الشاعرة هيلانة عطا الله: النصُّ الإبداعي هو الابن البار لبيئته الزمانية والمكانية

الشاعرة هيلانة عطا الله: النصُّ الإبداعي هو الابن البار لبيئته الزمانية والمكانية

شاعرات وشعراء

الجمعة، ٣ فبراير ٢٠١٧

الشاعرة هيلانة عطا الله تدفُّقٌ شعري سلِسٌ، وقلمٌ يجري وراء المعاني، يلهث بالإبداع، وحُسْن صوغ الصور، هي القابضة على زمام الوزن والنبرة الشعرية الرقيقة حتى في الغضب، في الحزن، في الفراق، والمنطلقة نحو تجليات الروح عبر أدواتها التعبيرية المتميِّزة. إليكم هذا الحوار معها:

•لكل شاعر أبيات مفضَّلة تلحّ على الحضور في ساحة ذاكرته النابضة، يرددها بشكل لا إرادي وبطريقة ماتعة.. فأي مقطع يراودك في هذه الأيام؟

••بما أننا في زمن ثيمته المرارة، فإن أبا العلاء المعري يحضرني بين الفينة والأخرى بقوله: «ولمّا أن تجهّمني مرادي..جريتُ مع الزمان كما أرادا/ وهوَّنت الخطوب عليَّ حتى..كأني صرت أمنحها الودادا/ ولو أني حُبيتُ الخلد فُردا.. لما أحببت بالخلد انفرادا/ فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي.. سحائبُ ليس تنتظم البلادا»… فالإنسان في خضّم المعاناة يحاول التعايش مع واقعه الأليم مادام لا يمتلك الإمكانات الكافية لتغييره، ويبدو في لحظة متماهياً مع المصائب ريثما يهدأ نفيرُها. ونلاحظ إيثار الشاعر عندما رفض النجاة بنفسه وحده، وانتظر مع الجماعة، وعانى معها ريثما تنقشع الغمة عنهم جميعاً، وتهطل أمطار الفرح والسعادة على البلاد كلها.

•للغربة جرحٌ دائمُ النزيز.. فيها قساوة الصحراء، ووعورة الجبال، ورهبة البحر في الظلمة، فماذا كتبت فيمن ابتعدوا عنك خارج الوطن؟

••صدقتِ، ففرقة الأحبَّة تنزُّ في الشرايين، وخاصة نحن في سورية نتميَّز بالروابط الأسرية الحميمة، وهي ثقافة اجتماعية في مخزوننا الجمعي، واليوم عانى معظمنا من فرقة الأحبَّة بسبب الحرب التي شرَّدت الكثير من الأسر، وفي هذا المقام هذه مقطوعة لي من قصيدة بعنوان «في المطار»: أأضمُّ رأسكَ في حنايا القلب أم.. أستلهم الصبر الجميل وأرجعُ/ لأقبِّلَ الخدَّ البهي ومهجتي..من حُرقة الهجران كادت تُنزعُ/ ربَّاه كيف تمدُّني بتجلُّدٍ.. والقلب يعصر والعيون تُدمِّعُ/ يا ويح أمِّكَ إذ رأتكَ مسافراً.. وبريق وجهكَ في سماها يسطعُ/ جاء الشبابُ إلى المطار فإنهم.. لكأسرةٍ وقتَ الوداع تجمَّعوا/أترابكَ الأشبالُ أنتَ حبيبهمْ.. شبلٌ همامٌ في النوى يتوجَّع…

•كل شجرة يهزُّها النسيم، فأي حالة عشق عشتها أمام ذلك الهبوب العليل، فغمزتْ قلمَكِ كي يكتبَ ما كتب؟

••الحب هطيلُ سحابةٍ سكوبٍ تتلقفه الأفئدة العطشى فينفتح أمامها ألف فضاء لتحلِّق منعتقة من الوحدة كمعانقة فرح النجوم. وتكاد لا تخلو دواويني من قصائد في هذا المقام. كتبت للحبيب، فناجيته عندما غاب، ورحت أستحضر طيفه في المخيلة، ورقصت مع فراشات الحقول عندما حضر للقائي، فطيَّرت له معاني الفرح، وعتبت عليه تارة، وعانقته تارة، فجعلت من القصيدة دَوْحاً تتنقَّل فيه روحي باندياحاتها المتنوِّعة. وعموماً فإنني أكتب قصيدتي العشقيَّة حتى في غياب حالة العشق، وأعدّها نوعاً من الكذب الجميل، لأن الشاعر يختلق الحالة الشعورية فيتماهى فيها وكأن الحالة واقعٌ وليست افتراضاً. ومما كتبت في مجموعتي الشعرية التي بعنوان (بكاء الجبال) أقتبس لكِ: «عشقتُ رحلي إليكْ..توغُّلاً في عالم مضمَّخٍ بالشوقِ مسفوح الورودْ ينداحُ من برد الوجودِ في كوامن المحار يستكين.. يستقرُّ لفحُهُ في ناظريكْ.. فضمَّني إلى عوالم اليقينْ في صهيل دربك الحنونْ.. ولتفرحي يا (عشتروت) إنني كشفتُ أسرار الجنونْ.. من قال مجنون معانق اللظى؟ من قال مجنون مسافر الدجى؟ أليس سرُّ العشقِ في هذي الظنونْ؟.

