تفجيرات حمص ورسائل «الباب» السياسية: نلقاكم في «جنيف 16»

تفجيرات حمص ورسائل «الباب» السياسية: نلقاكم في «جنيف 16»

تحليل وآراء

السبت، ٢٥ فبراير ٢٠١٧

جرَت العادة قبل كلّ جلسةٍ لـ«مجلس الأمن» لفرض عقوباتٍ أو إدانة ما يسمونه «النظام السوري»، أن يتعالى الحديث عن جرائم هنا وانتهاكاتٍ هناك آخرها الدعوة لقيام «مجلس الأمن» بفرضِ عقوبات على سورية لاستخدام الحكومة فيها «السلاح الكيماوي» ضد المدنيين.
لكن وللمصادفة، فإن انعقاد اجتماعٍ ما بخصوصِ إيجاد حلٍّ لما يسمونه «الأزمة السورية» غالباً ما يترافق مع عملٍ إرهابي ضخم، وبطبيعة الحال فإن «داعش» جاهزة دائماً للتبني؛ تحديداً عندما يستهدف الإرهاب بحدِّه الأعظم مدنيين. لكن عندما يتعلق الأمر بـ«مقرات النظام» فإن الضرورة تحتِّم تبديلَ شكل الفاعل لإظهار القوة أولاً وضرب المعنويات ثانياً، فما الجديد؟
التفجيرات الإرهابية التي ضربت حمص ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، لكن حكماً هناك رابط ما بين هذه التفجيرات من جهة، وبين ما تم تسريبه قبل أشهر تحديداً بعد سقوط «تدمر» من جديد بيد «داعش» على أن التنظيم يستعد لاقتحام مدينة حمص، وبالفعل تمدد التنظيم وسيطر على حقول النفط والغاز.
كان الهدف من تعويم معلومات كهذه وقتها تأكيد فكرة اتساع الهوة بين الروس من جهة، والإيرانيين والسوريين من جهةٍ ثانية، تحديداً أن معشر العاطلين عن العمل في الصحافة المستعربة وجدوها فرصةً في ظل غياب الرؤية السياسية لديهم للحديث عن هذا الخلاف، بما فيه التقارير التي تحدثت عن التقاعس الروسي في دعم الجيش السوري ما أدى إلى سقوط «تدمر». أما الهدف البعيد فكان مرتبطاً بما قاله يوماً «جون كيري» بأن الولايات المتحدة تابعت نمو قوة «داعش» على أمل أن تشكل ضغطاً على «نظام الأسد»، هذه المراقبة لا تزال مستمرة، ولكي نوضح ذلك، علينا أولاً أن نجيب عن تساؤل منطقي:
لماذا تتبنى «النصرة» هذين التفجيرين «المُحكمين»، علماً أن العادة جرت على أن تتبنى «داعش» ذلك؟
مبدئياً لا يمكن أن يكون هناك فرق بين «داعش» و«النصرة» فكلاهما بالنهاية رضعا من ثدي «الوهابية القميئة». قد يكون التفجيران بهدف رفعِ الضغط عن «داعش» مع تقدم الجيش السوري على جبهة «تدمر»، وخاصة أن التفجيرات تلاها عمليات إطلاق قذائف من «داعش» على الكثير من المرافق الحيوية وهو ما بدا أشبه بالتنسيق المتكامل بين الطرفين.
