كنوز على أسطح دمشق بزنس “الحميماتية”.. تجارة نشطة عابرة للحدود بجوازات”VIP” وطير السلالة بـ “15 ألف دولار”

كنوز على أسطح دمشق بزنس “الحميماتية”.. تجارة نشطة عابرة للحدود بجوازات”VIP” وطير السلالة بـ “15 ألف دولار”

أخبار سورية

الثلاثاء، ٢٣ يوليو ٢٠١٩

شدتني أصواتهما التي تعلو يومياً على سطح منزلهما وهما يصفران ويتجادلان وعيونهما تراقب السماء بانتظار سرب طائر من الحمام، أو كما يسمونها (كشة)، ليطلقا طيورهما الخاطفة والغازية لتخترق ذلك السرب المحلّق لتعود مع بعض حمائمه إلى سطح بيتهما، ولكن ذلك ليس بتلك السهولة كما يتصور البعض، فقد يتحول الصياد إلى “صيد سهل” لمنافسه على سطح آخر، ونجاح العملية مرهون بسرعة التلويح بالأيدي الحاملة لتلك العصي الطويلة بنهاياتها القماشية الملونة أو البيضاء وكأنها رماح أو بيارق تتمايل في معركة حامية الوطيس لا رجعة فيها، وبذلك الصفير الناقل للتعليمات يتم التواصل مع السرب المحلّق الذي يتلقى الإشارات وينفذها دون تردد، حيث تتوالى الحركات هبوطاً وصعوداً حسب حركة الموجه “الحميماتي” الذي لا يرحم أي طائر متخاذل، حيث تلاحقه الحجارة لإجباره على الطيران والعودة إلى مهمته في الإغراء وجذب انتباه الطيور المحلّقة، والعودة بغنائم حية من الحمام.
هذه الغارة الجوية التي يحقق منها الأخوان “حسون” مكاسب وغنائم في مجتمع الحميماتية غالباً ما تنتهي بتساقط الحجارة على منازل الجيران الذين يصحون باكراً على كلمات “تع تع، كش كش، بربر”، وطبعاً هذا المشهد اليومي كان بوابتنا للدخول إلى عالم الحميماتية الذي فاجأنا بأسراره، فهناك طبقتان تمتهنان هذا العمل: الطبقة المخملية التي تتعامل مع الطيور النادرة والسلالة النقية ذات العائدية الاقتصادية العالية، وهم من التجار، ورجال الأعمال، وأصحاب الشهادات العليا، والفنانين، وهنا تجتمع الهواية مع (البزنس)، ولكن بسرية تامة، وطبقة منبوذة اجتماعياً أفرادها يوسمون بأنهم من الكذابين الذين لا يعترف بشهادتهم في المحاكم، كما يشاع بين الناس، هذا عدا عن كونهم في حالة عراك وتخاصم دائم، وهؤلاء تطلق عليهم تسمية (كشاشي الحمام) الذين يتقنون فنون خطف الحمام، حيث لا يتوانون في سرقة طيور بعضهم، وهناك قصص كثيرة عن مشاجرات كانت تؤدي إلى القتل والسجن بسبب طائر حمام لا يتعدى سعره خمسمئة ليرة سورية.
على أسطح دمشق
بالمتابعة والتقصي استطعنا التوغل أكثر في عالم الحميماتية برفقة أبي العبد “نايف رمضان”، ومحمود فوراني (الخال)، وهما من المربين القدامى سمحت لنا أسطح دمشق بالصعود على أدراجها وسلالمها الحديدية لنقضي يوماً من أروع الأيام مع الحميماتية من الطبقة المخملية، فقد فتحت أبوابها لتكشف لنا عن كنوزها المخبأة في حظائر مجهزة بعناية تامة وبطريقة تثبت الاهتمام من قبل المربين الذين إلى جانب تجارتهم وأعمالهم التجارية الكبيرة امتهنوا تربية الحمام كمضيفنا الأول فوزي طويش “أبي غيث” الذي كان متحفظاً في البداية في حديثه، ومتخوفاً من الإفصاح عن أسراره التجارية وكنزه المخبأ، ولكن شيئاً فشيئاً بدأ يتجاوب معنا، خاصة بحضور أبي العبد والخال اللذين كانا من الخبراء في تربية الحمام، وكما يحدث في عروض الأزياء، أو بطولات كمال الأجسام، عمل طويش على عرض طيوره أمامنا، وهو في حالة حماس تام، فكل طير بالنسبة له فرد من أفراد أسرته، وتجارياً هو تحفة نادرة يجب حمايتها وإخفاؤها عن العيون الحاسدة، وهذا ما حول الجلسة إلى ما يشبه المسابقة أو المزاد، وبصراحة كنت أراقب حركاته التي تعامل من خلالها مع الطيور بكل حرص وحنان، وعلى وقع كلمات مديح الخال (تبارك الرحمن) كانت أبواب الحظائر تفتح أمام أجمل الطيور وأغلاها، وأثناء ذلك كانت تتم بعض الاتصالات بشأن بيع الحمام، حيث تم طلب (12 ألف دولار) في أحد الطيور، وهذا ما استدعى السؤال عن أسعار الحمام التي تبدأ من 200 ألف وتنتهي بمليونين أو أربعة ملايين ليرة، مع الإشارة إلى بعض الحالات التي وصل السعر فيها إلى أكثر من 7 ملايين أو 15 ألف دولار، وطبعاً الحديث كان يدور عن تجربة أحد الحاضرين في هذه الجلسة.
