السجون والمعتقلات الإسرائيلية: مختبرات بحثية طبية ودوائية

السجون والمعتقلات الإسرائيلية: مختبرات بحثية طبية ودوائية

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٩ مارس ٢٠١٩

كشفت البروفيسورة الفلسطينية نادرة شلهوب كيڤوركيان، المحاضِرة في القانون في الجامعة العبريّة، أثناء محاضرتها في جامعة كولومبيا في نيويورك، الشهر الماضي، أن سلطات الاحتلال الاسرائيلي تقوم بإصدار تصاريح لشركات دوائية كبرى لإجراء تجارب واختبارات سريرية على أسرى فلسطينيين وعرب. تمكنت شلهوب كيڤوركيان، بحسب ما صرحت به في محاضرتها تلك، وسابقاً في محاضرة لها في أمستردام في كانون الثاني/يناير، من جمع بيانات تؤكد ذلك أثناء قيامها بأحد المشاريع البحثية في الجامعة العبرية. فما كان من الجامعة العبرية إلا أن أصدرت بياناً تعلن فيه أن ما أتت به البروفيسورة شلهوب لا يمثّل الجامعة ولا تتبنّى أياً منه.
 لا يُعدّ تصريح البروفيسورة نادرة شلهوب كيڤوركيان، هذا، الأول من نوعه في هذا السياق، إذ سبق أن كشف وزير العلوم في دولة العدو، في تسعينيات القرن الماضي، عن مَنْح أكثر من ألف تصريح لشركات دوائية لإجراء اختبارات لأدوية قيد التجريب على «السجناء». تلى ذلك كلامٌ نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» في تموز/يوليو عام 1997 لرئيسة الكنيست آنذاك، داليا ايتزيك، تثني فيه على هذه الخطوة، مشيرةً إلى أن ما يعادل 5000 اختبار قد أُجري حتى تاريخ تصريحها. 
وبحسب ما جاء به الأسير السابق وخبير شؤون الأسرى لدى السلطة الفلسطينية، عبد الناصر فروانة، في العام نفسه، فقد أقرّ الكنيست زيادة في مخصّصات وزارة الصحة الإسرائيلية للطبّ التجريبي، وأن ذلك يمارس بشكل أساسي في السجون والمعتقلات. وثّق فروانة تصريحه بالأرقام، إذ إنّ ثلاثة آلاف أسير فلسطيني، أي حوالى 45% من العدد الكليّ للأسرى في معتقلات نفحة وريمون والنقب، يتعرضون لتجارب دوائية جماعية، فضلاً عن تعرض معتقلي النقب على وجه الخصوص للسموم نتيجة وجودهم على مقربة من مفاعل ديمونا. كذلك صرّح فراونة بأن هذه الممارسات تتم بغطاء قانوني من وزارة الصحة الإسرائيلية التي تقوم بالإشراف والمتابعة وإعداد الدراسات العلمية حول مدى استجابة المعتقلين للأدوية والحقن والمواد الكيميائية التي يتعرضون لها، ودعا فروانة منظمة الصحة العالميّة إلى الضغط على إسرائيل في هذا الخصوص ومتابعة الوضع الصحي للأسرى المحررين من خلال إجراء فحوصات طبيّة دوريّة لتقصّي الآثار المحتملة لأيّ تجارب دوائيّة وسريريّة جرى تطبيقها عليهم. 
بالرجوع إلى القانون الدوليّ لحقوق الإنسان الذي أقرّته الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، تنصّ المادة 13 منه على أنّه لا يجوز تعريض أي أسير حرب للتشويه البدني أو التجارب الطبيّة أو العلميّة أو غير ذلك. 
من جهة أخرى، يُشترط عالمياً، للمشاركة في أيّ دراسة سريرية أو دوائية، أن يتمتع المتطوّع بالإرادة الحرة، وبكامل الحرية لمغادرة الدراسة في أيّ لحظة واعتبار موافقته الخطية على الانضمام للدراسة لاغية. يعطى المتطوع وقتاً كافياً للتفكير وأخذ القرار بناءً على معلومات مفصلة متعلقة بالدراسة يتم تزويده بها مسبقاً من قبل متخصص، مع شرحٍ وافٍ لكل حيثيات الدراسة والأخطار المحتملة. كما يشترط على أي دراسة أن تحصل، بالإضافة إلى المصادقة العلمية والطبية، على موافقة لجان مختصة بحماية حقوق الأفراد بعد تحققها من أن كفة الميزان ترجح لصالح الفوائد بالمقارنة بالأضرار المفترضة أو المحتملة، مع منعٍ مطلق لأيّ دراسة من الممكن أن تتسبب في أذية أو عطب دائم للمتطوعين.
