في تشرين الأول من عام 2017.
في هذا السياق واضح أن سورية لا تدخل في حسابات الصفقة، الأمر الذي يعني وجوب تعزيز مفهوم أمن القلعة الإسرائيلية في مواجهة مؤكدة سوف تدخلها دمشق وتهدف من خلالها إلى عرقلة الصفقة، ومن المؤكد أن إعلان المتحدثة باسم القيادة الأميركية في أوروبا في الرابع من الشهر الجاري الذي أشارت فيه إلى نشر منظومة صواريخ متطورة من نوع «ثاد» في إسرائيل يصب في هذا الاتجاه، صحيح أن ذلك يقع في سياق أبعد مدى ليطال الصراع مع موسكو والتحضيرات لما بعد تعليق واشنطن لمعاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى الموقعة معها 1987، إلا أنه يأتي ليلحظ تهديدات سيل الصواريخ المحتملة على الجبهتين الشمالية والشرقية، وفي ذلك كله فإن مرتفعات الجولان تبدو خندقاً متقدماً لا يمكن الاستغناء عنه.
وسط هذه التطورات يبرز السؤال الأهم: ما خيارات دمشق المتاحة؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال مقاربة الأمر من زاوية ركوب موجة الشارع أو ردات الفعل الغاضبة، وللأمر حساباته المعقدة، ومن المؤكد أن المعادلات العسكرية وكذا السياسية القائمة لا تسمح بالذهاب بعيداً في خطوة تهدف إلى تغيير الواقع القائم في الجولان راهناً، كما لا يمكن أيضاً التعويل كثيراً على ردات الفعل الواسعة التي أعقبت قرار ترامب والتي كان موقف الخارجية البريطانية أكثرها مدعاة للتوقف عنده، وعلى أهمية تلك المواقف إلا أنه لا يمكن الركون إليها إلا في سياق فعل بعيد المدى، وهي لن تستطيع بالتأكيد لي ذراع الرئيس الأميركي الذي كان بالتأكيد يستمع إليها وهو سعيد إذ يلحظ فيها نحراً ربما أخيراً في نظام دولي لا يريده لأنه لا يراه معبراً عن موازين القوى القائم، ولا هو يحقق المرامي الأميركية من وجهة نظره.
إن أكبر رد يمكن لدمشق أن تذهب إليه هو أن يتبنى مجلس الشعب فيها مرسوماً يعتبر فيه أن الجولان هو قلب سورية على حين فلسطين هي جنوبه، فإذا ما كانت موازين القوى العسكرية والسياسية لا تسمح بتغيير هذا الواقع فليوكل الأمر إذاً إلى الإيدولوجيا التي تضمن توريث الأجيال اللاحقة مهمة تغييره، ولنقل إن المهمة الراهنة هي تحسين شروط القاعدة التي سيتم توريثها إلى تلك الأجيال، وفي الذروة الأكثر إلحاحاً منها الآن اقتلاع الخنجرين الرابضين في إدلب والشمال والشرق السوريين، بل لربما كان هذا الأخير قد بات الأكثر إلحاحاً مما يمكن أن يدفع نحو اعتباره أولوية في المرحلة المقبلة، خصوصاً بعدما تماهت مواقف المبعوث الأممي غير بيدرسون الذي بدا أن مهمته من خلال زيارته الأخيرة لدمشق هي تغيير سلوك نظامها بعد أن كانت مهمة أسلافه هي تغييره من جذوره، مع بيان ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» الصادر يوم الجمعة الماضي الذي أشار إلى أن الحرب على تنظيم داعش سوف تستمر بعمليات «دقيقة» بالتنسيق مع قوات التحالف الدولي، وقبل ذلك كان قد أشار بيدرسون في لقاء مع جريدة الشرق الأوسط نشر في 13 شباط الماضي إلى أن قسد «لاعب مهم في الشمال السوري»، كلا الحالتين هي طلب تمديد أقامة لتلك الميليشيات لا يبدو أنه يملك معطيات القبول.
في 22 كانون الثاني 2015 أعلن وزير الخارجية وليد المعلم أن «سورية ستنتصر والأكراد يجب أن يكونوا جزءاً من انتصارها»، آنذاك لم يلتقط الأكراد اللحظة ولا يبدو أنهم فاعلون اليوم.
الآن وبعدما خرجت التصريحات الكردية عن سياقات السيادة مما يمكن لحظه في ردودها على مؤتمر الأركانات السورية العراقية الإيرانية المنعقد الأسبوع الماضي في دمشق، فإن الحسابات يجب أن تدخل في سياقات أخرى، ومن يدخل السوق لشراء سلعها يجب أن يكون قادراً على دفع ثمنها «كاش»، وعلى الأكراد الآن عد نقودهم قبيل الدخول إلى المتجر الذي يريدون ابتياع «إدارتهم الذاتية» منه!