أهلاً بالشرق.. إذ يعود إلينا.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

أهلاً بالشرق.. إذ يعود إلينا.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٢ سبتمبر ٢٠١٧

لا ريب في أن الساعة العاشرة وعشر دقائق من صباح يوم 5 أيلول الجاري، سوف تحفر عميقا في التاريخ السوري وفي الذات الجماعية السورية في آن معاً، ففيها تعانق التاريخ مع الأزل في ملحمة كان من شأنها أن تصدر حكماً بالإعدام على كل الترهات والأساطير التي تم تسويقها لأعوام مضت.
كانت اللحظات التي ارتمى فيها المقاتلون، الصامدون وأولئك الساعين إلى فك حصارهم، بعضهم في أحضان بعضٍ، تعني عناقا للشرق السوري مع غربه، ولجنوبه مع شماله، داحرة وإلى الأبد نظرية «سورية المفيدة»، التي ترنم بها الكثيرون، ثم راحوا يسوقونها على أنها خاتمة المآلات كلها لهذا الصراع المحتدم الذي لا نحيط بأكثر من نصف دوافعه ونصف إحداثه، بينما سيكون لزاماً على الأيام المقبلة أن تزيح الستار عن نصفه الآخر.
عندما «قرقعت» جعبات المخازن بعضها مع بعضٍ، ممزوجة بصليل أصوات تلاقي «النطاق» العسكري الذي يرتديه الجنود، كان ذلك إيذاناً باستعادة كل الشرق السوري من وحول المشاريع الأميركية والغربية التي كثيراً ما تناقلته من مسرب إلى آخر، داس الجنود بأقدامهم الطاهرة على كل ما كان يحاك علنا أو في الخفاء، بل إنهم وقعوا على إلغائه وتمزيقه بتلك الأقدام على حد ما قاله الزعيم البلشفي السوفييتي فلاديمير لينين رداً على توقيعه لصلح بريست1918 حينها أجاب: «لقد وقع الجنود بأقدامهم».
كانت الماكينة الإعلامية الهائلة تصور الأمر على أنه ضرب من الجنون ولو من باب التفكير به، فذهاب الجيش السوري إلى دير الزور يعتبر، وفق ما كان يسوق، ذهابا نحو مقبرة أعدت لجنوده، ولذا فإن الشرق السوري، ونحن لا نزال في إطار المسوق، قد أضحى منفصلاً عن رحمه السوري بقوة الأمر الواقع سواء تم الإعلان عن ذلك أم لم يتم، ولذا فإن لمعارك دير الزور وانتصاراتها طعماً آخر وهو يختلف تماماً عن طعم أي انتصار سابق.
داعش التي كانت قد سيطرت على الجزء الغربي من المدينة منذ شباط 2015 ومن ثم استطاعت عزل جزئها الغربي عن نظيره الشرقي منذ أيلول 2016، كانت قد اعتبرت نفسها من «أهل الدار» ولا بد هنا من الاعتراف، وإن كان ذلك موجعا جداً، بأن التنظيم كان يستند فيها إلى أرضيه مجتمعيه داعمة له، وبواسطتها كان التنفس عبر الحدود وما بعدها يعطي نتائجه الباهرة، كانت تلك الأرضية قد تشكلت بفعل أسباب عقائدية لدى البعض، وهم قلة، وبفعل عوامل نفعية لدى البعض الآخر، وهم الأغلبية، وللأمر اعتباراته العديدة وفي الذروة منها حالة التهميش الاقتصادي الذي عاشته شرائح واسعة فيها في ظل حراك اقتصادي ضعيف، ناهيك عن أن مؤشراته كانت تنبئ بالمزيد من التراجع.
هنا لا ندافع عن أولئك الذين باعوا كل شيء لأجل المال، وإنما عن أولئك الذين كانوا يركضون وراء لقمة العيش، وإذا ما كانت نظرية رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل تقول بجواز التحالف مع الشيطان لأجل الوطن، فكيف الحال هو إذا لأجل معي أطفال فارغة وهي تصيح ممزقة بصراخها الكثير مما رسخته القيم الدينية أو الوطنية أو حتى الأخلاقية منها.
من المهم القول الآن إن عملية كسر الحصار الجزئي عن دير الزور تم في الخامس من أيلول والكلي في العاشر منه، ولكي تكون نصراً استراتيجياً حقيقياً، لا بد لها من أن ترتبط بعملية كبرى من شأنها التمكين للإنجاز السابق وتستطيع السيطرة على طريق دير الزور البوكمال، وصولا إلى طريق القائم بغداد على الضفة الأخرى، ولربما كانت تلك العملية حين حدوثها، وهي بالتأكيد قاب قوسين أو أدنى، تشكل «الأهم» الثاني ما بعد انتصر حلب في 22 كانون الأول عام 2016 مما يمكن أن يحمله المفاوض السوري في جعبته وهو في طريقه إلى جنيف أو إلى أي مكان يمكن أن تجري فيه المفاوضات السورية السورية والتي تعتبر دمشق إحدى محطاتها المحتملة فعليا.
