الجلاء  المجيد.. معركة الإرادة الوطنية الصلبة ضد المطامع الأجنبية..هتف الشعراء للحرية والنضال، وتغنّوا بالجلاء والاستقلال

الجلاء المجيد.. معركة الإرادة الوطنية الصلبة ضد المطامع الأجنبية..هتف الشعراء للحرية والنضال، وتغنّوا بالجلاء والاستقلال

تحليل وآراء

السبت، ١٩ أبريل ٢٠١٤

محمد مروان مراد
لم تكن معركة الجلاء التي خاضها شعبنا منذ إنذار غورو وحتى رحيله في الخامس عشر من نيسان عام 1946 معركة فصيل سوري، أو طبقة اجتماعية، أو نخب سياسية، بل كانت معركة شعب ناضلت طليعته عقوداً من الزمان لتثبيت الهوية القومية في مواجهة التذويب والقهر القومي والطبقي. وتمكن من تقديم التضحيات المتوالية على مذبح الحرية والتي من دونها لم تكن هناك فرصة للاستقلال والتحرّر، حتى إذا خرج مستعمر جاء آخر أشدّ قوة وفتكاً، وأشد تكالباً على نهب ثروات الأرض العربية وكسر إرادة الأمة الناهضة بعد قرون من الغياب والتغييب عن أي دور حضاري أو دور يعتدّ به تاريخ البشرية.
ولأن الاستقلال والتحرّر إرادة شعب وتطلّع أمّة، فقد تداعت قوى المجتمع وطلائعه المتنورة وتلك القيادات الأمينة على التاريخ والهوية، لأن يقدم كل منها ما عليه، فكانت الساحة تتّسع لكل وطني مخلص.
فمن ميسلون احتفظ السوريون بحق النضال المسلح لتحقيق الجلاء، فالدماء الطاهرة الزكية التي قُدمت في ذلك اليوم المجيد من تاريخ الأمة، أعطت للسوريين حق الرد على المستعمر وحق مقاومته مادام جاء محتلاً، وأينما يكون الاحتلال تكون المقاومة، وظل السوريون أوفياء لدماء شهدائهم الأبرار.
وسيظلون كذلك ما دام هناك محتلّ واحتلال، لأن معركة الجلاء هي الدليل الساطع على حيوية الأمة.
لقد اتخذت معركة الجلاء طابعها الوطني العام، حيث نشبت الثورات في الساحل والداخل في الجبل والسهل، وليس هناك من محافظة سورية إلا وأدّت واجبها الوطني، وقاومت ما استطاعت، فكانت الثورة السورية الكبرى تتويجاً للكفاح المسلح ضد العدو الغاصب، وفي اختيار المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش الدلالات الكبرى على وحدة السوريين قلباً وقالباً، ففي هذا الاختيار الحر من السوريين للباشا ما يؤكد عمق المواطنة ويؤسس لما بعد الاختيار.
وكان من نتائج ذلك، أن أصرّ أبناء الوطن على وحدتهم المتمثّلة برفض الدويلات التي أقيمت من قبل الاستعمار لتفرق وتضعف، وهذه طريقة الاستعمار في كل زمان ومكان، ولمن لن يصدق التاريخ، فإن شواهد الحاضر أكثر بلاغة.
ويدلنا الحاضر على أن العقلية الاستعمارية هي ذاتها في كل زمان، وفي كل مكان لم يتغير شيء فيها، وما الأشكال التي تتخدها إلا نتيجة طبيعية لحجم المقاومة وثقلها النوعي وقدرة هذه المقاومة على كسر معادلة القوة لصالح معادلة الحق.
لم يترك القادة الوطنيون سبيلاً إلا وسلكوه لتحقيق الاستقلال، وكان من ثمار إدراكهم الواعي لطبيعة تلازم النضالين السياسي والجهادي، أن جاء الاستقلال ناجزاً وسط ظروف دولية معروفة، إلا أن ذلك لم يعنِ نهاية المطاف، فقد بدأت معركة الاستقلال الحقيقية بعد خروج المستعمر، إذ كان على السوريين أن يعطوا هذا الجلاء معناه، وأن لا يتركوا فرصة البناء تضيع من يدهم، وكانت سورية أولى الدول العربية المستقلة بقرارها، وما زالت الدولة العصيّة على الاستعمار والتبعيّة والارتهان إلى الخارج، وهذا ما يميز سورية على الدوام ويجعلها في طليعة الدول المناهضة للاستعمار والمناضلة في سبيل حرية الشعوب واستقلالها، وقد دفعت ثمناً غالياً لموقفها هذا. وما نشهده من مواقف استعمارية اليوم معادية لسورية، لا تخرج عن ذلك السياق الذي تحدد من اللاء السورية على الدوام.
إن المعركة التي ما زالت مستمرة، هي تحقيق الجلاء الأكبر، جلاء القوات الإسرائيلية المحتلة عن جولاننا الحبيب، وعودة الجولان للأرض السورية.
وهذا الهدف والغاية في المقدمة من الأماني والتطلّعات، ولن يتحقق السلام ما لم تشهد المنطقة رحيل الاحتلال وزوال آثاره، حتى تنعم هذه المنطقة بالحرية والاستقرار مقدمة لا بدّ منها للتنمية والازدهار.

