التدخّل التركي في جرابلس: إنهاء للفدرالية أم إعادة رسم حدودها؟..بقلم: محمد صالح الفتيح

التدخّل التركي في جرابلس: إنهاء للفدرالية أم إعادة رسم حدودها؟..بقلم: محمد صالح الفتيح

تحليل وآراء

السبت، ٢٧ أغسطس ٢٠١٦

حصل الأميركيون والأتراك، كلٌ من منظوره، على ما يريد. الأتراك أرادوا منذ فترة طويلة جداً أن تكون هناك منطقةٌ عازلةٌ في سوريا، لكنهم أرادوا أن تنفذها جهةٌ أخرى، الولايات المتحدة أو «حلف الأطلسي». لا يعود ذلك لأن الأتراك لم يريدوا أن يتحمّلوا وحدهم التكلفة أو المخاطرة، بل أيضاً لأن علاقة حكومة «العدالة والتنمية» بالجيش التركي لم تكن بأفضل أحوالها لتنفيذ مثل هذه الخطوة، فالتدخل العسكري في سوريا لم يكن منسجماً تماماً مع عقيدة الجيش التركي، وكذلك لم تكن الحكومة التركية تثق تماماً بالقيادة العسكرية. أما الآن، فقد تغير الأمر بعد حملات تطهير عدة في صفوف قيادات الجيش التركي، أكبرها وأكثرها دمويةً بالطبع كانت في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة. أما الأميركيون فلم يمانعوا يوماً أن تكون هناك منطقة عازلة في سوريا ولكنهم، أيضاً، حاولوا التهرب من التكلفة والمسؤولية، لاسيما بعد التورط المكلف في العراق وفي عملية «فجر الأوديسة» في ليبيا التي وجدت الولايات المتحدة أنها انتهت إلى تحمّل العبء الأكبر من تكاليفها.
ولطالما اعتبر الرئيس الأميركي أن «حلفاء» الولايات المتحدة في الشرق الأوسط اعتادوا أن يكونوا «ركاباً بالمجان» على حساب بلاده. التقدير السلبي لدى أوباما للرئيس التركي أردوغان يعود تحديداً، كما كشف جيفري غولبيرغ في مجلة «ذا اتلانتك» في نيسان الماضي، إلى أن أردوغان «رفض إرسال جيشه الهائل لجلب الاستقرار إلى سوريا». إذاً أرادت واشنطن أن يدخل الجيش التركي سوريا ولكن إذا ما رفض الأتراك ذلك فلا داعي لأن تتحرك واشنطن. ولكن الموقف الأميركي تغير في أعقاب الدخول الروسي٬ إذ وجدت الإدارة الأميركية نفسها تتلقى اللوم من التيار المعادي لروسيا، في وزارة الدفاع وهيئة الأركان المشتركة ومجمع الاستخبارات، الذي اعتبر أن تراخي واشنطن سمح لموسكو بالتحرك وملء الفراغ في منطقة حيوية للغاية.
الطريق إلى جرابلس
في حزيران 2015، حذرت أنقرة «وحدات حماية الشعب»، التابعة لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» (الكردي)، من محاولة تجاوز خطوط أنقرة الحمراء وعبور نهر الفرات غرباً. عبور الفرات وربط «الكانتونات» الكردية، في القامشلي وعين العرب، شرق الفرات، بعفرين غربه، هو حلم كردي طموح للغاية تحول دون تحقيقه حقائق ديموغرافية، إضافةً بالطبع إلى الخط الأحمر التركي. لهذا لم يعبر الأكراد حينها نهر الفرات. إلا أن قرار الولايات المتحدة في 9 تشرين الأول 2015، في أعقاب انطلاق العمليات الروسية في 30 أيلول، بإلغاء برامج تدريب المعارضة السورية والانتقال إلى دعم الفصائل التي تقاتل على الأرض، غيّر حظوظ الأكراد الذين أعلنوا بعد ثلاثة أيام فقط، في 12 تشرين الأول، عن تشكيل «قوات سوريا الديموقراطية» التي من أهدافها التصدي لتنظيم «داعش». مع حلول نهاية العام كانت هذه القوات قد تقدمت لتسيطر على سد تشرين ولتحصل على معبر إلى غرب الفرات. هنا أيضاً اضطر الأتراك لتغيير موقفهم. بحسب ما يتوافر من معلومات الآن، فقد طلب الأتراك من الأميركيين مهلةً لإنجاز مهمة إبعاد تنظيم «داعش» عن الحدود في منطقة غرب الفرات. وافق الأميركيون ومنحوا الأتراك ستة أشهر لإنجاز المهمة، ولطمأنة المخاوف التركية، سُحبت القوات الكردية من سد تشرين واستبدلت بقوات عربية من منبج، تعود لما كان يُعرَف بتشكيل «جند الحرمين»، وفي شرق الفرات أيضاً حلت قوات عربية من مجموعة «لواء ثوار الرقة» محل القوات الكردية. ولكن مهلة الأشهر الستة انقضت من دون أن تنجز تركيا المهمة، إذ إن تركيا لجأت للتدخل بشكل غير مباشر عبر دعم بعض الفصائل في وجه تنظيم «داعش» شرق منطقة عفرين.
