أدب الصمت.. بقلم: فادي برهان

أدب الصمت.. بقلم: فادي برهان

تحليل وآراء

الخميس، ٢٧ نوفمبر ٢٠١٤

الصمت هدوءٌ واتزان وتفكرٌ وتأمل وحساباتٌ دقيقة قبل أن يطلق المرء كلامه جزافاً، لأنّه أسير كلامه (فليقل خيراً أو ليصمت).
 وأول درجات سلم الارتقاء في مدارج العروج إلى الكمال لأنه لن يعرج ثرثارٌ ولن يتقدم فضوليٌ لطالما شغل نفسه بالكلام والثرثرة دون أن يدري عواقبها ودون أن يدرك أنّ إلقاء الكلام في غير محله سيودي به إلى مصير مجهول،  فاللسان شر الأعضاء، به يرقى الإنسان وبه يهوي إلى أسفل سافلين.
والغريب في أمر البشر أنهم يبخلون أو يقتصدون بكل ما لديهم إلا في الكلام فهم ينفقونه في كل اتجاه ويلقونه اعتباطاً يمنةً ويسرة غير آبهين بما سينتجه كلامهم من مصائب أو كوارث، فالحديث أو الحاجة التي تُقضى بعشر كلمات ينفقون في سبيلها آلاف الكلمات ويطيلون الشرح ويكرّرون الفكرة ويؤكدون عليها ويضربون لها الأمثلة ويسوّقون لها التعابير والجمل والكلمات الجزلة والسهلة التي يعتقدون أنها تقنع المقابل، وحتى لو كان مقتنعاً وأبدى كل الاستعداد لتنفيذ فكرتهم إلا أنهم يتخيلون أن كثرة الكلام والتساؤل والتأكيد ما هي إلا مواثيق غليظة يربطون المقابل بها لكي لا يتخلى عن فكرتهم ويتربصون به من كل حدب وصوب ليسدّوا عليه المنافذ والفرجات ويجبروه أو يلزموه على حل مشكلتهم أو التوسط لأجلها، متجاهلين أنهم وبكثرة إلحاحهم وإصرارهم إنما ينفّرون حتى المتعاطف معهم فيصبح دون أن يدري خصمهم، وهم بذلك ينقلبون من صاحب حاجة إلى فظٍ غليظ القلب سرعان ما ينفضّ الناس من حوله ويغادرونه لكثرة كلامه وثرثرته.
 والمعروف أنّ العاقل إنما يقضي حاجته أو يروي حادثته بما يضمن حلّها بلا إطالة واستطالة فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ والإطالة والكثرة لا تجدي نفعاً ولا تسوق حلاً ولا تأتي بخير سوى أنها تستجرّ الملل والضجر للمستمع وتوتر له نفسيته وأعصابه فتعيق تفكيره عن استنباط الحل وتشتت أفكاره وتأملاته وتمنعه من تفكيك المشكلة إلى عناصرها الأولية تمهيداً لحلها، ولذا فقد أفلح من استطاع أن يضبط نفسه عن فضول الكلام ويعطي الفكرة حقها بلا زيادة أو نقصان فتستوفي معناها وقد قال رسول الله (ص): ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن: الصمت وحسن الخلق وقيل للمسيح (ع) دلنا على عمل ندخل به الجنة، قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك قال: فلا تنطقوا إلا بخير، وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) في حكمة آل داود على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه.
 فإنّ كان لك حاجة عند أحدهم أو أردت أن تقصده بخدمة فاعلم أنك بإطالة الكلام إنما تجلب على نفسك المذمة وتقطع طريق الحل فإن أردت عرض حاجتك أو الكلام في مشكلتك فليكن كلامك مختصراً بلا إطالة ولا أمثلة، ولا تُدخل في حديثك قصصاً وروايات أجنبية عن قضيتك وتكثر من تسويق الأدلة أو تذهب في قضيتك إلى ماضِ سحيق فتبدأ بشرح قصتك منذ أيام صباك معتقداً أنك تستدر عطف المستمع إن سمع عن معاناتك وشقائك منذ سنواتك الأولى وليكن كلامك مع من تحتمل أنه قادر على قضاء حاجتك أو يستجيب لخدمتك لكي لا تعرضها على كل بعيد وقريب فتنقلب إلى صاحب شكوى يعرضها على كل من يلقاه ممن لا دخل ولا اختصاص له كمريضٍ أثّر فيه مرضه فأصبح يحدث كل من يصادفه ممن ليس له أدنى إلمام بالطب دون أن يدرك أنّ شفاءه بإذن الله على يد الطبيب وليس على يد الباعة أو النحاسين أو صانعي الخبز والحلويات فإنّ صنت لسانك صانك وإن تركته يلقي الكلام على عواهنه استجرّ عليك الويلات والمصائب وصدق رسول الله (ص) إذ قال: من عضّ على شبدعه سلم من الآثام.