حول رؤية واشنطن لاجتماع أستانة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

حول رؤية واشنطن لاجتماع أستانة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٤ يناير ٢٠١٧

دعوة موسكو الموجهة للولايات المتحدة لحضور مؤتمر أستنة 23/1/2017 بالطريقة التي تمت بها لا تعكس الثقل الحقيقي للقوة العظمى رقم (1) في العالم، الأمر الذي سيدفع – وقد دفع- إلى استفزازها ومن ثم العمل على «خربطة» الطرقات المؤدية إلى العاصمة الكازاخستانية ولربما أيضاً الطرقات المؤدية من هذه الأخيرة إلى جنيف المزمع عقده 8/2/2017، ومن الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة الإسلامية على مواقع الجيش السوري في دير الزور بدءاً من 13/1/2017 ولا يزال إلا تباشير لـ«الخربطة» الأميركية ولا يمكن بأي حال أن تفهم تلك الاندفاعات بعيداً عن حالة عدم الرضا الأميركي، ففي أعقاب اتفاق لافروف – كيري 9/9/2016 الذي كان يمثل من الناحية العملية مظلة دولية للمطالب الروسية في سورية، كانت عملية استهداف طيران التحالف لمواقع الجيش السوري في تلال الثردة 17/9/2016 التي كانت تؤمن حماية مطار دير الزور ولربما كان خير دليل على صحة هذه الفرضية هو القرار الذي اتخذته الحكومة الدنماركية بسحب مقاتلاتها من التحالف الذي تتزعمه واشنطن ضد داعش 21/9/2016 عندما اتضحت الرؤيا بشكل جيد، وفي أعقاب اتضاح الرؤيا (مؤخراً) حول المآلات التي يريد مؤتمر الأستنة الوصول إليها جاءت هجمات داعش في دير الزور التي لا تزال خطورتها قائمة وتهدد بسيطرة هذا الأخير على كامل المدينة.
من دون أدنى شك تعتبر ردود الفعل سابقة الذكر حالة اعتراض أميركية على تهميش الدور الأميركي في سورية، ولا ينفي ما كان يقال عن وجود «توكيل» أميركي لموسكو كان قد أكده دونالد ترامب في خطابه الذي ألقاه في أعقاب أدائه اليمين الدستورية 20/1/2017 تضرر واشنطن جراء استبعادها عن مسارات التسوية السورية التي ترى فيها (وكذلك الكثيرون) محطة سوف تترك بصماتها الدائمة على نظام دولي جديد بدأ يتضح العديد من ملامحه مع كل اختناق- أو انفراج- في مسار الحرب السورية المستمرة منذ ما يقرب من ست سنوات.
بالتأكيد لا يحتاج القول بدعم إدارة أوباما لداعش إلى المزيد من الأدلة أو البراهين عليه وهو أمر لا تدحضه الضربات التي كانت توجهها واشنطن إلى مواقع التنظيم وهي في أغلبها ذات طابع «جراحي» وغاياتها لا ترقى إلى إضعاف هذا الأخير فهي- على الأرجح- كانت تهدف إلى تغليب تيارات على أخرى في بنية التنظيم بما فيها العملية التي نفذتها قوة أميركية 9/1/2017 في دير الزور التي قال البنتاغون عنها إنها استهدفت قيادات مهمة في داعش ولربما استهدفت زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي نفسه، في حين ينظر إلى الخطاب الرسمي الأميركي الذي يروّج لحروبه ضد داعش على أنه خطاب إعلامي لا تدعمه الوقائع على الأرض أو في ميادين القتال، ومن المؤكد أن لواشنطن مصلحة حقيقية في هجوم داعش الأخير وهي تريد له أن يفضي إلى تثبيت مواقع هذا الأخير في دير الزور كمرحلة أولى وربطها بمواقعه في الغرب العراقي لإنشاء إمارة إسلامية كمرحلة ثانية وهو أمر- لو حصل- فإنه سيشكل ذريعة كبرى لبقاء القوات الأميركية في المنطقة إلى أجل غير مسمى بعدما اضطرت هذه الأخيرة إلى خروجها من العراق أواخر العام 2011، وبعدما فشلت جميع محاولات الإدارة السابقة في إنشاء ذراع عسكرية برية تنفذ إشاراتها ويحمي مصالحها، ومن دون أدنى شك فإنها نظرت إلى ذلك الفشل (وجود غياب وجود بري فاعل لها على الأرض) على أنه المقدمات التي أدت إلى تلك النتائج التي يمكن اختصارها بـ«حلب كانون أول 2016» حيث ستؤدي هذه الحالة الأخيرة إلى تكشف بواطن الضعف الأميركي الذي دلت عليه الممارسات الروسية عشية التحضيرات لمؤتمر الأستنة، فعملية توزيع الأدوار كانت منوطة بموسكو وحدها حتى إذا ما تأكد العجز الأميركي في تأمين مقعد للحليف الكردي على طاولة المفاوضات تكشف ذلك الوهن وهو ما برزت مؤشرات مهمة عليه كأن يرجح «الفيتو» التركي على الحضور الكردي بدعم روسي على المطلب الأميركي الساعي إلى تثبيت الحضور الكردي في الأستنة وما بعدها، ناهيك عن أن إيران «رفضت» المشاركة الأميركية في المؤتمر بعدما كانت واشنطن تضع الفيتو تلو الآخر في محطات جنيف الثلاث الماضية ومحطتي فيينا أيضاً.