عناية واهتمام
الحديث مع مربي الحمام كانت له نكهة خاصة، فهديل الحمام وصوت أساور الخرز حول الأرجل كان يضفي على الجلسة طابعاً مميزاً ونحن نرتشف المشروبات الساخنة تباعاً من القهوة والشاي إلى النسكافيه، وتبادل وجهات النظر، فيما كانت عيون أبي غيث تراقب طيراً مريضاً، وبعد دقائق حمله إلى غرفة اللقاحات والأدوية والأغذية ليعطيه لقاحاً، وهو يقول لنا: لدينا مجموعة من الأدوية واللقاحات لمعالجة أمراض الطيور المتنوعة، حيث تصل كلفة العلاج 3-5 آلاف ل.س، وقد تصل إلى 15 ألف شهرياً في حال المرض، هذا عدا عن الفيتامينات: (زيت السمك، والكلس، والعسل، والكاجو)، ونعمل على عزل الطيور المريضة، والتعقيم حتى لا تنتقل العدوى، وبالرغم من ذلك هناك خسائر تصل إلى 40% نتيجة لموت الطيور نظراً لضعف التشخيص الطبي، وعدم وجود مخابر ومراكز عناية خاصة  بالطيور، وعيادات تشريح بيطرية.
طبعاً ما قاله (أبو غيث) كان يحظى بتأييد الحضور الذين أشادوا بتجربته في التربية والتكاثر من خلال الفصل بين الحمام الذي ينقسم بين الخدمة، والحضانة، والتربية، وإنتاج أكثرمن زوج في الشهر الواحد، وتم التركيز من قبل الجميع على أن الحمام ثروة وطنية لا تقل أهمية عن الخيول الأصيلة، ويجب الاهتمام بها ورعايتها، وأشاروا إلى أن أية شكوى من الجيران على مربي الحمام قد تؤدي إلى نتائج كارثية، ولذلك يجب العمل على اتخاذ كل ما من شأنه حماية هذه الثروة التي أثرت الحرب عليها بشكل كبير.
شيوخ الكار
بعد أكثر من ساعتين من الجلوس مع هؤلاء المربين حانت ساعة الانتقال إلى سطح آخر، حيث تولى الخال مهمة الاتصال بالمربي طه العمار الذي كان ينتظرنا على سطح منزله مع أحد شيوخ كار الحميماتية (أبي علي المرايشي) الذي يعيش وحيداً مع حمائمه بعد أن هاجر أولاده بفعل الحرب.
وما أن بدأنا تبادل الحديث مع المرايشي الذي تختزن ذاكرته بسنواتها الثمانين  الكثير من الأحداث الخاصة بحياة الحميماتي حتى دعانا مضيفنا “العمار” إلى تناول الفول والخبز العربي مع الزيت البلدي الذي كان يتسلل من بين أصابعنا المغمسة في صحن الفول والخضروات المتنوعة التي تشكّل وجبة شعبية للسوريين، ولا شك أن هديل الحمائم التي كانت مشغولة في مغازلة بعضها، وتبريد نفسها في (طشة الماء) المخصص لهذه الغاية كان يطرب جميع الحاضرين الذين كانوا يراقبون الحمام بلهفة كبيرة، حتى إن أيديهم كانت ترتفع لاحتضان أي طائر يهم بالقفز من أعلى الحظيرة خوفاً عليه من السقوط على الأرض بقوة، طبعاً هذا المشهد الذي تغنى به المرايشي كان مدخلاً للحديث عن الألفة، أو كما أسماها (المعشر) بين الحميماتية، فمجتمع المربين أو “الحميماتية” له أجواؤه الخاصة كهذه الجلسة، إضافة إلى تلك  القوانين الواضحة التي تنظم هذا المجتمع الصغير، فمن يغش أو يسرق طيراً تتم مقاطعته، وروى لنا أكثر من حادثة عن ذلك، وهو يجدد تأكيده على أن أحداً لم يستطع كما قال “التعليم عليه”، ولفت إلى استخدام السيليكون في عمليات الغش لتغيير ملامح مقدمة الرأس لتشبه طيور السلالة النقية التي لها صفات محددة، والطائر الذي لا يملكها يعد طائراً مهجناً، واستعرض خلال حديثه بعض أنواع الحمام، منها: “الأبلق، والمسوّد، والمشمشي، والبيرملي، والعرجاني، والنحاسي”، وتتفاوت الأسعار حسب النوع.
