تاريخ من سياق السياسة الأميركيّة عن القدس.. بقلم: أسعد أبو خليل

تاريخ من سياق السياسة الأميركيّة عن القدس.. بقلم: أسعد أبو خليل

تحليل وآراء

السبت، ١٦ ديسمبر ٢٠١٧

هناك أربعة مستويات للتعاطي العربي مع قضيّة القرار الأميركي حول القدس: ١) المستوى الأوّل يسري في كل الإعلام السعودي وهو يوحي أن القرار ليس سيّئاً بحدّ ذاته إلا أنه يعطي ذريعة لإيران و«أذرعتِها» في المنطقة (أليس مِن أذرع في كل المنطقة العربيّة إلا لإيران بالرغم من نشر قوّات أميركيّة في معظم الدول العربيّة، وبعناوين شتّى؟)، أي أن القرار هو قرار سيّئ في زاوية العلاقات العامّة لأميركا أو لحلفائِها فقط. يقول في ذلك حازم صاغيّة في «الحياة» بصريح العبارة، إن القرار «يُحرج حلفاء أميركا التقليديّين»1.

أي أن القرار مؤذٍ للطغاة العرب الموالين لأميركا. ٢) المستوى الثاني من القرار يوحي أنه نتيجة تحوّل في السياسة الخارجيّة الأميركيّة، وأن القرارَ - كما ناشد سفراء السلطة الفلسطينيّة حول العالم، وكبار وصغار مفاوضيها - هو نقطة تحوّل في السياسة الأميركيّة مما يستدعي إعادة النظر في الموقف منها. وهذا المستوى يفترض أن أميركا كانت الراعي النزيه للمفاوضات إلى أن أتى ترامب ونسف ذلك. ٣) والمستوى الثالث هو في التعاطي مع موضوع القرار كمسألة سياسيّة داخليّة أميركيّة، أو ما يُسمّى في علوم العلاقات الدوليّة بـ«إنترمستِك»، بما يجب ترجمته إلى العربيّة إلى «دولي - داخلي»، حول ذلك الحيّز من السياسات التي ترتبط فيها قضايا السياسات الداخليّة في دولة ما مع قضايا السياسات الخارجيّة. ٤) المستوى الرابع هو في التعامل مع قرار ترامب على أنه قرار شخصي لرجل أحمق.
لم تكن القدس عنصراً من عناصر الحركة الصهيونيّة عند انطلاقتها. ولم ترد كلمة «قدس» في كل كتاب «دولة اليهود» الذي أصدره ثيودور هرتزل في عام ١٨٩٦، أي قبل سنة واحدة فقط من إنشاء الحركة الصهيونيّة في بازل في سويسرا. والكتاب يُعتبر الوثيقة التأسيسيّة لـ«الصهيونيّة السياسيّة» في سياقها التاريخي، مع أن كتاب ليو بنسكر، «التحرير الذاتي»، كان قد صدر في عام ١٨٨٢ (زعم هرتزل أنه لم يقرأ الكتاب، وعليه لم يتأثّر فيه، وإن كان زعمه مشكوكاً فيه). لكن القدس تظهر فجأة في كتاب هرتزل الثاني، «الأرض القديمة - الجديدة»، والذي ظهر في عام ١٩٠٢، أي قبل سنتيْن من وفاته. والفارق بين الكتاب الأوّل والثاني هو التجوال الواسع لهرتزل بين يهود أوروبا الشرقيّة الذين رفضوا حياده حول مكان «دولة اليهود» (وليس «الدولة اليهوديّة»، حسب الترجمة الصهيونيّة الخاطئة لعنوان الكتاب الأصلي في الألمانيّة مع الفارق بين العبارتيْن). لَو لم يوافق هرتزل على طلب يهود أوروبا الشرقيّة المتديّنين على تسمية فلسطين كمكان الوطن اليهود المأمول لما تسنّى له عقد مؤتمره المشؤوم في عام ١٨٩٧. هم اشترطوا ذلك.
