جميل قاشا: الفن التشكيلي ليس له ضوابط علينا اتباعها أو التقيّد بها

جميل قاشا: الفن التشكيلي ليس له ضوابط علينا اتباعها أو التقيّد بها

ثقافة

الأحد، ١٤ أبريل ٢٠١٩

إنه ليس صيادا لحجر فقط، بل هو رجل يعيش بين طياته وتكويناته، ويسوغها بحب أبدي، لا يمكن حتى لذهب زوجة أن يفرقه عن عشقه لمنحوتة، إنه قادر على احتضان الزمن وتطويع الطيات، مع الإكثار من الحب الذي اعتنقه من الأم.. الطبيعة، ليقدم لنا بكل خصوصياته، مع كل إضافاته من الإكسسوارات، أعمالاً متفردة، بالبصمة والدهشة، وبالحضور الطاغي والأسر للماضي مع الحاضر والمعاصرة، جمال الأعمال نصيبها من اسمه أيضاً. إنه النحات الذي اختار الإزميل والحصى بالذات، ليكون نحاتا قبل تخرجه في عامه من كلية الفنون الجميلة بدمشق. جميل قاشا فنان أسر حتى الكلمة واستحوذ على المعنى بالأسلوب التعبيري، فحبه الطاغي للفن والفنانين والإنسان، جعل قلبه كما دموعه تدل على رقة قلبه ونبل شعوره، دموع تقدر غاليا لم يخجل منها لأنها فضحت عاطفته الدافقة، بحديثه معنا في افتتاح معرضه في صالة (تجليات) بدمشق- تحت عنوان: «من الكينونة إلى الصيرورة».. تحية لعبد الرحمن منيف -احتضنت الصالة الجميل والجمال برقي مدروس عبر عرض 70 منحوتة -بين الاستعادي والحديث-لأساطير وفرسان ولحيوانات-بأحجام متنوعة- كلّها أثارت دهشة الأساتذة والشباب والذواقين للحركة التشكيلية.
«الوطـن» كانت حاضرة -كعادتها- ونقلت إليكم حديث الفنان والنقاد ومنها إلى المزيد:
 
الوجود لا يلغي الآخر
بداية حدثنا الفنان التشكيلي جميل قاشا عن أهمية النحت بالنسبة له، وعلاقته بالخامات التي يختارها، ليقول «النحت هو وجع الإنسان القديم، وأنا لا أقرأ المعدن، بمعنى أنه ليس قريباً مني، بعكس الطبيعة التي أرتبط بها وأقرؤها بكل مفرداتها، وأشعر بها، كما أحاول أن أستفيد من عمرها، وأن أنتج فنا مضافا لفن الطبيعة الذي تقدمه لنا، ومنحوتاتي هي محاولات تعبيرية عما أشعر به وأراه من جمال».
وعن تعزيز مخزونه البصري وتجديده بشكل مستمر يضيف «إن الطبيعة هي المصدر الغني واللامتناهي الذي أستمد منه رؤيتي، وحتى من خلال الأكاسيد التي تَعرّض لها الحجر، أو الزمن الذي مرّ به، أو لونها، وأحياناً أرى بأن المنحوتة بحاجة إلى إضافات، وهنا ربما أقوم بتكسير زجاج وأضعه على المنحوتة، بطريقة لا تؤثر في هويتها. وحول الإضافات التي أستخدمها-أقولها وأشدد على رغبتي بها-أنا لا أبخل على منحوتاتي أبداً، بمعنى أنني أضع ذهباً وأحجاراً كريمة حسب ما أجد العمل بحاجة ومناسباً له، وهذا انطلاقاً من رؤيتي بأن التشكيل ليس له ضوابط معينة علينا اتباعها أو التقيّد بها، لهذا كل فنان يحاول، وفي النهاية قد يصيب أو لا، والحكم بالطبع هو أهواء الناس».
وعن ضرورة العرض في الصالات والمتابعة، إضافة إلى مستوى النحت في الحركة التشكيلية يؤكد الفنان قاشا «إن العرض في الصالات أمر لابد منه، لكونه انسلاخاً زمنياً وعلينا تقديم أعمالنا لتأكيد أننا على قيد الحياة وعلى قيد الفن ومستمرون بعطائنا. أما بالنسبة للحركة التشكيلية فأنا سعيد بما يقدمه الشباب السوري من محاولات، وهذه الحالات هي ضرورة من أجل إغناء الحركة، وهنا أقول إن وجود أحد لا يلغي الآخر، فالساحة تتسع للجميع، وهذا الأمر تؤكده أمنا الطبيعة حيث إننا عندما نزورها، نرى أن كلّ عناصرها وأفرادها منسجمة مع بعضها مهما تعددت أو اختلفت بالأنواع، وأخيراً أختم بفكرة جدّ مهمة: من يعمل بالفن لا يمكنه أن يعمل إلا بحب، والفنان الحقيقي بعيد عن الشر والحقد، إذاً كل الفنون تعلم المحبة والبساطة».
 