تاريخياً، رفض إيبوقراط، وهو أبو الطبّ، منذ عام 400 ق.م. إجراء تجارب على البشر، إذ كان شائعاً آنذاك إجراء تشريح حيّ على «العبيد» لغايات علمية. عرف التاريخ الحديث سلسلة من الانتهاكات الموثقة، إذ انتشرت في سجن نيوغيت في الولايات المتحدة الأميركية عام 1721 المقايضة من قبل السجناء على تخفيض مدة عقوباتهم مقابل دخولهم في تجارب تتضمن تلقيحهم بجراثيم ممرضة. تكررت هذه الانتهاكات مرات عديدة في القرن التاسع عشر، في أميركا بشكل أساسي، إضافة إلى حوادث سُجّلت في بريطانيا عام 1875، وفي النمسا عام 1899، وكان ضحيتها أطفال. أما الانتهاكات الأكثر شهرة في هذا السياق فقد ارتبطت بالنازيّة، إذ قامت بإجراء اختبارات على الأسرى والضحايا، خصوصاً المصابين منهم بإعاقات ذهنية لاعتبارها أنهم أدنى درجة من المواطنين الأصحاء. كما تضمنت إجراء تجارب للأدوية التي يقومون بتطويرها على اليهود، وأشهر من قام بذلك الطبيب النازي جوزيف مينغل في مخيم اعتقال وتجميع اليهود (Auschwitz Concentration Camp) وغيره في مخيم (Dachau) في أربعينيات القرن الماضي، وقد تمّ كشف ممارساتهم ومحاكمتهم في سلسلة المحاكمات الشهيرة المعروفة باسم «Nuremberg Trials» (نسبةً إلى المدينة الألمانية) والتي جرت أواخر عام 1946 حتى عام 1947. أما التاريخ المعاصر، فقد زخر بحوادث انتهاكات مشابهة، إذ شكلت المعتقلات الأميركية في العراق مسرحاً لاختبارات لشركات الأدوية الأميركية كانت تجرى على المعتقلين. 
تقلّ كلفة إجراء التجارب في الدول النامية أضعافاً عن كلفتها في الدول المتطورة؛ فبحسب ما جاء في مقال للصحافي الفرنسي فيليب شيبو بعنوان «أفريقيا حقل للتجارب» نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية، فإن كلفة إجراء التجارب في أفريقيا تقلّ خمسة أضعاف عن كلفتها في أوروبا أو أميركا، إضافةً إلى أنّ الدول النامية تشكل حواضن لأوبئة وأمراض غير موجودة في الدول المتقدمة، ما يجعل منها مختبرات حيّة لإجراء مروحة واسعة من الاختبارات والتجارب. 
بالعودة إلى الأرض المحتلة، لا تقتصر جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين إذاً على التعذيب الجسدي والنفسي، بل تتخطاها إلى اختبار أسلحة على الفلسطينيين وتجريب أدوية على الأسرى منهم، إذ ترى في تجمعات الفلسطينيين تربةً خصبة لإجراء اختباراتها. في العام 2009، أصدر مركز «سواسية» لحقوق الإنسان تقريراً مفاده أن عدداً من الأسرى الفلسطينيين قد فقد بصره إثر اختبارات طبيّة أجريت في سجون إسرائيليّة. كذلك صرّح الأسير المحرر محمد التاج بأنه تلقّى أدويةً مجهولة المصدر والتركيب خلال الأسر عقب إصابته بتلفٍ في الرئتين وعضلة القلب، بينما صرّح الأسير المحرر زياد شعيبات بتلقيه علاجاً مجهولاً لآلام «الديسك» في ظهره خلال فترة أسره، وفي اليوم التالي همس له الممرض محذراً إياه بطريقة غير مباشرة من الآثار الجانبية لهذا الدواء. عقب خروج شعيبات من الأسر، بدأت الأورام تظهر في أنحاء جسده كافة، وسط عجز طبي عن تقديم العلاج له. من جهة أخرى، سُجّل تلقّي رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني عزيز الدويك، الذي يعاني من داء السكّري وارتفاع ضغط الدم، دواءً منتهي الصلاحيّة خلال إحدى فترات اعتقاله. وبحسب التلفزيون الرسمي الفلسطيني، في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2011، فقد تلقّى الأسرى حُقناً أدت إلى تساقط شعر رؤوسهم ووجوههم بشكل دائم، بينما أصيب آخرون بالعقم وفقد غيرهم صحته. إنّ هذا ما هو إلا غيض من فيض سياسة سلطات الاحتلال تجاه الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والتي تقوم على نظام «الموت البطيء» منذ اللحظة الأولى لأسرهم حتى خروجهم، ولعلّ مرحلة إجراء الاختبارات السريريّة والدوائيّة على هؤلاء الأسرى تعدّ الأخطر في نظام الموت البطيء هذا. 