لكن الحركة الصهيونيّة المُعاصرة عمدت إلى خطة إزاء موضوع القدس السياسي: الخطّة هي في التقليل من شأن القدس في التاريخ العربي والإسلامي. والتقليل من شأن القدس عند العرب والمسلمين من قبل الصهاينة لا يُقابل في الغرب بالاستنكار الذي يلقاه التقليل من شأن القدس عند اليهود من قبل العرب. ومعارك التقليل والتعظيم باتت جزءاً من وسائل الحرب بين المتصارعين، وهي لا تغيّر من حقيقة السيطرة العربيّة ــ الاسلاميّة على القدس لقرون طويلة، والتناقص التاريخي لأهميّة القدس (السياسيّة وحتى الدينيّة) عند اليهود، باستثناء اليهود المتديّنين الذين كانوا — بأعداد جد قليلة — يتوافدون في سنوات الشيخوخة للموت في «أرض الميعاد»، طُمس في العقود الماضية تحت كمٍّ هائل من صناعة ترويج جديد للقدس الصهيونيّة.
والتقليل من شأن القدس عند العرب والمسلمين مِن قبل الصهاينة يزداد عبر السنوات. كان المؤرّخون الصهاينة يجدون صعوبة في إنكار حقيقة موقع القدس في التاريخ العربي والإسلامي. هاكم (وهاكنّ) المؤرّخ الإسرائيلي، يهشواه بورات، في الجزء الأوّل من كتابه «انطلاق الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة العربيّة، ١٩١٨-١٩٢٩» يقول: «إن قدسيّة القدس في الإسلام والمسيحيّة، وإنشاء وحدة إدارية باسم فلسطين عند الفاتحين العرب، وديمومة هذه الوحدة بأشكال مختلفة في خلال الحكم الإسلامي، وصعود موقع لواء القدس بعد منتصف القرن التاسع عشر —كل هذه العوامل أدّت في بداية القرن العشرين إلى بلورة فلسطين كمفهوم ذي أهميّة دينيّة وجغرافيّة. وهذا المفهوم غير السياسي اكتسب أهميّة سياسيّة نتيجة الضغط من عنصر خارجي، أي الصهيونيّة» 2. طبعاً، إن بورات يؤخّر في تحقيبه لتبلور مفهوم فلسطين السياسي، كما انه — على منحى الرواية الصهيونيّة الاستشراقيّة — يرفض أن يمنح للسكان المحليّين القدرة على بلورة مفهوم وطني غير خاضع لعناصر التهديد الخارجي، وقد دحض تأريخ رشيد الخالدي للهويّة الفلسطينيّة ذلك 3.
والكيان السياسي لفلسطين مثبت في التاريخ الإسلامي والعربي وكان هناك كيان منفصل لها في عهد الفاطميّين (وغيرهم)، حيث قُسِّمت بلاد الشام إلى ستة ألوية، حصب وصف المقدسي، وهي قنسرين، حمص، دمشق، الأردن، فلسطين، والشراة 4. والتأريخ الفلسطيني واضح ليس فقط في وجود كيانيّة فلسطينيّة مستقلّة، وإن في بوتقة عربيّة أو سوريّة على حد سواء، لكن مع مركزيّة للقدس عبر السنين. والاستماتة في الدفاع عن القدس كانت من أقوى المقاومات ضد تقدّم الغزو الصليبي، الذي لم ينجُ من فظائعه المسيحيّون المحليّون أو اليهود (وقد تجمّع اليهود في المدينة في كنيس قديم، وأحرقهم الصليبيّون كلّهم بعد خرقهم لأسوار المدينة. ويروي ابن القلانسي في ذلك: «وقُتل خلقٌ كثير وجمع اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم» 5). والتأريخ الصهيوني الغربي المعاصر عمد إلى جعل الكيان الفلسطيني صنعة «سايكس-بيكو» ونفى ان يكون للقدس أثر في القرآن أو في الوعي العربي (الإسلامي منه والمسيحي). ونفي ذكر القدس في القرآن بات لازمة في الدعاية الصهيونيّة للغرب: و«الذي باركنا حوله» في سورة الإسراء في القرآن لا ترد في الكتابات الصهيونيّة المصرّة على الإنكار.
