رياح التغيير في السياسة السعودية

رياح التغيير في السياسة السعودية

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٣ مارس ٢٠١٥

ثمة تغير مهم في السياسة السعودية يتعين على مصر أن ترصده وأن تتحسب له.

(1)

حين زار الرئيس عبدالفتاح السيسي الرياض هذا الأسبوع في وجود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالمملكة، فإن الرئيسين لم يلتقيا حقا، ولم يتواجدا في العاصمة السعودية في الوقت ذاته (أردوغان ذهب لأداء العمرة). إلا أن تنظيم الزيارتين في وقت واحد لم يخلُ من رسالة حرصت المملكة على توجيهها. وكانت خلاصة الرسالة ان وقوف الرياض إلى جانب مصر، لا يعني مخاصمة تركيا، باعتبار أن سياسة المملكة في عهدها الجديد لها حسابات مغايرة ورؤية مختلفة لمستقبل الشرق الأوسط.

عند الحد الأدنى، فهي أولاً مع الاحتواء وضد الاستقطاب. وهي ثانيا ترى أن من مصلحة المملكة ومصلحة المنطقة ان يعاد رسم تحالفاتها من جديد لمواجهة التحديات الطارئة في الساحة، التي أصبحت تهدد الجميع بدرجات متفاوتة. وفي ما فهمته من مصدر وثيق الصلة بدائرة القرار في الرياض، فإن هذا الموضوع محل دراسة متأنية، ستعلن نتائجها خلال الأسابيع وربما الأيام القليلة المقبلة. والقدر الذي اتضح حتى الآن أن التوجه المنتظر سوف يشمل تغييرا هادئا في السياسات وفى الأشخاص. وسوف يقتضي ذلك إحداث تغير في منصب وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل (75 سنة) الذي يشغل منصبه منذ نحو أربعين عاما، خصوصا انه كان قد طلب مرات عدة اعفاءه من المنصب لظروفه الصحية، وقد اضطر في شهر كانون الثاني الماضي لإجراء عملية جراحية كبيرة في فقرات الظهر بالولايات المتحدة، لا يزال يُعالج من آثارها.

وقيل لي إن السفير السعودي بالقاهرة، أحمد عبدالعزيز القطان، مرشح للتغيير بدوره لأنه يمثل مرحلة في السياسة الخارجية السعودية يُعاد رسمها من جديد، إلا أنه رؤي تأجيل إصدار قرار بهذا الشأن في الوقت الراهن، على الأقل لحين بلورة رؤية العهد الجديد بصورة نهائية.

(2)

معالم التغيير بدت في السياسة الداخلية السعودية قبل السياسة الخارجية، ذلك انه خلال الأسبوع الذي أعقب إعلان وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أصدر خلفه الملك سلمان 34 أمرا ملكيا تعلقت بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في البلاد. بعضها تعلق بالمناصب العليا في الدولة، والبعض الآخر أعاد تشكيل مؤسسات الداخل (تم إدماج عشر مؤسسات عامة في مؤسستين اثنتين فقط)، والبعض الثالث انصب على زيادة أجور ومعاشات العاملين. وكان واضحا ان تلك القرارات قد سبق إعدادها خلال الفترة التي كان فيها الملك الراحل مغيبا عن الوعي، وهي التي استمرت أسبوعا قبل الإعلان الرسمي عن وفاته (في 23 كانون الثاني الماضي).

وإضافة إلى محاولة هز الجهاز الحكومي في الداخل وتطعيم الحكومة ببعض الخبرات الشابة، فإن فريق الملك الجديد عمل على تغيير الأجواء العامة عن طريق إحداث نوع من الانفراج النسبي في قضية الحريات. إذ لوحظ مثلا ان بعض الدعاة الذين سبق أن صودرت جوازات سفرهم أعيدت لهم تلك الجوازات (أشهرهم الشيخ سلمان العودة).

كما ان إمام الحرم الشيخ سعود الشريم الذي منع من الإمامة ومن إلقاء خطبة الجمعة بسبب اتهامه بميوله الإخوانية، أعيد بدوره إلى عمله مرة أخرى. كذلك تم إيقاف تنفيذ حكم الجلد الذي صدر بحق المدون السعودي رائف بدوي. وبعد وقف الإعلامي والكاتب السعودي داوود الشريان عن ممارسة الكتابة، فإنه عاد إلى كتابة زاويته اليومية بجريدة «الحياة» اللندنية. وفى أول عمود له نشر يوم الأحد الماضي الأول من آذار، انتقد التضييق على أصحاب الآراء المستقلة. وقال اننا في العالم العربي أصبحنا نتمثل مقولة جورج بوش الابن الشهيرة «من ليس معي فهو ضدي»، مضيفا ان الشــك والخوف استبدا بنا بحـــيث «لم نعد نحتمل الرأي المستقل وان كان صامتا».