هتاف الشعراء في عيد الجلاء:
انطوى وجه الغرب عن سماء سورية الحبيبة وجلا المستعمر، راحلاً بقواته الغازية بعيداً عن أرض الوطن، بعد نضال مرير، وتضحيات كبيرة قدّمها شعبنا السوري قرباناً ليوم الحرية والاستقلال والجلاء.
وقد كان للشعراء دور واضح في تحقيق الجلاء، حيث كان لشعرهم أثر كبير في الحضّ والتحريض على مقارعة الاحتلال ومقاومته، فحثّ الشعراء بقصائدهم المناضلين على الوقوف وقفة واحدة في وجه المحتل وإثارة النفس العربية على الصمود، ورفض الاحتلال، يقول سامي البارودي:
«بني وطني فديتكم جميعاً
        أيرضى سيد فيكون عبداً

وقد رام الحليف لنا مماتا
        بتمزيق فراوغ واستبدا

ندافع عن بلاد، عن حقوق
        بموت لا نرى منه مردّا»

إنها دعوة صريحة لنبذ الطائفية البغيضة والتمسك بوحدة الوطن لتحقيق النصر والاستقلال.
وها هو الشاعر (عمر أبو ريشة) يغنّي أناشيد الجلاء:
«من هنا شقّ الهدى أكمامه
        وتهادى موكباً في موكب

وأتى الدنيا فرفّت طربا
        وانتشت من عبقه المنسكب

وتغنّت بالمروءات التي
        عرفتها في فتاها العربي

صيد ضاقت به صحراؤه
        فأعدّته لأفق أرحب

وأمانيه انتفاض الأرض من
        غيهب الذل، وذل الغيهب»

ويتابع في قصيدة أخرى في مدح المجاهد الكبير إبراهيم هنانو:
«وطن عليه من الزمان وقار
        النور ملء شعابه والنار

تغفو أساطير البطولة فوقه
        ويهزّها من مهدها التذكار

فتطلّ من أفق الجهاد قوافل
        مضر يشدُّ ركابها ونزار»

وتندلع الثورات على امتداد سورية ويحمل أبطالنا أرواحهم على أكفهم غير هيابين الموت، فهذا الشهيد البطل يوسف العظمة يُكفّن بدمائه، بعدما أبلى بلاءً حسناً ومعه رفاق تسابقوا إلى الموت من أجل الدفاع عن الوطن، يصوّر استشهادهم الشاعر خليل مردم بك بقوله:
«هوى وحلّته حمراء من دمه
        كالشمس حين هوت في ثوبها الجاري

في فتية نفروا للموت حين بدا
        مواكباً من زرافات وآحاد»