هنا تدخل أبو العبد ليزيد على كلام شيخ الكار بأنه من أهم معايير تقييم أسعار طيور الحمام: (وقفة الطير، ووجهه، وعيونه، ولون ريشه، وطوله، وقصره)، وشارك الخال بالحديث عن أن الطيور السورية من أجمل الطيور، وأن الجهود تبذل لإقامة معرض لهذه الغاية خلال الأشهر القادمة.
تشويه الصورة
مع اقتراب الساعة من الثالثة والنصف ظهراً، حيث الحرارة كانت في أوج شدتها، والعرق يتصبب منا، ودعنا أسطح دمشق وفي جعبتنا الكثير من الأفكار والذكريات الجميلة إلى جانب التساؤلات التي تحتاج إلى المزيد من البحث والتقصي عن عالم (الحميماتية)، حيث كان اتصالنا في اليوم الثاني مع حسين عيسى حنين أحد شيوخ الكار أيضاً، وهو الذي تحدث عن أهمية تربية الحمام من السلالة السورية كونها ثروة وطنية، لافتاً إلى أن السمعة السيئة (للمجتمع الحميماتية) أثرت كثيراً على هذا النوع من التربية، مؤكداً الاختلاف بين كشاشي الحمام بسمعتهم السيئة والمربين الذين ينتمون إلى فئة رجال الأعمال، والتجار، والمثقفين، والفنانين، وتحدث أيضاً عن السوق النشطة للحمام، سواء على الصعيد المحلي، أو الدولي، وهناك الكثير من الإجراءات والتحاليل التي تتم في حال التصدير أو الاستيراد، واستشهد بصفقة تمت لبيع 10 طيور من الحمام بسعر (15 مليون ليرة سورية)، وطالب حنين وزارة الزراعة بالاهتمام بهذه الثروة، والتواصل مع المربين، وتشكيل لجان لهذه الغاية.
معارض الحمام
لم نكن نعلم كما هو حال الكثير من الحميماتية بوجود الجمعية السورية لمربي الطيور والحيوانات الأليفة التي تهتم بمربي الحمام، كما قال أمين سر الجمعية عامر كيخيا، وهو من الأعضاء المؤسسين فيها، والذي تجاوب مع اتصالاتنا معه فحدثنا عن تربية طيور الحمام في سورية التي تعتبر من أوائل الدول في العالم بهذه التربية، وذلك بما تمتلكه من مناخ وبيئة مناسبة لإكثار الطيور، فيوجد أكثر من 500 نوع من الحمام بألوانها وأحجامها المختلفة، ما أدى إلى تسابق دول المنطقة القريبة من سورية، وخاصة الخليجية، وكذلك بعض الدول الأوروبية، للحصول على الأنواع المميزة، وبرأي كيخيا فإن المردود الاقتصادي العالي من أهم العوامل التي شجعت على تربية الحمام، حيث يصل سعر زوج الحمام المميز إلى مليون ليرة سورية كالمسود والأبلق بشكل أساسي، كما توجد سلالات متوسطة القيمة، وقد تم تصدير أكثر من مليون طائر حمام خلال الـ 20 عاماً الماضية إلى الدول العربية، وبالأخص الخليجية، وهذا ما أدى إلى ظهور معارض لطيور الحمام في الدول العربية لعرض مميزات جمال الحمام.
وتابع كيخيا: للأسف لا توجد في سورية معارض للحمام كما في دول العالم، كما أن معظم الطيور السورية يتم عرضها في معارض تلك الدول على أنها محلية، بينما في سورية تم استيرادها واستكثارها في تلك الدول، حيث يتم عرض الجمال كمسابقات جمال الخيول مع وجود هيئة تحكيمية محايدة، وتعتبر سورية من مقدمة الدول بالمنطقة بتحصين طيور الحمام ضد الأمراض السارية والمعدية كالدواجن، ورغم ارتفاع أسعار الأعلاف في الفترة الأخيرة، إلا أن أعداد المربين في ازدياد، وعاد ليؤكد أن معظم طيور الحمام في المنطقة العربية هي سورية الأصل.
