في مناخات «الأنا» المفرطة مـَنْ يقرأ لِمَنْ.. ومَـنْ يعترف بأهمية ما يقدمه غيره ؟!

في مناخات «الأنا» المفرطة مـَنْ يقرأ لِمَنْ.. ومَـنْ يعترف بأهمية ما يقدمه غيره ؟!

ثقافة

الأحد، ٩ سبتمبر ٢٠١٨

سوزان الصعبي:
كثيراً ما نصادف في المشهد الثقافي السوري حالات من «الأنا» المفرطة التي لا ترى ولا تعترف بمنجز غيرها من الكتّاب، فترى هؤلاء البعض لا يقرؤون ما تخطه أقلام غيرهم إلا من باب الاستعلاء، ولا يقعون في منتجهم إلا ما يثير الانتقادات أو أحياناً الصمت التام دلالة على أن منتج الغير لا يستحق الوقوف أمامه، ولكن لا يعدم المشهد الأدبي أدباء حقيقيين يعترفون بمنجز زملائهم وقد يقرون بجماليته وتميزه عليهم، فالتفاعل الإيجابي والحوار والنقد البنّاء مظاهر حضارية ترقى بمستوى الأدب عموماً وبالأدباء ككل.
للحديث عن اعتراف الأدباء بمنجز بعضهم بعيداً عن المجاملات الفارغة توقفنا مع كل من الأديب نصر محسن والناقد أحمد هلال والشاعرة نجوى هدبة.
احتلال اللوحة
بداية سألنا القاص والروائي نصر محسن الذي قال: لنعترف أولاً بأن الأدب بأشكاله كلها تعبير عن هموم وهواجس وطموحات إنسانية، هذا يعني أنه منجز إنساني ولو كان عملاً فردياً، ما من كاتب يستطيع أن يستقل عن الآخرين لأنه امتداد لمن سبقه ومكمّل لمجايليه، وإذا كانت المشاريع الإبداعية شخصية بمعنى أنها إنتاج فردي فهذا لا يعني فرديتها بالمطلق، فهي محصلة لقراءات وثقافات سابقة اشتغل عليها الكاتب وأنجز مشروعه الخاص، وحين نتحدث عن كاتب متميز ففي ذلك اعتراف بالكتّاب الآخرين الذين تميز عنهم، فهم موجودون بالضرورة ولا يمكن تجاهلهم لأنهم في النهاية يشكلون اللوحة العامة بكل ألوانها وظلالها ومفرداتها والتماعاتها، وأي كاتب يحاول عزل الكتاب الآخرين أو تجاهلهم أو التعالي عليهم، إنما يقوم بإخراج نفسه من اللوحة وليس احتلال اللوحة كلها. وأضاف: المسألة عملية تكاملية فالزهرة لا تستطيع أن تشكل حقلاً بمفردها، ولا الشجرة لها أن تشكل غابة إلا باجتماعها وتعاضدها مع الأشجار الأخرى، ولا يستطيع كاتب أن ينعزل عن الآخرين لأنه سيعزل نفسه في النهاية، والاعتراف بالآخر وجوداً وتأثيراً يعكس حالة صحية يحتاجها الكاتب أكثر من غيره، ولا شك في أن التعمق في المعرفة يؤدي إلى الإحساس بالحاجة إلى امتلاك أكثر لها، ولا يتحقق ذلك إلا بالتفاعل مع الآخرين، ولا شك أيضاً في أن التجربة الزمنية تغني وتزيد من رصيد الكاتب، من دون أن ننكر أهمية الموهبة إذ لا تكفي التجربة وحدها لخلق إبداع حقيقي، فهناك من الكتاب من وصلوا إلى العالمية ولم يبلغوا الأربعين من العمر، ومنهم من رحل قبل سن الثلاثين، هي تجارب قصيرة زمنياً لكنها أنتجت إبداعاً أضاف إلى الرصيد العالمي للإبداع.
عداوة لا تجوز
ويضيف محسن أن ما نفتقده في الساحة الأدبية العربية هو غياب المسار النقدي المواكب للمسار الإبداعي، وأوضح: لا يمكن للإبداع أن يستفيد في غياب النقد، وما نراه من قراءات لأعمال أدبية فإن معظمه لا يتعدى القراءات الانطباعية التي تميل في المجمل إلى المجاملة والمحاباة، هذا إذا افترضنا أنها قراءات نقدية، الكاتب المهتم يبحث دائماً عن الآخر ليكمله ويكتمل به، يغتني منه ويغنيه، ولن يكون ذلك إلا بالابتعاد عما يمكن أن نسميه (عداوة الكار) فهذه لا تجوز في الأدب ولا في أي اهتمام ثقافي ومعرفي وفكري، وإذا حرصنا على اكتمال المشهد الثقافي علينا أن نسعى نحن إلى إكماله، بانفتاحنا على زملائنا وأصدقائنا والتشارك معهم لتكتمل اللوحة وليزهر الحقل ولتمتد الغابة.
حالة أخلاقية
