اتهموها بالجنون ونفذ صبر أحد الفقهاء فطالب برجمها ..

اتهموها بالجنون ونفذ صبر أحد الفقهاء فطالب برجمها .. "للاّ المنوبية" التونسية التي نالت لقب "سيدة الرجال وإمامهم"

تحليل وآراء

السبت، ٢٩ مايو ٢٠١٠


ذهل سكان تونس من ملاقاة امرأة حرة تتقن ألفاظاً يستعملها في الأصل رجل العلم والتصوف


تستقبل زوارها، تحمل أوزارهم، تكتم أسرارهم، وتعالج المرض والسقم وتفك عقدة الكآبة وتفتح أبواب النجاح...كأنها لم تفارق الناس منذ أكثر من 730 عاماً.. ذكرت في كتب التاريخ ومثلت محور منشورات بحثية، هي حاضرة أيضاً في السينما، وفي الأغاني الصوفية، إنها السيدة "المنوبية " أو وفق اللجهة التونسية "للاّ المنوبية" التي توفيت عام 665 هجري.
اسمها الأصلي "عائشة"، أما "السيّدة" أو"للاّ" فصفة الاحترام، و"منوبية" نسبة إلى محافظة منوبة (تقع غرب العاصمة التونسية على بعد نحو 6 كلم) مسقط رأسها وهي ابنة الشيخ عمران ابن الحاج سليمان المنوبي وهو بدوره ولي صالح (سيدي عمر) وأمها فاطمة بنت عبد السميع المنوبي. كانت من المجذوبات - والجذب عند الصوفية تفضل من الله على عبده بالولاية بدون أن يتحمل الولي مجاهدة السلوك- وكانت سائحة تذهب إلى حيث شاءت وتجتمع بالصالحين.
عاشت سبعين عاماً إلى حدود النصف الثاني من القرن الثالث عشر منشغلة بالعبادة والعمل الصالح كريمة جداً وتعيش من غزل الصوف واحتلت ولا تزال ذاكرة سكان تونس الذين اعتبروها مرجعاً لا يقل قيمة عن بقية المراجع الأخرى خاصة وأن اسمها اقترن بأسماء أولياء ذوي مكانة هامة كأبي السعيد الباجي (سيدي بو سعيد) وأبي الحسن الشاذلي(سيدي بلحسن).

الصبية الفاتنة ذكية أم مجنونة؟
وكانت السيدة عائشة جميلة الذات حتى قيل عنها وفق ما جاء في كتاب (الحقيقة التاريخية للتصوف) للمؤلف محمد البهلي النيال، أنها أجمل عباد الله وأن النظر إليها فتنة. وقد تفوقت الصبية منذ طفولتها عن بنات قرية منوبة بقوة شخصيتها وحدسها الكبير وذكائها الحاد وشذت عن طريق مجرد الإيمان الحدسي فبدأت تطرح تساؤلات عن أسرار الخلق ودور الله وأصبحت على ما هي فيه مثيرة لفضول المنوبيين الذين اتهموها بالبلاهة وأحيانا بالجنون... وكانت السيدة محل نقاش مجموعة عاتبت أباها بسبب هذا السلوك...
ولم يكن من السهل في القرن الثالث عشر من العهد الحفصي، الحديث عن امرأة ذات صيت، حيث كانت المرأة في تلك الفترة محرومة من الحق في التعليم والتعبير والحرية. وتقول المراجع إنه إلى حدود القرن الخامس عشر كانت هنالك فئة قليلة من النساء المتعلمات أغلبهن قادمات من الشرق والأندلس جئن جواري لدى الأمراء الحفصيين أو نساء من العائلة الحاكمة برزن من خلال بعض المنشآت ذات الصبغة الدينية.
ومثل بروز "السيدة المنوبية" كامرأة تونسية من الطبقة الشعبية ظهرت عليها بوادر النبوغ حدثاً غير مسبوق لذلك كانت مصدر استغراب أهالي قريتها. فقد تميزت عائشة المنوبية مثلما ورد في مجموعة " المرأة التونسية عبر العصور" بذكائها الذي خول لها أن تكتسب المعرفة والعلم من جهة والحرية من جهة أخرى.
وضحت "السيدة" بالحياة العائلية فلم تتقيد بضغوطاتها ورفضت الزواج من ابن عمها وزهدت في الدنيا ولم تكن لتسكن عن طموحها المعرفي وروح التحدي التي تحركها فعملت على التخلص من قيودها البيئية والاجتماعية وانتقلت بحفز من والدها إلى تونس العاصمة لتتمكن من ملاقاة ثلاثي المشاهير في تلك الفترة فلم تجد صعوبة في التقرب من أمير البلاد الموحدي أبي محمد عبد الواحد ولا في التتلمذ على أبي السعيد الباجي، ولا في الاختلاط بأبي الحسن الشاذلي، لتصبح واحدة من أتباعه الأربعين.