(3)

بعد رحيل الملك عبدالله، ثار لغط كبير حول توجهات السياسة الخارجية للملك الجديد، وتحدث ديفيد هيرست المحلل البريطاني البارز عما أسماه «انقلاب في القصر» في تقرير نشر على موقع «هفنغتون» الشهير في 31 كانون الثاني، وفيه أشار إلى التقارب المحتمل للسعودية مع كل من تركيا وقطر، والاتجاه إلى استعادة الدور التقليدي الذى طالما قامت به المملكة بين «فتح» و «حماس». ونوَّه إلى احتمال حدوث تغير نوعي في المساندة التي قدمتها الرياض للنظام في مصر. وبرغم ان هذا الكلام كان مبكرا نسبيا، لأنه صدر بعد نحو أسبوع من وفاة الملك عبدالله، إلا أن صدقيته تأكدت حين نشر الكاتب السعودي جمال خاشقجي مقالة في اليوم ذاته بجريدة «الحياة»، كان عنوانها «لكل زمان دولة ورجال.. وسياسة خارجية».

لفت الانتباه إلى ان الكاتب استخدم في مقالته لغة جديدة نسبيا، إذ تحدث عن فشل السياسات السابقة السعودية والأميركية في وقف الانهيار الحاصل في المنطقة. وأرجع ذلك إلى ان التنسيق والتعاون بين الدول الثلاث المؤهلة لوقف ذلك الانهيار لم يكونا جيدَين وربما لم يكونا موجودَين. أما الدول الثلاث التي أشار إليها فهي المملكة السعودية والولايات المتحدة وتركيا. وفي سياق حديثه عن انهيار الأوضاع في العالم العربي، فإن إشارته إلى مصر لم تكن إيجابية، إذ قال ان «أوضاعها لا تبشر بخير».

وفي النهاية، فإنه وجد الحل في اقتراح غرفة عمليات مشتركة سعودية ـ أميركية ـ تركية وظيفتها إطفاء حرائق المنطقة وتحقيق الاستقرار والمصالحة بين أطرافها. الكلام الأكثر تفصيلا الذي تناول الشأن المصري، ورد في مقالة خالد الدخيل، الكاتب البارز والأكاديمي المعروف، الذي نشرته له جريدة «الحياة» في 1/3 الحالي تحت عنوان «التحول السعودي والقلق المصري». في مقالته، نوه إلى تأكيد الملك سلمان بن عبدالعزيز على ان الدعم السعودي لمصر لن يتغير، لكن المشكلة كما رآها هي في اسلوب الدعم وإطاره، لأن البعض في مصر ـ والكلام له ــ يريد الدعم ان يكون هِبَةً وَشِيكًا على بياض، بحيث لا ينبغي للسعودية ان تتقارب مع تركيا مثلا لأنها تتعاطف مع «الإخوان». وهو ما اعتبره تجاهلا لبديهية ان علاقات الدول لا تقوم على مثل هذه الرؤية «العاطفية». في حين ان الرؤية السياسية الأكثر عقلانية تقضى بعدم ارتهان علاقات البلدين لا للموقف من «الإخوان» ولا للموقف من تركيا. «فإذا كان استقرار مصر هو مصلحة استراتيجية سعودية، وهو كذلك، فمن واجب السعودية ان تتعامل مع «الإخوان» كمسألة محلية مصرية في الأساس، وان تقاربها من زاوية تأثيرها في استقرار مصر أولا، ثم تداعيات ذلك إقليميا وبالتالي عليها ثانياً. من الزاوية ذاتها، فإن استمرار السعودية في الابتعاد عن تركيا كما يريد البعض في مصر لا يخدم التوازنات الإقليمية في المرحلة الراهنة. وهذه التوازنات هي الأساس الأول لاستقرار المنطقة، وبالتالي استقرار مصر».