إن القدس حديثة جدّاً في الخيال والإصرار الصهيوني. والصهيونيّة تتأرجح دوماً في تسويغ الاحتلال لفلسطين بين ضرورات الأمن القومي (للشعب المحتلّ) وبين الرابط الديني (لدين واحد فقط). والذي زاد في المبالغة الاسرائيليّة في أهميّة القدس لليهود وفي تهميش دورها عند المسيحيّين والمسلمين هو احتلال ١٩٦٧، بسبب رفض العدوّ لإخلاء أراضي عام ١٩٦٧ حسب القرار ٢٤٢ المائع والمبهم الصياغة (بسبب الإصرار الأميركي على كلمة «أراضٍ» بدلاً من «الأراضي» حسب الصيغة الروسيّة للقرار). وحريق الأقصى أنعش الدعاية الاسلاميّة السياسيّة من قبل النظام السعودي (الذي بات يُقلِّل من أهميّة القدس في دعايته هذه الأيام، وينفي ان يكون هناك مقدّسات للملكة السعوديّة خارج شبه الجزيرة العربيّة). أي أن ازدياد التمسّك بالقدس عند العرب، خصوصاً بعد حريق الأقصى وإعلان الجهاد من قبل الملك فيصل، أثّر على الحملة الصهيونيّة عن القدس لإنكار أهميّتها عند العرب.
وقد كانت دولة تل أبيب هي عاصمة الدولة الصهيونيّة الجديدة في عام ١٩٤٨. وقد فضّل رمز «الصهيونيّة الثقافيّة»، آحاد هاآم، المبيت فيها، وفيها أعلن بن غوريون دولة الاحتلال، وفيها دُشِّنت جلسات الكنيست الأولى. ولم يكن نقل الكنيست إلى القدس في عام ١٩٤٩ إلا لقطع الطريق على أي محاولة دوليّة لتطبيق قرار تقسيم فلسطين حول تدويل القدس. ولم يتقاعد بن غوريون في القدس، وفضّل النقب عليها، فيما كان مناحيم بغين ينوي التقاعد في سيناء. وفي كتابه «القدس: مدينة المرايا»، يروي إيموس إيلون (كاتب سيرة هرتزل بالإضافة إلى أعمال أخرى) ان المؤسّسين الأوائل لم يكونوا على علاقة وئام مع تل ابيب، ويستشهد بوصف مؤرّخ الصهيونيّة، أنيتا شابيرا، للعلاقة بين المؤسّسين والقدس بـ«الرجعي» 6.
المستوى الأوّل من التعاطي مع القرار هو صائب من وجهة نظر النظام العربي الرسمي المُتمسِّك بـ«المبادرة العربيّة» لسلام، ومن دون شروط أو متطلّبات من الطرف الآخر. قد يكون التفاوض العربي الرسمي مع العدوّ من أغرب مسالك التفاوض إذ انه محكوم فقط بقبول العدوّ بقبوله الرسمي من قبل العرب على ان يحتفظ بـ٨٢٪ من فلسطين. لكن العدوّ يريد أكثر من صفة «الانسحاب مقابل التطبيع الكامل». هو يريد التطبيع مقابل لا شيء، وهو حظي بشيء من ذلك في علاقاته مع كل من الأردن، ولبنان (حتى ١٩٨٤) والبحرين وقطر وتونس والمغرب ومصر وعمان والسعودية والإمارات وموريتانيا، على اختلاف مستويات التطبيع. وما يجري التفاوض معه بين ترامب ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد هو ليس أكثر من طيّ صفحة «المبادرة العربيّة» ومنح الفلسطينيّين إدارة ذاتيّة (على نسق مشروع بيغن في كامب ديفيد) لا تتعدّى أكثر من ٤٠٪ من الضفّة الغربيّة، على ان يكافئ النظام السعودي والإماراتي إسرائيل على ذلك بالتطبيع والسلام الكامليْن.