لكن ومن خلال دقة العمليتين ورمزيتهما باستهداف أهم المقار الأمنية ليس في المدينة فحسب، بل في رقعةٍ جغرافيةٍ واسعة إذا ما أخذنا بالحسبان أن حمص هي أكبر المدن السورية مساحةً، وعلى تماسٍ مباشر في الحرب على «داعش»، فإن ما تم هو حكماً خارج قدرات أي تنظيم إرهابي. لكي تتضح الصورة أكثر، فإن التحالف القائم بين «إسرائيل» من جهة و«جبهة النصرة» من جهة ثانية يعطينا تصوراً واضحاً بأن «رأس الأفعى» لم يشأ القول إنه جزءٌ في أي حلٍّ قادم فحسب، بل إنه ليس مضطراً أن يضرب بصواريخه نقاط القوة الأمنية في المدينة المجاورة للعمليات العسكرية على «داعش»، مادام الطامعون بـ«جنات النعيم» كثراً. الأمر لا يبدو مرتبطاً فقط بالحالة المؤقتة لأهمية العملية وما قد يتلوها من هزةٍ أمنية قد يرافقها تقديم الدعم لأي تنظيم يمكن له أن يتوسع على حساب الجيش العربي السوري، الأمر مرتبطٌ بإستراتيجيةٍ يتقنها حلف الحرب على سورية؛ وهي إستراتيجية (من سيرث الأرض)، فكيف ذلك؟
تبدو الإستراتيجية ناجعة، هي ليست بالجديدة بل تعود لآخر أيام حقبة «كلينتون» في وزارة الخارجية؛ لنجعل الإرهابيين يتمددون ومن ثم تصبح الأرض لمن يحررها، وبهذه الطريقة يتم قضم التراب السوري ليصبح التقسيم واقعاً. بدأت الحكاية مع تمدد «داعش» شمالاً، كان الهدف هو وصل «عين ديوار» شرقاً مع «راجو» غرباً، ومن ثم تسليم هذه المناطق بعد تحريرها للانفصاليين الأكراد فيصبح الإقليم الشمالي أمراً واقعاً.
الإستراتيجية الأميركية اصطدمت بعواقب عدة أولها القدرة العالية التي أظهرتها الاستخبارات التركية في التأثير على قيادات «داعش» وجعلها بالحد الأدنى مطواعة نظراً لأن الجنوب التركي كان يؤمِّن الدعم اللوجستي للتنظيم ولايمكن له أن يستغني عنه ببساطة. هذا التغلغل التركي بدا واضحاً من خلال تسليم التنظيم لمدن عدة كـ«جرابلس» و«الباب» أيضاً؛ وما المقاومة التي شهدتها المدينة للاجتياح التركي إلا نتيجة للانقسام الذي عانى منه التنظيم بين مؤيد ورافض لفكرة تسليم المدينة مقابل «الأمان». ثانياً، واقعية النظام التركي الذي رفض أي ضماناتٍ أميركية بأن حل المشكلة الكردية يبدو متاحاً الآن بعيداً عن تركيا، لأنه فيما يبدو كان يعي أن الضمانات الأميركية باقتناع الانفصاليين الأكراد بالشمال السوري كجائزة ترضيةٍ هي ضماناتٌ آنية، تنتهي برحيل الإدارة الأميركية أو بتبدل الحزب الحاكم بأفضل الأحوال، وهو ما حدث فعلياً.