أضاف الكاتب أن قضية جماعة «الإخوان» «تحولت في مصر إلى نوع من العقدة الفكرية والسياسية. عقدة مدمرة تحتاج إلى شيء من التفكيك والتمييز بين مبررات الموقف من الجماعة ومتطلبات مصلحة الدولة على المستوى الإقليمي.. ثم ان تضخم قضية «الإخوان» على ذلك النحو هو نتيجة طبيعية لغياب مشروع فكري وسياسي مصري تلتف حوله أغلبية المصريين». وفي ختام مقالته، ذكر الدخيل ان الحاجة ملحة لإقامة مثلث سعودي ـ مصري ـ تركي يمثل مصلحة استراتيجية للأطراف الثلاثة. فهي في رأيه أطراف تتكامل في ما بينها سياسيا واقتصاديا، والتنسيق بينها سيعيد إلى المنطقة شيئا من التوازن بعد سقوط العراق وسوريا، إلى جانب انه سيشكل حاجزا أمام الدور الإيراني الزاحف، ومستهدفا تأسيس حالة من الاستقرار في خضم المرحلة المضطربة حالياً.

(4)

الحاصل في اليمن يمثل الآن أهم تحدٍ خارجي يواجه نظام الملك سلمان، ذلك ان استيلاء الحوثيين المدعومين من إيران على السلطة بمثابة تهديد مباشر لأمن المملكة، فضلا عن أنه يوفر مناخا مواتيا لانتشار تنظيم «القاعدة» التي تتمركز بعض قواعده في الجنوب. وإذا أضفنا أن جماعة «داعش» أصبح لها حضورها في شمال البلاد، فإن ذلك يضيف تعقيدا جديدا على المشهد. ومن المصادفات ان ما جرى في اليمن من تغيير وتهديد لأمن السعودية يشبه في بعض جوانبه ما جرى في ليبيا واعتبرته مصر تهديدا لأمنها، فالجماعات الإرهابية لها وجودها بدورها في ليبيا، وكما ان هناك حكومتين ليبيتين إحداهما في طبرق والثانية في طرابلس، كذلك الحال في اليمن. حيث يسيطر الحوثيون على السلطة في صنعاء في حين أن الرئيس الشرعي موجود في عدن. وفى الحالتين فإن شبح الحرب الأهلية ليس مستبعدا، كما ان احتمالات التشرذم والتفتيت واردة.

في الوضع الجديد، كيف تصرفت القيادة في السعودية إزاء المخاطر التي لاحت في اليمن؟

برغم ان المملكة لها علاقاتها الوثيقة مع شيوخ القبائل اليمنية، إلا أنها انحازت إلى فكرة الحل السياسي واستبعدت تماماً أي تفكير في الحل أو الحشد العسكري. وبرغم تأييدها للرئيس عبدالله منصور، إلا أنها انطلقت من ضرورة اجتماع كل الأطراف بمن فيهم الحوثيون للاتفاق على مخرج من الأزمة. واثار الانتباه في هذا الصدد ان اتصالاتها مع مختلف الأطراف شملت «التجمع اليمنى للإصلاح» ــ الأقرب إلى جماعة «الإخوان» ـ نظرا لقدرته على تحريك الشارع الصنعاني، إضافة إلى حضوره القوي في محيط القبائل. وكانت العلاقة بين الطرفين قد أصابها فتور كبير خلال السنوات الأخيرة. وقد سجل هذه الملاحظة الكاتب السعودي جمال خاشقجي، معتبراً أن المملكة في ظل سياستها الخارجية الجديدة «تحررت من قيود كانت قد فرضتها على نفسها في السابق» ــ (الحياة ــ 18/2). الشاهد ان عملية مراجعة خطوط السياسة الخارجية للمملكة شملت العديد من دوائر العلاقات. وانطلقت من فكرة السعي للاحتواء وتجاوز حالة الاستقطاب التي حكمت علاقاتها في السنوات الأخيرة. في هذا السياق، فإن الجمود أو الموات الذي ران على علاقة المملكة بحركة «حماس» خلال السنوات الثلاث الماضية بوجه أخص دبت فيه الحياة في الأسابيع الأخيرة، وقال لي المصدر السعودي المتصل بدائرة القرار ان الجليد ذاب على الأقل، وان استعادة الدفء في علاقات الطرفين تتبلور في هدوء بمضي الوقت.

كيف ستؤثر تلك المتغيرات في الأوضاع في الخليج؟ وكيف ستتعامل معها مصر؟ غيري سيجيب عن هذه الأسئلة خلال الأسابيع المقبلة.