جنرالات الجزائر: أسئلة اللحظة الحرجة.. بقلم: عبد الله السناوي

جنرالات الجزائر: أسئلة اللحظة الحرجة.. بقلم: عبد الله السناوي

تحليل وآراء

الخميس، ٤ أبريل ٢٠١٩

توشك الجزائر أن تغلق صفحة من تاريخها الحديث وتبدأ أخرى دون أن يكون واضحاً مدى التغيير المحتمل في بنية الحكم وحجم التعديل الممكن في موازين القوى التي استقرّت لعقود طويلة. بقدر اتساق أي إجابة محتملة مع طلب الحراك الشعبي في الانتقال من عصر إلى عصر لا من رجل إلى آخر يعيد إنتاج نفس النظام تبدأ رحلة التغيير، لكنها لن تكون سهلة ولا ثمارها دانية في جميع السيناريوات الماثلة. كانت الاستقالة الإجبارية للرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة عنواناً رئيسياً لنهاية حقبة سياسية امتدت لعشرين عاماً، غير أنه يصعب الادعاء بأن ركائز النظام تقوّضت الى الأبد. من زاوية موضوعية وصحيحة، فإن الاستقالة ــــ بذاتها ــــ انتصار تاريخي للإرادة العامة التي استشعرت الإهانة البالغة من عهدة رئاسية خامسة لرئيس يعجز بصورة كاملة عن مخاطبة شعبه وممارسة الحد الأدنى من مهماته، أو تمديد عهدته الرابعة باسم الإشراف على مرحلة انتقالية تضع دستوراً جديداً وتؤسس لجمهورية ثانية.
من زاوية أخرى موضوعية وصحيحة، فإن ركائز نظامه لا تزال ماثلة في بنية الدولة، وقد حاولت بأقصى ما تستطيع منع التغيير من أن يصل الى مداه، ناورت في الوقت بدل الضائع لإعداد قرارات تصدر باسمه «لضمان استمرارية سير مؤسسات الدولة أثناء الفترة الانتقالية»، بمعنى أن يفرض الماضي الذي يحتضر وصايته على المستقبل الذي لم يولد.
جوهر الصراع على مستقبل الجزائر يتلخص الآن في سؤال واحد: من يدير المرحلة الانتقالية؟ قبل الاستقالة الإجبارية لبوتفليقة، تبدّت ثلاثة أطراف في مقدمة المشهد تطلب الإمساك بمقود الأحداث والتحكم في مخرجاتها. وكان السؤال ضاغطاً: لمن تكون الكلمة الأولى؟ لقيادة الجيش أم لجماعة الرئيس وشبكة المصالح الملتفة حولها، أم لشخصيات مدنية ذات صدقية وتوافق وطني كما يطالب الحراك الشعبي؟
الذين كانوا يحكمون باسم الرئيس المريض طلبوا الإشراف على المرحلة الانتقالية عبر شخصيات موالية، شكلوا حكومة جديدة في اللحظات الأخيرة، دعوا المجلس الدستوري إلى عدم الاستجابة لطلب قائد الجيش الفريق قايد صالح تفعيل المادة (102) التي تجيز عزل الرئيس عندما يعجز عن ممارسة مهماته. كان ذلك سعياً لترتيبات انتقالية تحفظ شبكة المصالح دون تغيير يذكر، أو إعادة إنتاج النظام مع إدخال بعض التعديلات الاضطرارية بضغط الحراك الشعبي. هكذا بدأ صراع مفتوح بين قيادة الجيش وجماعة الرئيس، وكانت النتائج بحقائق القوة محسومة سلفاً.
أجهضت محاولة انقلاب لإزاحة الفريق قايد صالح، شارك فيها شقيق الرئيس الأصغر ومستشاره سعيد بوتفليقة ورجل الاستخبارات القوي السابق الجنرال محمد مدين الشهير بـ«توفيق» وأطراف أخرى حاولت أن تورّط الرئيس السابق الأمين زروال بإسناد قيادة المرحلة الانتقالية إليه.
فشلت المحاولة الانقلابية كأنها فقاعات صابون، وسارعت أطرافها بإصدار بيانات تتبرأ وتنفي أي صلة بها. وكان لافتاً العبارات الحادة التي وصف بها قايد صالح جماعة الرئيس بأنها «عصابة نهبت البلد واستولت على قيادته» وأدوارها ليست دستورية ولا هي مخولة إعداد قرارات تخص المرحلة الانتقالية بخاتم رئيس مريض. كانت تلك رسالة تومئ إلى احتمال استخدام القوة المسلحة لعزل الرئيس واعتقال من حوله، وقد أفضت فوراً إلى استقالة بوتفليقة.
في رسالة مبكرة على تصفية «جماعة الرئيس»، التي كانت تحكم في ظلال النفوذ والمصالح، بدأت ملاحقة قانونية لنحو خمسين شخصية بتهم الفساد وغسل الأموال. هذا نوع من صراعات السلطة سوف يأخذ مداه.
هكذا تحددت موازين القوة قبل بدء المشهد الافتتاحي للمرحلة الانتقالية.
