كلُ الطُرُق الفرنسية إلى دمشق.. مُقفَلة.. بقلم: فيصل جلول

كلُ الطُرُق الفرنسية إلى دمشق.. مُقفَلة.. بقلم: فيصل جلول

تحليل وآراء

السبت، ١٨ أغسطس ٢٠١٨

الأولوية الفرنسية في المجالِ السوري، لوحِظَت في مناسباتٍ مختلفة، نكتفي بذكرِ مؤشّرين حولها. الأول يتّصل بإخراجِ سوريا من لبنان في العام 2005 بمُبادرةٍ من الرئيس جاك شيراك، الذي أراد إعادة الوصل مع بوش، فدعاه إلى مركز النفوذ الفرنسي في لبنان ومنه إلى إسقاط النظام السوري “الذي لن يعيش ابداً إذا ما انسحب من بيروت ” بحسب شيراك نفسه.
لا نُبالغ إن قلنا إن الدول الغربية، تتعاطى مع العالم الثالث، بوصفهِ محمياتٍ مُستقلّة ظاهراً، لكنها مُرتبطة شاءت أم أبت بالدولِ الغربية. بدا ذلك بوضوحٍ خلال الحرب الجزائرية، فقد أرادت إيطاليا لعب دورٍ في المُصالحةِ الوطنية، فاحتجّت فرنسا بقوّةٍ ومنعت “الطليان” من التدخّلِ في شؤونٍ تقع تحت النفوذ الفرنسي وهكذا صار.
نلاحظُ هذا التقليد في ليبيا هذه الأيام، حيث تُصرُّ إيطاليا على أولويّتها في التعاطي بالشأنِ الليبي. ونلاحظه في الشأن اليمني، حيث تفترض بريطانيا، إنها صاحبة الأولوية، فقد احتلت عدن لأكثر من 130 سنة، في حين تُصرُّ فرنسا على أولويّتها في التعاطي بالشأنِ السوري، باعتبارِ أن سوريا من “أملاك فرنسا” التي ورثتها من الامبراطورية العثمانية بواسطة إتفاقية “سايكس بيكو”.
الأولوية الفرنسية في المجالِ السوري، لوحِظَت في مناسباتٍ مختلفة، نكتفي بذكرِ مؤشّرين حولها. الأول يتّصل بإخراجِ سوريا من لبنان في العام 2005 بمُبادرةٍ من الرئيس جاك شيراك، الذي أراد إعادة الوصل مع بوش، فدعاه إلى مركز النفوذ الفرنسي في لبنان ومنه إلى إسقاط النظام السوري “الذي لن يعيش ابداً إذا ما انسحب من بيروت ” بحسب شيراك نفسه.
المؤشّر الثاني يتّصل بالحربِ الدوليةِ على سوريا مع بدايةِ ما سُمّي بالربيع العربي. كانت فرنسا الأكثر حماساً والأكثر إصراراً على الإطاحةِ بالحكومةِ السورية. لنتذكّر الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي أُصيبَ بخيبةِ أملٍ كبيرة، عندما قرّرَ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، العزوف عن قصف سوريا بداعي استخدامها للسلاح الكيماوي. يومها لم يُخبر شريكه الفرنسي، الذي كان بخلافِ بريطانيا، سينتظر بفارغِ الصبرِ تصفية حسابٍ تاريخي مع نظامِ البعث الذي جعل العداء للاستعمار الفرنسي ركناً أساسياً من أركان ثقافة البلاد السياسية.
المرارة التي شعر بها هولاند، كانت تعكس إحباط إدارته التي وصل وزير الخارجية فيها حينذاك، لوران فابيوس، وصل إلى حدِ تبييضِ جبهة النصرة، إذ اعتبر إنها “تقومُ بعملٍ جيّدٍ في سوريا” وكان لهذا التصريح أثره البالغ في حملِ “جهاديين” فرنسيين على الالتحاق بالقتال في سوريا. فما دامت النصرة جيّدة رغم تصنيفها في لائحةِ الإرهابِ في أوروبا، فلماذا لا يلتحق الفرنسي المُتديِّن بها؟ لكن “بَرَكة” فابيوس لم تنزل على النصرة وحدها، فقد نصحَ شركة الأسمنت الشهيرة “لا فارج” بالبقاء في سوريا، تحت نفوذ داعش، وكان يعلم أن الشركة تدفع أتاوات للدولة الإسلامية. واليوم تتم محاكمة “لافارج ” التي يُصرّ مسؤولها في سوريا على أن المعمل كان يُدار بمُباركةٍ من الخارجية الفرنسية.