الذاكرة معلقة بالزمن
من جانبه أشار الناقد التشكيلي عمار حسن عن تميّز فناننا فيما يقدمه سواء من حيث الخامات أم الإضافات، متحدثا عن خصوصيات الفنان جميل قاشا «فناننا له أكثر من خصوصية، وبتسميتي له «صياد الحجر» أكون قد وصلت إلى لبّ المعنى على ما أعتقد، فهو باحث في البرية أو بري باحث عن حجر، لينحته أو ليُخرج منه صوراً تداعب طفولته، وتسكن بديهته، عبر مجسمات لمنحوتات نفذها من الحجر الساكن أصلا في البرية والشبيه بالحيوانات والحشرات التي تعيش فيها». مضيفاً بالكلام عن مدى عمق العلاقة التي تربط الفنان بمنحوتاته قائلاً «الفنان جميل قاشا هو عاشق لفنه إلى أقصى الحدود ومتعلق بفن النحت وبمنحوتاته التي يشكّلها، والدليل على ذلك أنه يغافل زوجته ويأخذ ذهبها، ليهديه لمنحوتاته التي يوشّيه بها، فهذه خصوصية يتفرّد بها الفنان، وهنا أصبح من الطبيعي أن نتصور من هذا الحب الكبير، كيف يقدّم لنا كائنات سواء أسطورية أم بشرية أو حيوانية وغيرها الكثير، هذا من جهة ومن جهة أخرى أنه يُبقي ذاكرة الحجر معلقة بالزمن، بمعنى أنه لا يلغي سيرورة الزمن عن الحجر، بل يستغلها كي تكون شَعرا أو لحية أو ثوباً أو شيئاً يضيف للعمل، وأخيراً خصوصية جميل قاشا تمتد إلى الطاقة التي يبثها من خلال العمل النحتي، وهذه الطاقة هي القيمة المضافة للعمل».
في الحجر ما يستجيب للخيال
 
على حين بيّن الناقد التشكيلي سعد القاسم كيف بدأت علاقة الفنان بالنحت مشيراً إلى أن البداية كانت عند استعداد الفنان للتخرج في كلية الفنون الجميلة عام1983، عندما التقط حصى صغيرة وأخذ يشكّلها عبر سكينه، مستوحيا من أشكالها الطبيعية العفوية، محولا إياها إلى وجوه بشرية، ومن هنا يقول الناقد صارت علاقته مع الحجر عنوانا لسنوات تالية وكثيرة، مضيفاً القاسم «وجد الفنان جميل قاشا في الحجر ما يستجيب لخياله الجامح نحو الأساطير الشرقية وحكايات ألف ليلة، ومنذ اللحظة الأولى لالتقاء العين بالمنحوتات تخلق الدهشة، الأخيرة التي تخلقها المادة التي استخدمها وطريقة معالجتها، مقدما لنا فناننا منحوتات شديدة الإتقان وشديدة الإبهار أيضاً.
كما أحب أن أشير إلى أن هذه الأحجار التي جلبها من قلب الطبيعة أثارت الخيال الأدبي للكتّاب، حيث أثارتهم بالقدر ذاته، فالروح الشرقية تسكن روح النحات. خاتماً إن أسلوبية النحات قاشا تتقدم إلينا بعد دراسات واعية منه لحجم الكتلة وعلاقتها بالفراغ، قادرا عبر شغفه وتوقه اللامتناهي على تطويع الحجر، وإثارة تأملات عميقة في المشاهد، عن مواقع الجمال التي قد لا تكون مألوفة بالنسبة للجمهور.
 
في كلمة للراحل عبد الرحمن منيف
وأخيراً لابد أن نذكر ما قاله الأديب والناقد عبد الرحمن منيف- الذي تمّ تنظيم المعرض تحية لروحه- في الفنان جميل قاشا «العاصي من الأنهار العنيدة إذ يسير عكس معظم الأنهار من الجنوب إلى الشمال، وهذا الفنان جميل قاشا ابن النهر وأحد ممثلي روحه. إذ دفعه عناده لأن ينتزع من أعماق العاصي حجارته لكي يحاورها من أجل الوصول معها إلى لغة مشتركة. في معرضه الأول دُهشت من هذا العناد الطفولي لتطويع الحجر القاسي. في هذا المعرض ازداد دهشة وفرحا فقد بدأ هذا الطفل يصل إلى أبجدية قابلة لأن تصبح لغة سرية ولأن تكون طريقته الخاصة في التعامل مع المادة الصماء.
يجب أن نتذكر هذا الاسم جيداً.. جميل قاشا، إنه محاور مجتهد مع الحجر فقد جعله يحس ويستعيد الكثير مما فيه من جمال وقوة وجعلنا نعيد النظر بالحجر ونكتشف فيه الصعوبة والغنى في آن واحد».