وبحسب ما جاء في تصريح رئيس هيئة شؤون الأسرى في منظمة التحرير الفلسطينية، عضو البرلمان الفلسطيني عيسى كركي في 31 آذار/مارس 2015، عقب إحدى زياراته للأسرى، فإنّ المرضى منهم هم ضحايا لجرائم قاسية ترتكب بحقهم في السجون. أتبع كركي هذا التصريح بآخر في 12 نيسان/أبريل 2015 أعلن فيه أنّ إسرائيل تقوم بتجارب طبية على الأسرى، وأنه من الوارد بحسب تقديره أنها تقوم بتسميمهم أيضاً. تلى هذا التصريح بيان صدر في التلفزيون الرسمي الفلسطيني في اليوم التالي يفيد بأن السجون الإسرائيلية باتت بؤرة لزرع الأوبئة والأمراض، ومنها الإيدز، في أجسام الأسرى الفلسطينيين ونشرها بينهم. 
وفي العام نفسه، اتّهم سفير فلسطين لدى الأمم المتحدة رياض منصور قوى الأمن الإسرائيلية بسرقة أعضاء من جثامين فلسطينيين قضوا على أيدي القوات الإسرائيلية، وأن الفحوص الشرعية الموثقة بتقارير كانت تبين اختفاء قرنيّة العين وغيرها من الأعضاء. نفى سفير سلطة الاحتلال لدى الأمم المتحدة هذه «الاتهامات»، واضعاً إياها في إطار معاداة الساميّة، متّبعاً ذلك بكتابٍ إلى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، بان كي مون، يدعوه فيه إلى إدانة هذه الاتهامات. 
أما على المستوى العالمي، فقد حذّر روبرت ڤاندربيكن، المستشار الثقافي في الاتحاد التجاري البلجيكي (ACOD) والباحث في جامعة غنت البلجيكية في آب/أغسطس عام 2018 من أن أهالي قطاع غزة لا يتم فقط تجويعهم حتى الموت أو تسميمهم، بل الأمر يتعدى ذلك إلى اختطاف الأطفال منهم ومن ثم قتلهم واستئصال أعضائهم لبيعها أو إجراء تجارب عليها. لم يكن هذا التصريح الأول لڤاندربيكن في هذا الخصوص، إذ سبقه تصريح آخر عام 2009 في الصحيفة السويدية «Aftonbladet»، وهو ما اعتُبرَ تصريحاً معادياً للساميّة بشكل واسع، لتصفه حكومة الاحتلال بأنه أحد الأساليب الجديدة في تلطيخ سمعة الكيان. أما كلاس سميليك، زميل ڤاندربيكن والبروفيسور السابق في مجال الدراسات العبريّة واليهوديّة في جامعة «غنت»، فقد صرّح لموقع «Joods Actueel» البلجيكي اليهودي بأن «ادعاءات» ڤاندربيكن غير مثبتة أو مدعمة بالأدلة، وأنها أعادت إلى الواجهة البروباغاندا القديمة المعادية للساميّة والتي تتهم إسرائيل بتسميم الآبار وقتل الأطفال لاستخدام دمهم في أداء طقوس دينية. وبعد قيام موقع «De Wereld Morgen» بنشر مقال للبروفيسور ڤاندربيكن في هذا الخصوص، عاد ليُتبِعَه بما سمّاه «تصويباً» للمقال السابق، يطلب فيه عدم الربط بين قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي باختطاف وقتل الأطفال الفلسطينيين من جهة واستئصال الأعضاء لزراعتها لاحقاً.
تطول قائمة الانتهاكات، الموثق منها وغير الموثق، وتتباين استراتيجيات المجتمع الدولي في التستّر على هذه الانتهاكات منذ إعلان قيام الكيان الإسرائيلي وما قبل ذلك، لكن يبدو أن القاسم المشترك الوحيد بين هذه الاستراتيجيات، مهما اختلف الزمن وتباينت المعطيات وتبدلت الوجوه والأقنعة، الذهاب بالوقاحة في منحنى تصاعدي يصبح معه كل انتهاك ثانوياً ولا يستحق الذِكر إذا ما قورن نسبياً بآخر تلاه. وريما كُتب علينا إلى أبد الآبدين أن نحمل تبعات «الممارسات النازية» بحق اليهود مرفقةً بمسرحية هزلية تعزو كل سهم يصوَّب إلى الصهيونية إلى عداء تاريخي للسامية. ولعل أول الغيث الذي بدأت تتلقاه هذه السياسة التلميح باعتبار معاداة الصهيونية في فرنسا جرماً يندرج تحت بند معاداة السامية. وربما كُتب علينا أيضاً أن نبقى في موقع المتفرجين الصامتين، المتسمّرين أمام «صندوق الفرجة» ومسرح الدمى المطبِّعة مع الاحتلال، الذي بات عدد دماه التي اعتلت الخشبة يفوق بأشواط عدد التقنيين والمخرجين ممن يديرون العرض من وراء الكواليس. وبعد كل هذا أتساءل إن كان الرأي العام ما زال مقتنعاً بـ«ملائكية» إسرائيل و«إنسانيتها» بعد انتشار خبر تطويرها لعلاج «سحري» وفعال للقضاء على كل أنواع السرطان في زمن قياسي، أم أنها أيضاً لعنة أفلام الخيال العلمي التي تجرّعناها حتى بتنا نصدّقها في لاوعينا. 
* باحثة سورية مقيمة في باريس