•في البدء كان الحرف، كانت الكلمة، المشهد، ماذا كتبتِ في البدء من الأشعار، وبأيّ لون رسمتِ؟

••كانت بداياتي طالبة على مقاعد الدراسة أتلقَّف ما تجود به مناهجنا الدرسية من القيم الوطنية والقومية النبيلة، ولم أكن حينها على دراية بالبحور والأوزان، فكانت تنطلق بعض العبارات من دفق الحماسة، وفلسطين حاضرة في روحي، فكتبت أوَّل مقطوعة عن القدس، صوَّرت فيها الطفل السوري الذي شرب حبَّ العروبة، وتفاعل بوعيه الفطري مع انتصاراتها وانكساراتها، وكثيراً ما شاركتُ بالاحتفالات المدرسية التي كان يبثُّ بعضها على الشاشة الوطنية، فكم كانت فرحة أسرتي كبيرة حينها، فشدُّوا على يدي، وكذلك معلِّماتي، ما كان له الأثر الإيجابي في صقل موهبتي، وكان أوَّل ظهور لي على الشاشة عن طريق منظمة شبيبة الثورة التي منحتني الرعاية الفكرية والثقافية والإبداعية.

إن المواقف المؤثِّرة تترك في النفس دوافع محفزة أو مثبطة، فأي من الدافعين كان له الوقع الأكبر في حياتك الأدبية، وماذا كتبت فيه؟

••الحزن هو أكثر ما يدفعني إلى الكتابة، فالروح يدهمها حزنٌ يثقلُ ويطولُ بالمقياس المعنوي، لذا نرى أن وقتَ الفرح لحظاتٍ تتلاشى بسرعة وزمن الحزن مقيمٌ بطيء، وهو ما يلهمني معاني الشعر ويُطلقُ قلمي. وقد علَّق أحد النقاد على اتسام أجوائي الشعرية بثيمة حزينة تصل بي أحياناً إلى انطلاق الآهات من بين المفردات. يؤثِّر فيّ ما يحدثُ في الوطن: معاناة الأطفال، قهر المرأة، استلاب الإنسانية، فقدُ الأحبة، الظلم، الفقر.. تملَّكني الحزن لذلك، فكتبت: عيون الوقت تهالكت في سرابات القُرى حين ارتمت أيقونة..حين اجتاحنا سيل الغريب وتطاولت في الأزقَّة أشجارٌ بربرية تسّاقط ناراً، دماً، سيلاً من دموع الأناشيد نسيت ألحانها عوتْ على فم الحديد.. هنا تسكَّعَ الماردُ الأزرق وابتلعَ القمر وفانوسه ابتلعه البحر فقط في بلادي رأيت ُ إخوتي يسبِّحون يكبِّرون بالهذيان!.

•الحرب على السورية تحمل قسوة وظلماً، لكن أي حالات إبداعية لفتت نظرك، ولماذا؟

••الحرب على سورية حرب غير تقليدية، امتدت على مساحة الجغرافيا السورية بأكملها، وتسللت آثارها إلى عمق الكيان الإنساني، وكانت للشعراء ردود فعل متنوِّعة انعكست على نتاجهم الذي انتمى إلى رحم الوطن، حيث شكَّلت الحرب أرضية خصبة، ولكنها ليست كغيرها بخصوصيتها الرهيفة في التعاطي مع غير المألوف من مشاهد الإرهاب، فهناك من الشعراء من بكى حتى بلل الدمع قصائدَه، وهناك من وقف مذهولاً لا يصدِّق أن هذا الدم والدمار هما من المشهد السوري فاندفعت دهشته لتكسو قصائده  بمرارة الألم، وهناك من تأمَّل وتفكَّر بعقلانية مستنبطاً جوّانية الأسباب والعوامل التي أدت إلى الحرب، فجاءت قصائده تحذيراً من التوغل في مزيد من العماية والضلال، وهناك من كتب عن الشهادة بشعر سامق، وقد قرأت كثيراً لشعراء من صفوف قوَّاتنا المسلَّحة الذين شهدوا عياناً حقيقة ما يحدث في الميدان، وقد تناولت في شعري قصيدة للشهيد أقول فيها: أسمعتَ ندهات الأغاني في البطاح؟ و(الميجنا) كيف ارتمت بتلالنا الخضراء، مثخنة الجناح وعلى انكسار الشمس طارت مهجة فتخضَّبتْ من عطرها مُقلُ الصباح.. فاخشع إذاً يا صاحبي لدمع أمٍ صارعتْ هوجَ الرياحْ.

•النقد يصقل الأدب، والحاجة إليه لا يمكن إغفالها.. فأي أسباب.. من وجهة نظرك.. جعلت عربة النقد تتباطأ في مواكبة الحركة الأدبية في وقتنا الحالي؟

•• العلاقة بين الأدب ونقده علاقة جدليَّة، فكل منهما يؤثِّر في الآخر كطرفين في معادلة الإبداع، لكن النقد في العقدين الأخيرين لم يتمكَّن من مواكبة الشعر كمَّاً وكيفاً، وخاصة في ظل انتقال الشعر بشكل لافت إلى الحداثة، في حين ظلَّ النقد قائماً على المعايير النقدية، ولم يحدِّث النقاد أدواتهم، فلا يجوز مثلاً أن نحاكم قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر بمعايير النقد عند الجرجاني أو الأصمعي أو قدامة بن جعفر، ولا عند الكبير عباس محمود العقاد، وهذا لا ينفي ظهور حركة نقدية ادعت مواكبة ثورة الحداثة الشعرية لدينا لكنها موغلة في التأثر بمذاهب النقد الحديث في الغرب، فراحت تضع النصوص الشعرية على مشرحة تغريبية أدَّت إلى الإجحاف وعدم الموضوعية. الحقيقة التي على الناقد ألا ينساها، هي أن النص الإبداعي هو الابن البار لبيئته الزمانية والمكانية.