إن شعبنا الوفي جاد بأعلى ما عنده دفاعاً عن الحق والعدل في سبيل أن تحيا بلاده رافعة الرأس شامخة كالجبال، لقد لبّى أبطالنا الميامين دعوة الوطن كما وصفهم الشاعر الكبير سليمان العيسى بقوله:
«ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا

عند الشهيد.. تلاقى الله والبشر

في ساعتين.. خلقنا كلنا بشرا

قبل الشهادة.. لا وجه ولا صور»

لقد أقسم هؤلاء الأبطال أن يؤدّبوا المعتدّين ويلقنوهم درساً لا ينسونه، وفي تلك الساعات الخاطفة المضيئة في عمر التاريخ، انتفضت الشام بكلّ كبريائها وعروبتها وراحت..
«تلقّن المعتدي درساً.. تعلّمه
        كيف الطريق إلى الإنسان يختصر

وكيف تهوى (أساطير).. هياكلها
        في الحي.. بين يدي أبطالنا أكر

وكيف يرجع حق.. ظن سارقه
        أن الشرائع بالسكين تندثر»

وكان صوت الصحفي الوطني نجيب الريّس الذي نظّم في سجنه نشيده الخالد الذي ردّدته الملايين من أجمل ما سُجّل في دفتر الوطن:
«يا ظلام السجن خَيّم
        إننا نهوى الظلاما

ليس بعد السجن إلا
        فجر مجد يتسامى»

لقد هبّ أبناء العروبة من محيطهم إلى خليجهم ووقفوا وقفة رجل واحد لطرد الغزاة المحتلين، ألا يحق لنا أن نمجّد هؤلاء الأبطال الذين استشهدوا في سبيل الوطن وبذلوا أرواحهم فداءً لعزّته وحريّته.
هذا شاعرنا العربي «البردوني» يصوّر الشعب حين يتحدّى المعتدين، وينتزع من غاصبيه الحرية والمجد بقوله:
«هذا الشعب طاف بإنذاره
        على من تحداه واستعبدا

وينتزع الشعب مِن ذابحيه
        ويعطي الخلود الحمى الأخلدا

ويهتف: يا شعب شيّد على
        جماجمنا مجدك الأمجدا»

ويُشرق صباح الجلاء بعد أن تكلل نضال الشعب وتضحياته بالحرية والاستقلال، وانطلقت حناجر الشعراء لتصف أحاسيس قومهم بفرحة الاستقلال الذي عُمِّد بدماء الشهداء، ها هو شفيق جبري يصف فرحة الجلاء:
«حلم على جنبات الشام أم عيد
        لا الهمُّ هَمٌّ ولا التّسهيد تّسهيد

أتكذب العين والرايات خافقة
        أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد»

ويهتف «عمر أبو ريشة» للجلاء:
«يا عروس المجد تيهي واسحبي
        في مغانينا ذيول الشهب

لن تَرَي حفنة رمل فوقها
        لم تُعطَّر بدم حرٍّ أبي

لا يموت الحق، مهما لَطَمتْ
        عارِضَيْه قبضة المغتصب»

ويُنشد عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) للجلاء الذي حطم القيود وأصبح الإنسان حرّاً كريماً:
النجوم العربية
خفقت في كل قلب عربي
هتفت يوم جلاء الأجنبي
أنا صافحت الخلود
أنا حطّمت القيود
سمع الدهر أهازيج الجلاء
وجلا للكون تاريخ الفداء
فاشهدي يا أمتي خفق اللواء
وانثري الأنجم في كل سماء
لقد كان الشعر معبّراً صادقاً عن نضالات الشعب العربي ضد الاستعمار، وعن مظاهر الابتهاج والفرح التي عاشها مع نشوة الانتصار العظيم وتحقيق الاستقلال.
فليهنأ الشعب بعيده المجيد، ولترتفع راية الحرية عالية في سماء الوطن على مدار الزمان.