محطتنا الثانية كانت غنيّة أيضاً مع الناقد والإعلامي أحمد علي هلال الذي قال: لابد من القول هنا انطلاقاً من حساسية المشهد الثقافي وتموضعاته الكثيرة، وبالنظر إلى سياق كثيف الدلالة في ممارسات المبدعين أنفسهم، إن الاعتراف بمنجز الغير سيتباين من شخص لآخر، حيث تتحكم بذلك مرجعيته التربوية والأخلاقية وثقافته، وفهمه لماهية الإبداع، تلك طبيعة الأشياء، إذ لا ننسى هنا نرجسية المبدعين ومحاولاتهم تأكيد ذواتهم الإبداعية، ذلك أنه بشكل عام يمثل ذلك الاعتراف حالة أخلاقية وفكرية عالية راقية، سنجدها في الأغلب الأعم في الملتقيات والندوات، ليست على مسافة واحدة، هذا إذا أخذنا في الحسبان مجموعة عوامل سيكولوجية مركبة، منها الغيرة والحسد والنميمة، التي أصبحت تشكل هوامش على يوميات الثقافة، ومع ذلك فإنني أجد أن ندرة من الأدباء من يقر للآخر بمنجزه، بل يسعى إلى التكامل معه، وفي طبيعة الحال من دون أن أغض الطرف عما يجري على صفحات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) من ضروب نفاق مثيرة لا تحفل بالمعايير الإبداعية، بقدر ما تحتفي بالصورة المسبوقة بالكلمات، وبمعنى أنه لم تنفصل في الذائقة العامة للأسف- شخصية المبدع – صورته، عما يبدعه، فضلاً عن حالات المديح المجاني التي يستهلكها بعض الكتاب من الجنسين على حد سواء، وأرى هنا أن ثقافة الاعتراف بمنجز الآخر مازالت غائمة وشديدة الالتباس، نظراً لتداخل ذاتي وموضوعي، تحتاج حقيقة هذه الثقافة إلى انفتاح فضاءاتها، لأنني حينما أقر لغيري بإبداعه، فأنا أقر لنفسي باحترامها.
رشوة مجانية
الناقد أحمد هلال أضاف: الناظر إلى ما يمكن أن أسميه هنا التقاليد التي يتبعها كتّاب بعينهم، من أنهم يسبغون على غيرهم ألوان المديح المجاني، حتى يقوم هو بدوره بمبادلتهم هذا المديح، لست مع هذه (الرشوة) لأن النص الحقيقي والجدير بالحياة، النص المثقف والجدير بالمعرفة هو من ينتزع الاعتراف به من دون وسائط ووسائل بعينها، ثمة متصالحون مع الإبداع، وواثقون بالشراكة الإبداعية يسعون إلى خلق بيئة صحية وحوافز للمبدع الآخر كي يستمر، انطلاقاً من فهمهم بأنهم يكتملون به، أي مع أداء الثقافة بمعناها الجمعي، لكن ذلك النزر اليسير ربما يغير في مواضعات الممارسة الثقافية تراكماً ووعياً، ومن خلال تجربتي الطويلة في متابعة المشهد الثقافي، ثمة كتاب كبار لم يترددوا بإعجابهم بمن يصغرونهم عمراً وتجربة، وبالقول إننا نتعلم منكم، لكن المسألة تأخذ طابعاً جدلياً مع كتاب مجايلين لبعضهم، لعلنا نرى ما يستبطن نزعات لاثقافية في بعض اللقاءات، وهذا مؤشر سلبي في طبيعة الحال، لكنني لا أؤسس عليه، فما يعنيني هو المتن بعيداً عن ثقافة الهوامش على أهميتها.
الصغار لا يرون
وأخيراً حطت بنا الرحلة عند الشاعرة نجوى هدبة وقالت: بإمكاني القول نعم هناك من يعترف بتميز إبداع الغير ويصرح به بلا خجل رغم قلتهم، والبعض منهم من الكبار سناً وقيمة والمتواضعين في حياتهم لذا نراهم يعلون بفكرهم وبقدرهم عند الجميع، في الحقيقة من نجدهم لا يقرون بذلك هم الصغار وحديثو العهد بالكتابة، هؤلاء لا يرون إلا أنفسهم خاصة بعد طباعة أول منتج أدبي لهم، ونراهم يحبون أن يكبروا على حساب تصغير الغير ويعطون لأنفسهم ألقاباً تنوء بها أقلامهم وأكتافهم، للأسف الأمراض النفسية موجودة في كل مجالات الحياة ومنها جنون العظمة لدى بعض الكتاب، هذا بالنسبة لمن يعترف بأفضلية الغير، أما من يتعلم من الآخرين فأظن هناك من يتقبل النقد ويسعى لأن يكون أفضل ويستمع لكل كلمة تصب في مصلحته ويميز بين المدح والمجاملة وبين النقد والهجاء سواء أكان كبيراً بالسن وصاحب تجربة أدبية أم لم يكن، وهناك من يرى أن أي توجيه له هو مساس بشخصه، ويرفض أي نصيحة أو توجيه معتبراً نفسه الملمّ والعارف بكل شيء ومنجزه غير قابل للتعديل أو النقاش والنقد، وهذه الشخصية هي الموجودة بكثرة للأسف في الوسط الأدبي وممن هم حديثو العهد بالكتابة والمغرورون نتيجة علاقات اجتماعية غير سوية، أي لوجود من يمدحهم لمصلحة ما.