وفي الوقت الذي كان يُعدّ فيه لإعلان تطبيع بين السعوديّة (مع ملحقاتها العربيّة) وبين إسرائيل، أعلن ترامب قراره هذا بناء على حسابات داخليّة محضة. أي أن القرار، وفي حمأة الصراع السعودي - الإيراني، عزّز من نفوذ الفريق الذي يتحدّث عن فلسطين وليس الفريق الذي لا يذكر فلسطين. (هل هناك من تصريح غربي واحد لمحمد بن سلمان يذكر فيه فلسطين؟) وتركي الفيصل في رسالته لترامب قال ذلك بصريح العبارة: ما معناه، ان لا تعطي هديّة للمتطرّفين والارهابيّين ولأعداء أميركا والسعوديّة معاً. والقرار هو علامة ناقصة لحملة العلاقات العامّة للنظام السعودي. ولأن القرار توّج علاقة شهور عسل بين ترامب وبين السعوديّة، فإن الاستنتاج الوحيد، كما لمجلّة الـ«إيكونمست»، أن محمد بن سلمان كان على علم مسبق بالقرار الأميركي. والإعلان المفاجئ لإدارة ترامب بالطلب من السعوديّة وقف حصارها الخانق على اليمن هو معاقبة لها على عدم رضاها (العلني)، أو عدم صمتها المطلوب، على قرار ترامب. وكلّما صدر إعلان سعودي رافض لقرار نقل السفارة، صدر تذكير أميركي بضرورة وقف الحصار على اليمن.
المستوى الثاني من القرار يتعاطى معه على أساس تغيير كبير وجذري في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. والسياسة الخارجيّة لأميركا تغيّرت بالفعل، لكن ليس في إدارة ترامب. السياسة تغيّرت عمّا كانت عليه بالنسبة إلى القدس وبالنسبة إلى مواضيع أخرى في الصراع حسب تعاقب الإدارات وتغيّر مواقف الحزبيْن هنا عن احتلال فلسطين. كان الحزب الديموقراطي يحمل بإلحاح موضوع نقل السفارة منذ الثمانينيّات (وقد رفض ذلك في عام ١٩٨٤ رونالد ريغان بالرغم من شدّة مناصرته لإسرائيل وهدّد باستعمال الفيتو لو أن الكونغرس عارض مشيئته في ذلك، ولم يكن ذلك بسبب تعاطف ريغان مع شعب فلسطين). الحزب الديموقراطي، كما الحزب الجمهوري اليوم، كان يحمل الموضوع لغايات إرضاء الجناح الصهيوني اليهودي في داخل الحزب. أي ان غاياته كانت انتخابيّة داخليّة، وإلا لماذا لم نكن نسمع بالموضوع إلا في مناسبات ترشيحات الانتخابات الرئاسيّة في داخل الحزب الديموقراطي، او في ترشيحات الانتخابات في الولايات ذات الثقل اليهودي بين الناخبين، مثل فلوريدا ونيويورك ونيوجرزي وإلينوي وغيرها من الولايات؟ لكن الموضوع لم يكن محصوراً باليهود فقط لأن أعضاء في مجلس الشيوخ في ولايات تفتقر إلى جاليات يهوديّة كبيرة، كثل دانييل أنوي من ولاية هاواي، كانوا يحملون لواء ضرورة نقل السفارة، وغيرها من عناوين التطرّف الصهيوني الأميركي، لأن ذلك كان متوافقاً مع سياسات الحزب الديموقراطي، ولأن اللوبي الصهيوني كان — ولا يزال — يكافئ حمَلة المشعل بين أعضاء الكونغرس.