المشكلة الحقيقية أمام طلب التغيير الجذري أن الحراك الشعبي طاقة، لكن غضبه أكبر من قدرة تنظيمه، فلا قيادة معروفة توجّه حركته ولا خطة تحكم تصرفاته، يعرف ما لا يريد، يتظاهر ضده ويمنعه، وهذا لا يكفي وحده للإمساك بحركة الحوادث وصياغة المستقبل وفق إرادته. الأخطر أن أحزاب المعارضة ضعيفة بأثر تهميشها وحصارها المنهجي، الذي أفقر الحياة السياسية من حيويتها وقدرتها على طرح بدائل تتمتع بثقة الرأي العام، حيث تغيب الحريات العامة بصورة فادحة. في مثل هذه الأجواء المضطربة، يبقى سؤال الجيش حاضراً في المشهد: إلى أي حد يتدخل في المرحلة الانتقالية، وبأي حسابات؟
بحكم إرثه، الذي يعود إلى سنوات الكفاح المسلح، فهو ينظر إلى نفسه باعتباره عموداً فقرياً للدولة وقاعدة الحكم فيها، لكنه محكوم بالحقائق الجديدة التي ولّدتها قوة الحراك الشعبي. هناك قوتان كبيرتان في الجزائر الآن: الجيش والحراك.
في بداية الحراك، حذر قائد الجيش من العودة إلى ما سماها «سنوات الجمر»، قاصداً «العشرية السوداء» التي سادتها أعمال إرهاب وعنف قضت على نحو مئتي ألف جزائري، وكان مثيراً أن ذلك الوصف اقترن بثورة التحرير الوطني الجزائرية. لم يكن استدعاء التوصيف التاريخي في محله، لكنه انعكاس لنوع النظر إلى إرث الثورة. بأي قياس موضوعي، الجيش الحالي ليس هو جيش التحرير الوطني، لكن يظل الإرث ماثلاً في الذاكرة والتصرفات.
بقوة الحراك الشعبي، تغيرت دفة المواقف داخل الجيش من دعم الرئيس إلى المطالبة بعزله والتأهب لتقويض الجماعة التي تحكم باسمه. نحن أمام حقائق مؤسسة لا إرادة منفردة لقائدها، فقايد صالح أقرب مؤيدي الرئيس المستقيل وذراعه اليمنى التي مكنته من إزاحات واسعة لمناهضيه في الأمن والاستخبارات، كما أنه كان من بين محرضيه على تعديلات دستورية عام (2008) مكنته من تمديد رئاسته لأكثر من عهدتين ثالثة ورابعة وكادت أن تكون خامسة.
لا يوجد سر كبير في تغيير المواقف والولاءات، إنها حقائق القوة وإرث المؤسسة التي لا يمكنها أن تقف في مكانها دون أن يكون لها رأي يسمع في الأحداث الجارية.
رغم ما يقال من أن العسكري يتبع السياسي، إلا أن العكس هو ما يحدث في الجزائر، وتدخل الجيش من طبيعة النظام نفسه. هذه حقيقة تاريخية منذ استقلال الجزائر بثورة مسلحة نشأ خلالها جيش التحرير الوطني وقد أخذ تدخله صيغاً مختلفة، بعضها بإملاء الإرادات وتعيين الرئاسات، وبعضها بحركة الدبابات في الشوارع، وقد حدثت مرتين.
الأولى ــــ بقيادة العقيد هواري بومدين على أول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بيلّا في 19 حزيران/ يونيو 1965، وقد أسند للجيش أدواراً أكبر مما كان له من قبل في صناعة القرار السياسي والتحكم في مفاصل الدولة.
الثانية ــــ بقيادة اللواء خالد نزار على الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي أُجبر على الاستقالة في أعقاب اكتساح «جبهة الإنقاذ الإسلامية» الجولة الأولى من الانتخابات النيابية أول تسعينيات القرن الماضي على أنقاض حزب «جبهة التحرير الوطني» الذي ضربه الفساد.
كان ذلك تأسيساً لحرب أهلية امتدت لعشر سنوات، ارتكب الإسلاميون جرائم بحق الإنسانية ومواطنيهم واستباحوا الدماء، فيما وقع الجيش في خطايا رصدت ونشرت بتوسع في الصحافة الفرنسية. ليس بوسع أحد أن يستبعد انقلاباً ثالثاً بحركة الدبابات إذا سُدَّت منافذ التغيير وعجزت القوى السياسية على التوافق وتشتّت إراداتها في صراعاتها.
اللعبة حتى الآن محكومة، فالتظاهرات سلمية، والأطراف جميعها تتجنب أي صدامات، وهذا يحسب لها، غير أن قواعدها قد تختلّ إذا ما دخلت في نفق مرحلة انتقالية مضطربة تستهلك الأحلام الكبرى التي حلّقت في شوارع الجزائر. بقدر طاقة الحراك الشعبي على التماسك وقدرته على بناء التصورات والتوافقات وتحديد ما يريده بالضبط، يمكن تجاوز ثنائية العسكري والسياسي ودخول الجزائر إلى عصر جديد تستحقه وفق قواعد الدولة الحديثة.
*كاتب مصري