علم وتصوف وكرم
وتناقلت عديد الكتب قولها "أنا رأيت أبا الحسن الشاذلي وأعطاني خاتمه من إصبعه وقال لي: أنا أوليتك طريقي وقالت رأيت الشاذلي مرة أخرى وأعطاني علمه وصبره".
وقد أكدت "السيدة عائشة "أنها تمكنت من رؤية الله بعين القلب مصدر اليقين ووضحت فرحة هذا الانكشاف وحقيقة وجود الله إذ كانت دائماً تقول: "إن الله خلقني وأحبني واختارني ورواني من منبع العلم وجعل مني قطب الأقطاب وزينة أصحاب الله وأنا شاذلية (نسبة إلى المدرسة الشاذلية) ووحيدة عصري، إني سيدة الرجال وإمامهم". ونفذ صبر أحد الفقهاء فطالب برجمها نظراً لحريتها وتجمعها مع الرجال إلا أن حماتها أجابوا بأن يعتبروها "رجلاً كبقية الرجال".
ويذكر للسيدة "المنوبية" في مسارها الكفاحي من أجل العلم والحرية ونشر رسالة الإسلام أنها كانت تتجول في شوارع تونس الحفصية وتدعو بأعلى صوتها إلى توحيد الله. وكانت في الآن نفسه أمينة على تقاليد الموحدين مثلها مثل سيدها أبي الحسن الشاذلي الذي كانت ترافقه في ذكر الله بمغارة التعبد حتى مطلع فجر اليوم الموالي.
كما زارت "السيدة" عديد المناطق في البلاد التونسية رغم صعوبة ظروف التنقل آنذاك فتحولت من جبل الشكل إلى جبل زغوان وجبل التوبة بالزلاج وجبل المنارة وهي مرتفعات مميزة للخلوة من أجل العبادة إضافة إلى أماكن أخرى على غرار جامع الصفصاف عندها ذهل سكان تونس من ملاقاة امرأة حرة تتقن استعمال ألفاظ يستعملها في الأصل رجل العلم والتصوف.
وصارت في وقت مبكر ولية صالحة ومتصوفة وعالمة بالقرآن الكريم وذائبة في حب الله. ولم تنسَ نصيبها من الدنيا فعملت على إعانة الفقراء والمساكين وكانت لسان دفاعهم في السراء والضراء حتى أنها كانت تكسب قوتها من غزل الصوف فتأكل ما يتسر لها من الطعام في يومها وتفرق ما تبقى على البؤساء وذوي الحاجة.