والموقف الأميركي من القدس كعاصمة لدولة العدوان برز أوّل ما برز في عام ١٩٥٣عندما نقلت وزارة الخارجيّة الاسرائيليّة مقرّها من تل أبيب إلى القدس. أي إن أميركا كانت حينها لا تتخذ موقفاً من تمثيلها الديبلوماسي فقط، بل هي كانت تعارض الوجود الحكومي الاسرائيلي التمثيلي في القدس. وأصدرت الحكومة الأميركيّة يومها (٢٨ تمّوز ١٩٥٣) بياناً باسم وزير الخارجيّة يذكِّر فيه أن الحكومة الأميركيّة كانت قد طلبت من الحكومة الإسرائيليّة عدم نقل مقرّ وزارة الخارجيّة إلى القدس. وذكّر البيان أن المدينة «يجب أن تكون إلى حد كبير على الأقل مدينة دوليّة». وفي عام ١٩٦٢، اتخذت الحكومة الأميركيّة قراراً بثني كل حكومات العالم عن عزمها نقل سفارتها إلى القدس، وذكّرت بأن موقفها هو في الإبقاء على «مسألة القدس مسألة مفتوحة لمنع تسويتها فقط من خلال الأمر الواقع والاستنزاف». وكانت الحكومة الأميركيّة تقوم رسميّاً بإبلاغ أي حكومة حول العالم بموقفها عندما تسمع بأن حكومة ما تدرس أمر نقل أو إنشاء ممثليّتها في القدس. لكن بعد عام واحد فقط، تراجعت الحكومة الأميركيّة عن موقفها تجاوباً مع احتجاج إسرائيلي، وقرّرت وقف حملتها لحث حكومات العالم على عدم نقل او إنشاء سفاراتها في القدس. وذكّرت الحكومة الأميركيّة مرّة أخرى بقرار التقسيم إلا انها اخذت في الاعتبار الغضب الإسرائيلي من استعمال مصطلح «الجسم المنفصل» (باللاتينيّة) في إشارة إلى وضع القدس المستقل حسب قرار تقسيم فلسطين في عام ١٩٤٧. وكان لموقف الفاتيكان القوي ضد الاعتراف بالسيادة الاسرائيليّة على القدس تأثير على صنّاع القرار الأميركيّين.
لكن مناخ القرارات الأميركيّة عن القدس تغيّر في الثمانينيّات. كان ريتشارد نيكسون يُعبّر في الستينيّات (قبل انتخابه رئيساً في عام ١٩٦٨ وليس بعدها) عن موقف الحزب الجمهوري التقليدي (المرتبط بمصالح شركات السلاح والطاقة وبحكومات الخليج) والذي كان يرغب في لعب الحكومة الأميركيّة دور الطرف «المحايِد» في الصراع (وقد استعمل دونالد ترامب هذا المصطلح بالذّات في بداية حملته الانتخابيّة إلا أنه سرعان ما تراجع عنه بعد صدور أصوات محتجّة من أعضاء الكونغرس). وكان موقف الحزب الجمهوري يعكس ضيقاً من شدّة التصاق اللوبي الإسرائيلي ومصالحه بالحزب الديموقراطي. كل ذلك تغيّر في الثمانينيّات، لأن الحزب تغيّر في بنيته في تلك الحقبة.
الحزب الجمهوري ضمّ إلى صفوفه في حقبة صعود ريغان في الثمانينيّات أجنحة جديدة، أهمّها اليمين المسيحي. واليمين المسيحي عامل أكبر من حجمه الاقتراعي لأنه أنشط من غيره في الانتخابات التمهيديّة. والانتخابات التمهيديّة هي، ضمن النظام السياسي الأميركي الأقلّ ديموقراطيّة من النظم الاقتراعيّة الديموقراطيّة الأخرى، مُقرّرة لوجهة الحزب المقبلة، في السياسة الخارجيّة والداخليّة على حد سواء. واليمين المسيحي مصرّ على نصرة دولة الاحتلال وهو الذي أخذ بالحزب الجمهورية في وجهة أكثر صهيونيّة من الحزب الصهيوني الآخر في اميركا، أي الحزب الديموقراطي. وفي استطلاع لمؤسّسة «بيو»، يؤمن ٨٢٪ من المسيحيّين الإيفانجليّين (إن ترجمة كلمة إيفانجلك ب«انجيلي» هي خاطئة لأن معناها آخر) بأن الله منح فلسطين («إسرائيل»، حسب الاستطلاع) لليهود، فيما لا يؤمن بذلك إلا ٤٠٪ من اليهود. وهذه النسبة هي أكثر من النصف عند السود البروتستانتيين. وهذا الجانب من الصهيونيّة الأميركيّة — حتى لا نقول الصهيونيّة المسيحيّة لأن مفاهيمها وانحيازها تسرّب إلى الثقافة السياسيّة والشعبيّة خارج النطاق المسيحي الحصري — هو الأقل تبياناً عند الجمهور العربي الذي يعاني من تراكم تغطية صحافيّة عربيّة تنسب صنع السياسات الأميركيّة الخارجيّة لأقليّة يهوديّة (كان ياسر عرفات يقول إن خمسة يهود يصنعون السياسات الأميركيّة، ولولاهم لكنّا — نحن العرب —في أحسن حال). وبقدر ما اقترب جمهور الحزب الجمهوري (خصوصاً في الجنوب في أوساط المعمدانيّين) من الصهيونيّة بقدر ما يبتعد باستمرار جمهور الحزب الديموقراطي عن إسرائيل، إلا أن قيادة الحزب لم تبتعد بوصة عن مواقف الحزب الصهيونيّة التقليديّة.
