خليل حاوي

خليل حاوي

نجم الأسبوع

السبت، ٣ يونيو ٢٠١٧

لم يكن خليل حاوي اول المبدعين الذين سجلوا الرحيل بطريقة مأساوية، مسددا طلقات إلى رأسه في حزيران عام 1982م احتجاجا وغضبا على الاجتياح الاسرائيلي للبنان وعدوانه الصارخ والغادر، بظل صمت مطبق من العالم كله، ومن الاعراب الذين كانوا في برودة القبور، وحدها البندقية السورية والمقاومة اللبنانية كانت الصوت ولغة المقاومة والرفض وتقديم مواكب الشهداء.

 

خليل حاوي الشاعر المقاوم والمجدد في البنية والنص في القصيدة العربية، الشاعر الرائي الذي قدم رؤى بعيني زرقاء اليمامة ولكن ثمة من اغمض العيون كلها وأصم الاذنين وابحر في متاهات الخنوع والذل والقبول بما تفرضه لغة الاحتلال، في هكذا طوفان من الغدر والذل كان رحيل حاوي المدوي، خليل حاوي الاستاذ الجامعي والناقد والشاعر ليس علامة فارقة في الابداع العربي إنما في الاحتجاج الصارخ على ما يعد لهذه الامة، احتجاج على اليباس الذي أصاب الكثيرين وطاب لهم.‏

في مثل هذه الايام من عام 1982م، نعم سدد حاوي طلقات من بندقيته الى رأسه ورحل وكان الرحيل مدويا، ظل الصوت والصدى عقودا من الزمن، ولكن الغريب في الأمر أنه الان يمر بصمت كما نرى، ونحن بأمس الحاجة الى أن يكون الصوت دائما وحاضرا بكل ما في الحضور من بهاء، فحاوي الشاعر الغائب طوعا، بغيابه برحيله، بما فعله، لهو أقوى حضورا، وأعلى مكانة،وأكثر قدرة على الفعل البطولي واجتراح لغة لايعرفها إلا من كان من نبض هذا الشرق الذي تحول الى تلال من الملح، وكما عند منيف إلى مدن من الملح.‏

حاوي من مكان ما في هذا الكون السرمدي، ماذا تراه يقول، وماذا لو عاد إلى الحياة ملتقيا ادباء الصمت المريب، ملتقيا اصحاب المواقف المتلطية خلف الانتظار ؟ ماذا يقول وماذا يفعل حاوي لو أنه فعلا الان حاضر بيننا، أتراه يقول لمن يثرثر من وراء المنابر ومن مكاتب الخمس نجوم، ومن الفنادق والمنتجعات، ويتغنى بالوطن وبأشياء كثيرة لا يريد أن تنقص شيئا، وإذا ما نقصت فهو على المقلب الآخر؟‏

ماذا يقول لاصحاب بدعة الفن للفن، ماذا يقول لمؤسسات ثقافية واعلامية تكلست وصارت مجرد هياكل لافائدة منها، على امتداد ساحة الوطن العربي، مؤسسات واتحادات، والكل خارج إطار الفعل الحقيقي، وحدها البندقية التي قال فيها نزار قباني ذات يوم: عندما تبدأ البنادق بالعزف تموت القصائد العصماء.‏

بدأت البنادق بالعزف، وصنعت ملاحم من البطولة، وعزفت اروع الالحان، ومع ذلك تجمد حبر الكثيرين، أختبأ خلف كهوف من العتمة والثرثرة والاستعراض.‏

الموت وتوازن الرؤيا‏

في مجلة المعرفة السورية العدد 250 كانون الاول عام 1982م كتب الشاعر والناقد السوري دكتور نذير العظمة عن خليل حاوي دراسة مهمة جدا، جاءت تحت عنوان: الشاعر وجذوة النار، ومن الافكار المهمة التي طرحها في هذه الدراسة البحث عن فكرة الانتحار والموت عند خليل حاوي، وكيف اتقدت لتصل الى هذه اللحظة الفارقة ولتكون الطلقة التي وجهها إلى رأسه انبل القصائد، وافصح قصيدة عبر التاريخ يرى العظمة: كانت حياة حاوي جافة كالحجر الذي ينحته في مهنته كمعمار قبل ان يعالج الكلمة ويدخل ملكوت الفكر، جافة الا من طراوة الوحي والنبوءة، كاد يدخل ملكوت الحب، لكن الحرية عنده كانت اغلى من الحب، ولو فعلا لامسكت به مسامير اللحم والدم بطين هذه الارض امدا اطول، حرية الحياة كانت ملكه، حرية الموت وجهها الآخر.‏