زاوية وخلوة وقبر السر
وأحاطت بملابسات حياة الولية الصالحة عديد الأساطير من أشهرها حكاية الثور الذي أهداه إياها والدها وطلب منها أن تستغله في الفلاحة لكنها ذبحته وقسمت لحمه على الفقراء وطلبت منهم أن يأكلوا لحمه ويعيدوا إليها العظام فلما فعلوا تجمعت العظام وعاد الثور حياً.
وكانت هذه الحادثة حسب روايات الأولين سبباً في تغير موقف الأهالي منها. وأقاموا تكريماً لها مقاماً خاصاً "زاوية السيدة المنوبية" المجاور لمنزل والدها الأصلي. ويحتوى المقام على تابوت صوري مزخرف بألوان السناجق الخضراء والحمراء تقابله استراحة لضيوف المقام وزواره كما يتميز ببهو يخصص لإحياء حفلات "الزيارة " أيام الأحد، والمذبح وجدرانه المكتوبة بالحناء للتبرك.
وللسيدة خلوة في العاصمة (في منطقة القرجاني) أين كانت تقطن أيام طلب العلم والمعرفة وقد وافتها المنية في يوم الجمعة 21 رجب في ساعة الضحى التي تعودت فيها الالتجاء إلى الله بقولها "يا هادي الضالين يا من يؤمن الخائفين ارزقني فضل رؤيتك هب لي أن ألحظ بيقين وجودك".
ويقول السيد محمد صالح اليعقوبي وهو وكيل الزاوية خلفاً لوالده ومن قبله عمته إن وفاة المغفور لها كاد "أن يثير فتنة بين أهالي منوبة مسقط رأسها وأهالي تونس مكان خلوتها فكلا الشقين كان يعتقد بأحقيته للجثمان". وتابع موضحاً "حملت الجثة من قبل مصدر مجهول الهوية ودفنت في روضة القرجاني التي تحولت اليوم إلى حديقة في قبر مجهول عرف بقبر السر".
ولم ترد أي أخبار حول القبر السري "للسيدة "سوى ما ورد في كتاب، الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي، من أنه عثر أخيراً على سيف من رخام عندما قامت بلدية الحاضرة بتسوية مقبرة القرجاني ونقلت قبورها، ووجدت عليه كتابة بارزة نصها(هذا قبر عائشة بنت موسى بن محمد توفيت في السادس عشر من شعبان المكرم عام ثلاثة وخمسين وستمائة).
ورغم صورية قبر "السيدة المنوبية" في مقامها بمنوبة إلا أن الناس اعتادوا زيارة المكان يومياً للبركة وقراءة الفاتحة وطلب الشفاء والنجاح ومناجاة المولى ومنهم من تعوّد كتابة حاجته بالحناء على الجدران وطلب النشوة في حضرة أيام الأحد وتقديم الهدايا والأضاحي كل حسب قدره والعودة ب"السماط " (ما تيسر من الطعام وإن كانت قطعة خبز) والبخور والحناء والشموع...

تقارب إنساني وعلاج نفسي
ولئن أصبحت زاوية "السيدة المنوبية" اليوم جزءاً من التراث التونسي بفضل ما يزخر به المقام من رصيد تاريخي وما تؤمن في إطاره من مراسم احتفاء بالسيدة الخيرة حيث تتغنى "التيجانية " وهي فرقة نسائية تتكون من خمسة عناصر تذكر أمجاد السيدة وخصالها وخصال أشهر أولياء تونس الصالحين في شكل ما يعرف بالنوبات (نوبة السيدة، نوبة بابا بحري، نوبة سيدي بلحسن وغيرها...) وترقص النسوة على هذه الأنغام حتى التخمر (بلوغ حالة الإغماء)، لتشعر على إثر ذلك بالراحة النفسية و"ترشق" أي تعطي ما تيسر من النقود إلى الفرقة.
ويقول الوكيل موضحاً "إن في ذلك علاجاً نفسياً ففي هذا المكان تقصد النسوة الراحة والطمأنينة وتحاول نسيان الهموم".
وتذكر في "نوبة السيدة" عبارات تمجيد الولية الصالحة من قبيل "محبوبة يا سيدة يا ساكنة منوبة" و"ربي أعطاك التوبة" و"ما أحلاها، طلبت وربي أعطاها" كما تتضمن عبارات مناجاة على غرار "داويني يا للاه يا ممو عيني - بمعنى يا قرة عيني-" و" يا سيدة جئتك بجاه الله".
ويتيح هذا الفضاء أيضاً التلاقي بين الناس وتحقيق التقارب فيما بينهم وتقاسم الطعام في "الزردة" والغناء والزغاريد كما أنه يمكنهم من قضاء شؤونهم ولما لا الاسترزاق. وتقصد – الآنسة سناء الورهاني- المقام أيام الزيارة لنفش أيدي الصبايا بالـ"حرقوس" أما - السيدة نجوى البلطي- فتبيع في مدخل الزاوية منذ قرابة عشرين عاماً الحلوة الشعبية "النّوقة " المصنوعة من الحليب والسكر و"الحلقوم" المستخرج من خلطة النشاء والسكر و"الهردباء" التي يعتمد في صناعتها على السميد و"الحمصية " حمراء اللون.
وتسدي الزاوية خدمات اجتماعية على غرار إيواء عابري السبيل والقادمين من أقصى مناطق الجمهورية من بين ضعاف الحال لقضاء شؤونهم بالعاصمة. ويوجد بالزاوية مرابطون متطوعون لخدمة المقام يقتاتون من جزء من مواردها من هبات وعطايا الزوار ويشاركهم في أعمالهم التطوعية بنات الحي وضيفات المقام طلباً للبركة والشفاء والنجاح.
 

تونس- فاطمة زرّيق