وهذا التغيّر في وسط الحزب الجمهوري (خصوصاً وفق الرؤى الدينيّة النبؤيّة لليمين المسيحي) هو الذي دفع باتجاه نقل السفارة. وفي نيسان من عام ١٩٩٠، أصدر الكونغرس الأميركي قرارَه بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل— «في الحاضر وفي المستقبل» — كأن الكونغرس الأميركي يستطيع أن يقرّر بالنيابة عن المستقبل. وهذا القرار كان الخطوة الأولى في طريق القرار الشهير للكونغرس في عام ١٩٩٥ والقاضي بنقل السفارة تحت طائلة العقوبات الماليّة للسلطة التنفيذيّة. وكان كل مرشّحي الحزب الجمهوري (والديموقراطي) يجاهرون بوعدهم (في الانتخابات التمهيديّة في داخل احزابهم) بنقل السفارة إلى القدس. أذكر في عام ١٩٩٢ عندما كان السيناتور ألبر غور مرشحاً لمنصب نائب الرئيس على قائمة بيل كلينتون، وكان يجول في البلاد مُبشِّراً بنقل السفارة. وأذكر أنه سُئِل ذات يوم عن الموضوع في برنامج أسبوعي إخباري وكان جوابه: إن كل دول العالم لها سفارات في القدس، فلماذا لا نكون مثلهم. الطريف أنه لم يكن آنذاك من سفارة في القدس إلا للسلفادور وكوستاريكا. هذا مستوى معرفة السياسة الخارجيّة عند أعضاء الكونغرس (وبيل كلينتون عندما اختار غور نائباً له، قال إن أحد أسباب اختياره تعود إلى تمرّسه وسعة اطلاعه بأمور السياسة الخارجيّة).
لكن ترامب اختار أفضل وقتِ (له) لتنفيذ وعد جمهوري وديموقراطي قديم. لم يسبق ان لم يكن هناك من تبنٍّ عربي رسمي — ولو لفظي — للقضيّة الفلسطينيّة. والمباحثات السريّة بين جارد كوشنر ومحمد بن سلمان كانت قبل أيّام فقط من إعلان ترامب قراره. وهناك إشارات واضحة بنيّة استبدال القدس بأبو ديس، على ان يتم اختلاق احاديث نبويّة لايجاد رمزيّة دينيّة لها، ووعّاظ السلاطين لن يعجزوا عن ذلك.
القدس لا يجب أن تكون عنوان القضيّة الفلسطينيّة لأن أهميّتها لا يجب ان تتفوّق عن أهميّة أرض فلسطين التاريخيّة. التشديد على الأهميّة الدينيّة كان من صنع الانتهازيّة الصهيونيّة المستجدّة، ولا يجب أن يُقابل بانتهازيّة دينيّة مقابلة. القدس عزيزة على الفلسطينيّين والعرب والمسلمين، دينيّين كانوا أم لا دينيّين. ومسألة القدس، أو حلّ مسألة القدس ولو عن طريق تدويلها، لا تحلّ المسألة الأكبر المتعلّقة باحتلال فلسطين.
ملاحظة: أتقدّم باعتذار لكل مَن يحمل اسم بطرس لبكي لأنني في مقالة العدد الماضي ذكرتُ مرّة خطأً اسم «بطرس لبكي» بدلاً من منصور لبكي. وقد صُحِّحت النسخة الإلكترونيّة لكن بعد نشر العدد من الجريدة.