معلومات ضئيلة
الاتصال بوزارة الزراعة للحصول على معلومات عن الحمام لم يكن مثمراً، فالوزارة ليس لديها شيء لتقدمه لنا سوى التوجيه لزيارة مديرية الصحة الحيوانية، ومديرية الإنتاج الحيواني اللتين للأسف لم تمتلكان إلا بعض المعلومات البسيطة عن الحمام الذي يدرج ضمن طيور الزينة، وأمراضه، وتوفر اللقاحات الخاصة بالدواجن بشكل عام، والمراقبة على دخولها عبر دائرة الحجر الصحي دون أن يكون هناك شيء محدد عن الحمام الذي لا يقل في أهميته عن الخيول الأصيلة فيما لو كان هناك اهتمام بهذه الثروة الوطنية التي للأسف يتم تهريبها إلى الدول الأخرى، حيث يهرب ما بين 1000و2000 طير حمام أسبوعياً، وذلك على ذمة أحد التجار الذي يعمل بتجارة الحيوانات، والغريب أن تكون دول مثل الكويت، والأردن، ولبنان، والبحرين، وغيرها من الدول التي تستقطب هذه الثروة وتنظم تربيتها، في حين تغيب الأرقام وحتى أبسط المعلومة عن هذه السلالات أو (البزرة) كما يطلق عليها الحميماتية، حيث لم تختلف المعلومات عما حصلنا عليه من بعض الأطباء البيطريين.
القانون والحميماتي
يلاحق “الحميماتية”” قانونياً، سواء كانوا من كشاشي الحمام المعروفين في المجتمع بسمعتهم وتصرفاتهم غير المقبولة، أو من الذين يستثمرون أموالهم في هذه التجارة (بزنس) طالما أنهم يستخدمون الأسطح لتربية الحمام، حسب ما قاله عدة محامين اتفقوا على ضآلة الغرامة المالية المفروضة على مربي الحمام مقارنة بالإزعاج الذي يسببونه للناس، حيث يجرّم القانون بالمادة 744 من قانون العقوبات السوري كل من أحدث ضوضاء أو لغطاً على صورة تسلب راحة الآهلين، وكذلك من حرّض على هذا العمل، أو اشترك به، ومن رمى قصداً بحجارة أو نحوها من الأجسام الصلبة أو بالأقذار العجلات والأبنية ومساكن الغير أو الأسوار والجنائن والأحواش، حيث يعاقب بالغرامة من خمس وعشرين إلى مئة ليرة.
ثروة وطنية
التجربة التي عشناها على مدار أكثر من 15 يوماً ونحن نلاحق أسرار أسطح دمشق وكنوزها من الحمام، أزاحت اللثام عن ثروة وطنية مهدورة لأسباب غير معروفة رغم وجود سلالة سورية نقية تتسابق الكثير من الدول لاقتنائها وإكثارها لما لها من عائد مادي كبير، عدا عن دورها في تأمين فرص العمل، وللأسف حمائم السلام التي قضت الحرب على أعداد كبيرة منها لم تحلّق بمستقبلها بعيداً عن النظرة الدونية التي تلفح مجتمع الحميماتية، ومازالت السمعة السيئة تحاصر تربيتها، وتحد من تطورها، وتلاحق الحميماتية بمختلف تصنيفاتهم.
وفي منحنى آخر نقول: أغرتنا الأرقام العالية لأسعار الحمام وعوائدها المادية الكبيرة وجذبتنا طقوسها، أو كما يقول الحميماتية (معشرها) للتفكير في تربيتها كمشروع يندرج ضمن المشاريع الصغيرة أو الريفية، خاصة في هذه الظروف الصعبة، وكذلك الدخل الذي لا يسد الرمق، وتحديداً للصحفيين، إلا أن ذلك كله تبخر وتلاشى عندما وطأت أقدامنا أرض الشارع، وجاء ذلك الصوت (تفضل أستاذ) لتسقط تلك الأفكار التي داعبت مخيلتنا في القاع الاجتماعي بكل ما فيه من ازدراء لسمعة الحميماتية، إلى جانب ثقافة العيب، وهنا تتالت صور الأهل والجيران والمعارف والزملاء وهم ينادون (… الحميماتي)، ونقطة من أول السطر.
بشير فرزان-البعث