احتضنت فرنسا أكثر من مئةِ دولةٍ في العالم لإسقاطِ الأسد، وقرّرت من دون دول العالم اعتماد سفير سوري من المعارضة، ورفعت أعلى السقوف في مواجهة النظام السوري، مُفترضة أنه لن ينجو هذه المرة من الإنهيار، وذلك على الرغم من اختلاف الوقائع على الأرض، واجتماعها في اتجاه هزيمة المُسلّحين. ولم يتردّد الرئيس ماكرون في الاشتراك مع الولايات المتحدة وبريطانيا في قصفِ المنشآت السورية في أفريل ــــــ نيسان الماضي، بل لعلّه الأكثر حماساً في تلك العملية التي تبيّن من بعد، أنها مبنية على سيناريو كاذِب دبَّره المُسلّحون لاستدراجِ ضربةٍ قاسيةٍ للحكومة السورية.
بالمقابل لا بدّ من القولِ إن الحكومةَ السورية رفضت كل أشكال التعاون مع فرنسا، وبخاصةٍ في المجال الأمني، مُعتبرة أن الأمنَ جزءٌ لا يتجزّأ من علاقاتٍ دبلوماسيةٍ طبيعيةٍ بين بلدين، ورفضت الوساطات، مُفترضةً أن على باريس أن تتراجع، وأن تعتذر عن مشاركتها في الحرب على سوريا الأمر الذي ما كان وقد لا يكون في المدى المنظور أو المتوسّط على جدول أعمال الفرنسيين.
بعد سقوطِ الغوطة والجنوبِ السوري، اكتشفت باريس أن هامش المناورة بات ضئيلاً أمامها، وأن عليها أن تُغيّرَ استراتيجيتها للتكيّفِ مع الوقائعِ الجديدة. فبادرت إلى إرسالِ مساعدتٍ رمزيةٍ لأهالي الغوطة حملتها طائرة روسية ووزعّتها وحداتٌ روسية على المعنيين بالأمر. بَيْدَ أن فرنسا تعمل من جهةٍ أخرى على مواكبةِ شركائها السابقين في مشروعِ إسقاطِ الحكومةِ السورية. فقد اقترح وزير الخارجية الفرنسي، أن تساهم فرنسا في حماية الحدود الأردنية ـــــــــ السورية، والعمل في منطقةٍ تضمّ مئات الآلاف من المُهاجرين السوريين الذين يُراد استخدامهم ورقة للضغط على الحكومة السورية سواء من جهة تركيا أو لبنان أو الأردن.
البادي أن فرنسا تريد نفوذاً في سوريا، عبر جماعات مُعارِضة، تشارك في الحُكم، وتُدين لباريس وحلفائها بمنصبها. والبادي أيضا أنها ترغب في المشاركةِ بشروطها، في إعادةِ الإعمارِ، وبالتالي الضغط على الحكومة من هذا الباب.
إن الالحاحَ الفرنسي على الحضور في الأزمة السورية يتناسبُ تماماً مع رغبةِ الدول الخليجية، وبخاصةٍ المملكة العربية السعودية التي كانت وما زالت تدعو لإسقاط حكومة الرئيس السوري غير عابئةٍ بالتطوّراتِ التي ما انفكّت تُشير إلى أن دمشق ربحت الحرب ، وأن أحداً في هذا العالم لا يستطيع إسقاط بشّار الأسد الذي صار عنواناً عريضاً لمحورٍ ما فتيء يتقدّم وما بَرِح خصومه يتراجعون.
إذا كان صحيحاً أن السياسة لا تنطوي على عداوات أو صداقات دائمة، فالصحيح أيضاً أن الانتقال من العداوة إلى الصداقة، يحتاج إلى زمنٍ أطول وإلى اعتذارٍ، وإعلان نوايا حسنة، وكلها عناوين لا مكان لها الآن في العلاقات السورية الفرنسية. أما إعادة الإعمار، فإنها كورقةِ اللاجئين محدودة التأثير على الحكومة السورية التي تمتلك خيارات صينية وآسيوية وحتى أوروبية.
ليست السياسة الفرنسية تجاه سوريا في أفضل أحوالها هذه الأيام. فالرئيس ترامب يعملُ مُنفرداً ويُخاصِم الأوروبيين وبالتالي لا جدوى من الاعتماد عليه في بلاد الشام. والسعودية غارقة في رمال اليمن وأصدقاء سوريا في إيران وموسكو لديهم أولويات لا مكان بارزاً فيها لدمج فرنسا في سياق حل للأزمة السورية. أما الأردن فهو أيضا يحتاج إلى التكيّف مع الوقائع السورية الجديدة لكن ليس من باب تحويل حدوده إلى منصّة ضاغِطة على الأسد، المُنتصر لتوّه على الطرف الآخر من الحدود. يفضي ما سبق إلى خلاصة مفادها أن كل الطُرق الفرنسية نحو دمشق مقطوعة إلى أجل غير مُسمَّى.
الميادين