ومع فشل تركيا، عادت الولايات المتحدة وأوعزت لـ»قوات سوريا الديموقراطية» بالتحرك غرب الفرات، وزوّدتها بالجسور العائمة والزوارق اللازمة لعبور الخط الأحمر التركي. وبعد شهرين تقريباً من القتال المرير سقطت منبج وانسحب الباقون من مقاتلي «داعش» نحو جرابلس في الشمال، وبدأت «قوات سوريا الديمقراطية» التقدم إلى جرابلس أيضاً. هنا لم يعُد من الممكن أن يقف الأتراك مكتوفي الأيدي أو أن يعتمدوا على بعض أدواتهم التي أثبتت فشلها، فكان لا بد من أن يباشروا المسألة بأنفسهم. فجأةً قرر الأكراد التوقف عن التقدم إلى جرابلس والعودة إلى الشرق، إلى الحسكة، لفتح صراع مؤجَّل، وهو الصراع مع الحكومة السورية لفتح نقاش حول الفدرالية. وفي غضون ذلك الوقت كانت أرتال «داعش» تنسحب من جرابلس، ممهدةً الطريق لدخول الدبابات التركية التي ستحقق، شكلياً، أحد أسرع الانتصارات في وجه تنظيم «داعش».
لا بد أن أردوغان مزهوّ للغاية وقد دخلت القوات التركية شمال حلب، وسط عزف الأناشيد الحربية العثمانية، بعد خمسمئة عام تماماً على معركة مرج دابق، التي وقعت إلى الغرب قليلاً من جرابلس. ولكن باستثناء التاريخ، لا يوجد شبه بين التاريخَيْن لناحية الحجم أو الزخم، أو كونه تعبيراً عن الإرادة التركية. فالقوات التركية التي تتسلل بالتدريج إلى شمال حلب إنما تُنفذ الإرادة الأميركية التي تلاعبت بالجميع، بالأكراد والأتراك. ولعل المهم أكثر في توقيت «استلام» جرابلس، هو أنه حصل في يوم وصول نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تركيا، وهي الزيارة التي اُعلن عنها قبل شهر. بعد اللقاء تتالت التصريحات الأميركية التي تعلن أن الأكراد سينسحبون إلى شرق الفرات. وفي خلفية هذا المشهد الدراماتيكي، خرجت تحذيرات صالح مسلم من التورط التركي في المستنقع السوري وشجب ريدور خليل الاعتداء السافر على السيادة السورية!
مستقبل الفدرالية
بدخول القوات التركية إلى جرابلس، وفي ظل تواتر الأنباء عن أن هذه القوات ستتابع التقدم نحو منبج، وستعمل غالباً على التوجه غرباً إلى عفرين، ستتغير الخريطة الكردية الطموحة. ولكن لنتذكّر جيداً أن الأكراد والأتراك يتحـــرّكون، كما نرى، كما يريد لهم المايسترو الأميركي. لنتذكر هنا، أن تركيا تحتل، منذ 22 شباط 2015، قريةً سورية اسمها «أشمة»، غرب عين العرب، وهي القرية التي نُقل إليها ضريح سليمان شاه، ولنــــتذكر أن القــوات التركية يومها دخلت عبر معبر «مرشد بينار» الـــذي كان تحت سيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية.
الأتراك واقعيون للغاية، إذ إنهم تحركوا فقط نحو جرابلس التي كانوا قد حذروا الأكراد من الاقتراب منها، وكان الأتراك أيضاً قد هدّدوا بشكل جدي بالتدخل إذا ما حاول الأكراد في عفرين السيطرة على أعزاز. ويبدو أن الخط الأحمر التركي هو فقط المستطيل الواقع غرب الفرات، بين جرابلس وعفرين، على امتداد الحدود التركية السورية. إذ لم يدل الأتراك بأي تصريح واضح يرسم خطاً أحمر ضد مشاريع الإدارة الذاتية الكردية الأخرى. ويبدو أن تركيا تعتقد، وإن على مضض، أنه من الصعب جداً إعادة عقارب ساعة المشروع الكردي، ولهذا قد يكون من الأفضل أن تعمل على ضمان حصة لها، بطريقة ما، من التراب السوري.
ربما يفسّر هذا أيضاً عدم قيام أنقرة بالتنسيق مع دمشق خلال الأيام الماضية، بحيث تضغط دمشق على الأكراد، الذين بدأوا القتال في الحسكة، وفي الوقت نفسه تتـــقدم القوات التركية إلى جرابلس ومحيطها، فيظهر المشروع الكردي وقد تلقى ضربتين من الشرق والغرب. ولكن هذا لم يحصل. ولا حاجة للتذكير بما حصل في الحسكة. قبول دمشق باتفاق جديد للتهدئة مع الأكراد، برغم أن الأكــــراد كانوا قد خرقوا الاتفاق الأول بعد ساعات فقط، لا يشي بأن دمشق كانت قد أُبلغت بالخطوة الــتركية٬ وإلا لكانت قد حاولت الاستفادة من هذه المعلومة للضغط على الأكراد، على الأقل خلال المفاوضات.
هل حُسم أمر الفدرالية؟ لا، ليس بعد. ولكن ما أصبحنا متيقنين منه هو أنه لا يمكن التعويل على الآخرين للحيلولة دون تطوّر المشروع الفدرالي، والانفصالي لاحقاً. المسؤولية مسؤولية السوريين أولاً وأخيراً، والقرار قرارهم.