منذ إعلان نتائج الانتخابات الأميركية حاول «أردوغان» الاستفادة من هذه الإستراتيجية، كان هدفه مزدوجاً؛ الأول إنهاء حلم «روج آفا» إلى الأبد، والثاني خلق مستعمراتٍ «تركمانية» تكون نواة لعودة «الإخوان المسلمين» إلى سورية والمشاركة في الحكم كأمرٍ واقع مهما طالت المفاوضات. استفاد أردوغان من سقوط الفيتو الأميركي بسقوط «الديمقراطيين» لكنه كان يدرك أن هناك مشكلة أهم وهي الموقف الروسي. انعطف «أردوغان» نحو الروس ولنعترف أن هذه الانعطافة «الذكية» حققت لـ«أردوغان» ما لم يحققه له الأميركي في تحالفه معه، لتصبح سياسة «استيطان المرتزقة» بديلاً من المناطق العازلة، وسياسة التطهير العرقي ضد العرب التي مارسها الانفصاليون الأكراد في المناطق التي سيطروا عليها هي ذاتها التي تجري اليوم في «الباب» و«جرابلس» و«اعزاز» لكن بأسلوب عثماني، لا فرق بين كلتا الجريمتين، لكن الجريمة الأكبر أن نترك «أردوغان» يتابع بإستراتيجية «وراثة الأرض» لأنها هذه المرة لن تكون كما كانت في الشمال على حساب تحريرها من «داعش»، بل ستصبح على حساب انتزاعها من «المتطرفين»، فما الفرق؟
قبل أيام نشرت «الواشنطن بوست» تقريراً تقول فيه إن الولايات المتحدة و«آل سعود» وتركيا سيوقفون تسليح «المعارضة»، وإن عدة تنظيمات تبلغت هذا القرار رسمياً. ما يمكننا استقراؤه من قرار كهذا هو أحد احتمالين:
الأول؛ إن الإستراتيجية الأميركية الجديدة للحرب على الإرهاب والتي سيتم تقديمها لـ«ترامب» في اليومين القادمين تحمل تحذيرات من اتساع رقعة الحرب في سورية لما سيكون له نتائج كارثية، وعليه فإن القرار الأميركي يبدو احترازياً وكالعادة لابد لكل من التركي والخليجي أن يتبعانه، تحديداً أن التركي يعيش أبهى أيامه، هو استثمر حتى بسوء العلاقة بين إيران و«ترامب» وبات قاب قوسين أو أدنى من خسارتهِ حليفاً لطالما وقف معه «وقت الشدة» فقط لأن «ترامب» رفع النبرة تجاه إيران. هذا الاحتمال يبدو عاطفياً أو كلاسيكياً بأن تعلن الولايات المتحدة وقفها لدعم المسلحين.
الاحتمال الثاني؛ وهو يبدو استكمالاً للإستراتيجية التي بدأها التركي. ويعتمد على قانون القوة النابذة، فالدوران السريع سيلقي بالثقيل خارجاً ويترك الخفيف. لا نختلف على أن أحد أهم أسباب إطالة عمر الإرهاب في سورية هي كذبة «فصل المعارضة المعتدلة عن الإرهابية».
إن وقف تسليح الإرهابيين هو تكتيكٌ سيدفع بالمجموعات المتطرفة لأحد خيارين: إما القبول بالأمر الواقع أو التوجه نحو المجموعات الإرهابية «الأكثر تطرفاً». في كلتا الحالتين فإن التركي هو المستفيد الوحيد أياً كان الخيار، فإذا اتسعت رقعة التنظيمات الإرهابية الأكثر تطرفاً بالمنظار الأميركي، فإن وراثة الأرض في قادمات الأيام تبدو فرصةً لن يفوتها التركي، وهل هناك أفضل من أن تحاصر «ميليشيا العثمانيين الجدد» حلب شمالاً وريف اللاذقية غرباً! أما قبول المسلحين بالأمر الواقع، فلا يبدو أنه سيبدل شيئاً بمكانتهم كأذرعٍ سياسيةٍ قادمة لما يريده «أردوغان» في مستقبل سورية، وعليه لازال الاستثمار التركي لكل دقائق وتفصيلات الحرب على سورية يمشي بخطى ثابتة، على حين لا يزال هناك من يراوح في تصديق التركي بأنه سيخرج من المناطق التي احتلها ببساطةٍ. المرحلة الآن حرجة، وتتطلب موقفاً واضحاً بعيداً عن لغة «الضمانات» أو «التسويات»، إذا كان «أردوغان» لم يؤتمن على عهدٍ تجاه حلفائه في «الناتو» فهل حقاً لا يزال حلفاؤه الجدد يصدقونه! فماذا ينتظرنا؟
عسكرياً لا شيء يفيد الآن إلا إيقاف التركي عند حدوده، أما سياسياً فلا يمكننا القول إلا عبارة… نلقاكم في «جنيف 16»؛ عندها لا ندري إن كنا سنسمع بضماناتٍ هنا وهناك قدمها التركي بالخروج من مدينه «إدلب» بعد «تحريرها»!