عندما تسقط بيروت او يسقط الجنوب في ايدي الغزاة الصهاينة على مرأى من الانظمة العربية البالية ماذا نسمي ذلك.....في مثل هذا الاطار يمكن ان نتفهم ظاهرة انتحار الشاعر خليل حاوي، حين يكون الموت تعبيرا عن الحياة فالانتحار على هذه الشاكلة كالقصاص حياة لأولي الالباب, ويضيف العظمة أن حاوي كان يردد أمام طلابه ابان الاجتياح الصهيوني: كيف يمكنني أن اواجه طلابي ومواطني بعد هذا الاجتياح، كيف يمكن أن اقف منتصب القامة ولم يهب أحد من العرب لنجدة الجنوب، وأنا شاعر القيامة العربية ؟‏

خليل حاوي يعود كما يضيف العظمة - يعودة من جزيرة الحياة الى مملكة الموت بعد أن يدرك ان نبوءته الشعرية بالقيامة العربية لم تحققها الظروف التاريخية الراهنة وان الشروط القومية والحضارية لشعبه -يضيف العظمة -هي المسؤولة عما حدث وكذلك نبوءته، وخليل حاوي بين النبوءة وعدم تحققها خطا الخطوة الكاملة الى الموت ليحقق توازن الرؤيا.‏

خليل حاوي، الرافض والرائي، الشاعر المجدد المتجدد و يطل من زهرة جنوبية، من سيف دمشقي و من أغنية ترددها ام شهيد، يمسك ورقا ما يطرش عليه حبر هذه الايام، ويصرخ: ايها المدعون انكم كتاب ومثقفون واعلاميون ومفكرون، انتم سراب، انتم مدن الملح، حبركم باطل و فاسد، انتم منافقون، انتم ابناء القوارير الباردة، انتم ابناء اللذة العابرة، انتم لاشيء سراب:‏

ما لَهُ يَنْشَقُّ فينا البَيْتُ بَيْتَينِ‏

وَيَجري البَحرُ ما بَيْنَ جديدٍ وعتيقْ‏

صرخةٌ, تقطيعُ أرحامٍ,‏

وتَمزيقُ عُروقْ,‏

كَيفَ نَبقى تحتَ سَقفٍ واحدٍ‏

وبحارٌ بيننا.. سورٌ..‏

وصَحراءُ رمادٍ باردِ وجليدْ‏

ومتى نطفرُ مِن قبوٍ وسجْنِ‏

ومتى, ربَّاهُ, نشتدُّ ونبني‏

بِيَدينا بَيتنا الحُرَّ الجَديدْ‏

يَعبرونَ الجِسرَ في الصبحِ خفافًا‏

أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْرًا وطيدْ‏

مِن كُهوفِ الشرقِ, مِن مُستنْقعِ الشَرقِ‏

إِلى الشَّرقِ الجديدْ‏

أَضْلُعي امْتَدَّتْ لَهُم جِسرًا وطيدْ‏

«سوفَ يَمضونَ وتَبْقى»‏

«صَنَمًا خلَّفَهُ الكهَّانُ للريحِ»‏

«التي تُوسِعُهُ جَلْدًا وَحرْقًا»‏

«فارغَ الكَفَّيْنِ, مصلوبًا, وحيدْ»‏

«في ليالي الثَّلْجِ والأفقُ رمادٌ»‏

«ورمادُ النارِ, والخبز رمادْ»‏

«جامِدَ الدَّمْعَةِ في لَيْلِ السهادْ»‏

«ويوافيكَ مع الصبحِ البريدْ:»‏

«.. صَفحَةُ الأخبارِ.. كم تجترّ ما فيها»‏

«تُفَلِّيها.. تُعيدْ..!»‏

«سوفَ يَمضونَ وتبقى»‏

«فارغَ الكَفَّيْن, مصلوبًا, وحيدْ».‏

--- --- --‏

اِخرسي يا بُومةً تقرعُ صدري‏

بومةُ التاريخِ مِنِّي ما تُريدْ؟‏

في صَناديقي كُنوزٌ لا تَبيدْ:‏

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الأزمنة الالكتروني
Developed by ULCode | Powered by UNLimited World s.r.o