الآن وفي ضوء التطورات الأخيرة الحاصلة على الساحة السورية، وأهما المشهد في دير الزور، تبرز إلى الواجهة أسئلة عديدة مهمة من نوع: وماذا بعد؟ ثم إلى أين؟ وما التوقعات لمسار التسوية السورية التي يكثر الحديث عنها في المرحلة الراهنة؟
من المؤكد أن مصطلح المرحلة الانتقالية قد بات من الماضي الغابر، وكلما سعت المعارضة إلى إحيائه أو إبرازه إلى الواجهة، كان ذلك دليلاً قاطعاً على أنه لفظ أنفاسه الأخيرة لدى المشرفين على غرف العناية المشددة التي لم تغادرها المعارضة السورية منذ أن جاءت على الصورة التي نراها فيها الآن، ومن الناحية السياسية الصرفة، فإن ذلك المصطلح كان نتاجا للحظة سياسية دولية عصيبة تمظهرت في بيان جنيف1 في 30 حزيران 2012، إلا أن ثمة متغيرات هائلة كانت قد طرأت عليها في غضون السنوات الخمس التي تلتها، وقد كان لافتا الردود المعارضة التي أعقبت محاولة المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا والتي احتوت جدياً على مقاربة تبدو منطقية للوقائع السابقة التي فرضها الميدان والمتغير الدولي في آن واحد، فقد ذهبت هذي المعارضة إلى حدود المطالبة بإعفاء دي مستورا من منصبه في 5 من الشهر الجاري، ولربما تكشف حالة ضيق النفس التي تظهرها تلك الواقعة، المدى الذي وصلت إليه ذاتها الجماعية النفسية في أعقاب المتغيرات الكبرى التي شهدتها مواقف «الحواضن» التي ملت كما يبدو من «خديج» لا أمل فيه.
إن من الراجح أن الجوقة المعارضة الطافية على السطح الآن، ومنذ حين، لن تكون شريكاً في أي تسوية سياسية محتملة لاعتبارات عديدة أبرزها أنها كانت على الدوام واجهات لقوى ومصالح إقليمية ودولية، ناهيك عن أن طبيعة المناخ الذي عاشت، وتعيش، فيه كانت قد أفرزت شريحة كبيرة باتت تسيطر على القرار فيها، وبالحيز المعطى لها، وهي أضحت رموزاً لرؤوس أموال ترتبط بحيثية خارجية ولا مصلحة لها على الإطلاق في وقف الحرب، والقرار هنا يبدو نفعياً لا عقائدياً بل لا حتى سياسياً، فما الذي تبقى من أدوات السياسة بعدما حل الخريف الذي أسقط كل الأوراق دفعة واحدة.
هزيمة المعارضة قد تكون مدخلاً لعودتها من جديد إلى النسيج المجتمعي السوري وهو ما يجب أن يشكل لديها الهم الأساسي الأول للمرحلة المقبلة، لا أن يكون هذا الأخير منصباً في المشاركة بالسلطة ومدى كمه أو نوعه، ففي النهاية تعتبر هذه الحالة الأخيرة نتاجاً طبيعياً للحالة الأولى ولا يمكن القول: إن العكس هنا هو صحيح أيضاً، وإذا ما أرادت أن تكون وجهاً مقبولاً في دمشق فذاك يتطلب منها أولاً نسف قياداتها التي أضحت مستهلكة، ناهيك عن وجود اعتبارات تفهم بالإيماء والإشارات ولا تقال، الأمر الذي يمكن أن يفقدها الكثير من خصوصيتها التي تفرضها الحالة السورية ونسيجها الفريد، ولربما كانت هذه الحالة تتطلب بروز تيار داخل المعارضة، يتخذ من الواقعية نهجاً أول لسياساته ويتبنى برامج يمكن التعاطي معها، وفيما عدا ذلك، تكون هي نفسها من حكمت عليها بالاستبعاد، على الرغم من أن للأمر تبعاته النفسية القاسية على الحكومة السورية التي ستجد نفسها عندها وكأنها تجافي شارعها الذي وضع كل ما يملك من زينة الحياة الدنيا المال والبنون تحت تصرفها، إلا أن لا عمل جراحياً بلا آلام والمصلحة الوطنية تقتضي التعالي فوق الجراح، ولربما كانت أغلبية المجتمع السوري بشرائحه وقواه وتياراته، مهيأة كلياً لهذي الحالة الأخيرة، لكن ليس قبل أن تعلن المعارضة عن برنامج جديد ناسخ لما قبله، كما يحدد أهدافها وسياساتها المستقبلية، وهو ما يجعل من الزمرة الأخيرة التي تربعت على السلطة فيها حالة دخيلة ولا تمت إلى الوطنية بصلة بعد أن تجاوزت كل المحرمات، على أن تثبت قياداتها الجديدة أن اللحم ليس كله جيداً وإلا لما وجدت النقانق.