كان السيناريو البادئ بقصف مواقع الجيش السوري في تلال الثردة ومن ثم قصف محطة توليد كهرباء دير الزور مطلع شهر كانون الثاني الجاري وما بينهما من إصرار واشنطن على ترك الضلع الغربي للصندوق المفتوح الذي اختير إطاراً لمهاجمة داعش في الموصل، كان ذلك السيناريو محطات دعم أميركية لداعش بانتظار أن يحين وقت الاستثمار فيها.
ميدانياً استطاع داعش في 16/1/2017 قطع طريق المطار الموصل إلى المدينة ما يعني خروج هذا الأخير (المطار) عن الخدمة ولم يعد ممكناً هبوط الحوامات فيه الأمر الذي افقد وحدات الجيش المرابطة في المدينة أحد أهم مقومات صمودها، على حين أن دعم تلك الوحدات بات أمراً أكثر من صعب إذا ما عرفنا أن أقرب النقاط التي يوجد فيها الجيش السوري والتي يمكن أن تقدم الدعم اللوجستي تبعد عن دير الزور ما يزيد على 100 كم في غرب تدمر، وفي ظل التقارير التي تقول إن داعش قد عمل خلال الأيام القليلة الماضية على استقدام تعزيزات كبيرة من الرقة وشرق حمص بالإضافة إلى كتائب الانغماسيين المنسحبين من الموصل، فإن من المؤكد أن ميزان القوى الذي كان قائماً فيما بين الجيش السوري وفصائل داعش منذ أيلول 2015 (عندما سيطرت داعش على مواقع عدة في دير الزور) حتى 14/1/2017 قد أصيب بخلل كبير لمصلحة تلك الفصائل وعلى الرغم من أن تدخل سلاحي الجو السوري والروسي بقوة مساء 16/1/2017 ومن ثم قصف مواقع داعش في المدينة بصواريخ روسية 10/1/2010 فإن ذلك كله لا يغيّر من ميزان القوى القائم ما بعد 14/1 ولا ينفي أن وحدات الجيش باتت تعيش وضعاً صعباً للغاية من الصعب إنقاذه إلا بعملية عسكرية برية واسعة وبأقصى سرعة ممكنة.
تلاقت المصالح الأميركية بقوة مع مصالح تنظيم الدولة الإسلامية في أحداث دير الزور الأخيرة، فالأخير يسعى إلى السيطرة على جغرافيا بديلة لخسارة الموصل التي باتت مؤكدة تكون بمنزلة عمق جغرافي واستراتيجي لمواقعه في الرقة أما الأولى فهي تتمثل بإخلاء الشرق السوري برمته من أي وجود للجيش السوري الأمر الذي يمكن واشنطن من فرض هيمنتها بقوة على ذلك الشرق بعد ما نجحت بمساعدة قوات سورية الديمقراطية في زرع العديد من الـ«ميني» قواعد جوية بات عددها حتى الآن أربعاً وهي تمتد من عين العرب في ريف الرقة إلى الرميلان في ريف محافظة الحسكة ومن المرجح أن تضطلع تلك القوات التي أنشأتها في تشرين الأول من عام 2015 بدور مهم في المرحلة المقبلة. وما يؤكد هذه الفرضية القرار الذي عمد باراك أوباما إلى توقيعه 24/12/2016 والقاضي بتزويد الفصائل المسلحة السورية بأسلحة نوعية حديثة من ضمنها مضادات جوية فقد كان واضحاً أن ذلك القرار قد فُصّل على مقاس قوات سورية الديمقراطية التي كانت أول المهللين لما قام به الرئيس الأميركي على الرغم من أن أعداءها المعلنين لا يملكون طائرات قاذفة تستدعي امتلاك صواريخ مضادة لإسقاطها.
لربما كانت الأحداث التي تعيشها مدينة دير الزور بمقاربة خاصة هي أهم بكثير من مسار الأستنة نفسه، ففي أزمة معقدة بل شديدة التعقيد كالأزمة السورية غالباً ما تكون الأحداث الميدانية متقدمة على الحدث السياسي، بل إن هذا الأخير غالباً ما يستمد أطره حتى تفاصيله- من الحقائق أو الوقائع التي تفرزها تلك الأحداث في الميدان.
ولربما بات بحكم المؤكد أن الأميركان عازمون على تغيير المعادلات العسكرية الميدانية التي قادت إلى أستنة 23/1/2017 ولربما عازمون أيضاً على أن تلك التغييرات يجب أن تسبق جنيف 8/2/2017 تحت طائلة تعديل موعد هذا الأخير في حال كانت هناك حاجة إلى وقت أطول لإنجاز تلك المهمة، وهو ما يمثل تطوراً حتمياً تفرضه طبائع القوة (أي قوة) التي إن فشلت في تحقيق ما تريد تسعى من جديد إلى أهدافها بأشكال – وأدوات- أخرى.