الحب المفقود

الحب المفقود

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٤ أغسطس ٢٠١٨

بين أحياء كوكبنا، يأخذ بالإنسان إما إلى التديّن وصولاً للتعلق بالمكون الكلي، وإما إلى ارتكاب الآثام والشرور والإبداع في إنجاز الخطيئة.
تفكروا معي.. لو أن الحياة مضت هادئة ورتيبة، ومنحت الجميع هباتها المألوفة، لكانت مصائر الناس متشابهة، لكنها حين تعطي هنا، وتسلب هناك، يذهب الإنسان باحثاً عن الحب الذي يبدو كالموت، الحقيقة الوحيدة التي يصل إليها البشر، لأنه لا يعترف بالطبقات أو بالثروة أو الجاه حين وقوعه، إنه للرجل حالة اختلاف مهمة في مسيرة وجوده، أما للمرأة فهو وجودها، وهو كيانها مهما علت مراتبها، وامتلكت من ثروة، فهو كالنار بداية النور، وكالشمس كلما أشرق عليها أضفى عليها معاني الرشاقة والألق والجمال، إنه بداية المعرفة وطريق العلم إلى الإبداع، وهو الرابط الدقيق بين الروح والجسد، وعلاقة الذات الإنسانية بالعالم المادي، فالذي لا يمتلكه لا يقدر على سبر الأغوار العميقة والكهوف المظلمة، وكذلك لا يمكن له من تسلق القمم الشاهقة أو اعتلائها.
الحب والعشق والهيام توصل إلى العهر الملهم لإظهار العبقرية الفنية المسكونة في تلافيف العقل الإنساني، المنثورة على المشهد الذي يتحرك بين صنوف الحياة واحتياجاتها؛ أي في الصناعة، كما في الزراعة وفي العلوم، وكما في السياسة التي لا تمتلك العواطف، إلا أنه يوصل المتمتعين به ليقال عنهم: إنهم ساسة عاهرون أو فنانون مارقون، أو كفرة خارجون، أو أصحاب شطح خرجوا عن الموروث الديني، واستلهموا إبداعاتهم من محيطهم، حيث الطبيعة وصباحات الأنوار والظلال، الحروب والبحار من الأنثى العاشقة والخليلة الماجنة، ومن النسوة الموحيات اللائي يكننَّ حباً أكبر من أي حب يغلفنه بالغيوم الرقيقة، يملأنه بالأجواء الهلامية، يضفين عليه هالات الشعر والموسيقا ضمن واقعية صادقة منثورة على خريطة جسد صمم كي يلتقي جزآه بعد حدوث التداخل بغاية الاكتمال، ومنه تظهر عبقرية شاردة تشير إلى المتمتع به بأنه مبدع أو فنان ونحات، أو طبيب ومهندس، أو فيلسوف حرفي ماهر، أو مخترع نادر وموسيقي مرهف، لأن الحب تولده اللحظة، عنيفةً كانت أم هادئةً، تحدث شرارته اللقاء عبر نظرة أو بسمة أو لمسة أو همسة، تصل مسمع الأذن، تفعل العشق لا دائماً، وإنما أحياناً.
هل قدر أحد من البشرية جمعاء على امتلاك حبين لآخر بشري في آن، حباً لأجل الحب، وحباً لأنه أهل للحب، مؤكد أنني أقارب حب رابعة لمكونها.
إنه حق وحاجة، فهو يتشابه مع خبزنا اليومي الذي لا غنى عنه، مع فارق استخدامه أنه مدينة الجمال وفتنتها المتمثلة في أنوارها، وهو الدموع السخية في لحظات العناق والفراق وإحداثه للندوب والقروح غير الظاهرة، من حيث إنه لا مادي.
هل أدركنا معنى الحب وكلمة أحبك وحبيبي وحبيبتي وحبي الأبدي وذاكرته الجميلة مأساة أو ملهاة، ناهيكم عن حب الأرض والوطن، الزهر والحيوان والشجر، الحب والولع لا يتوقفان عند دِينٍ أو دَين، ليتشكل منهما بوهيميا تسيطر على الطامحين، كما البائسون، يتشابه مع التشرد والأحلام والأمل، يهذب الروح والشكل، ويطور آداب السلوك إذا وصل إلى مرتبة الحب الدامي بصيغ الحب السامي، وهنا يدوّن التاريخ مشاهد قصص العشق الأبدي من علاقة العاشقين إساف ونائلة اللذين طافا حول الكعبة عراةً، ومارسا الحب في زمن الإبهاج الجميل الذي يطلق عليه الجهلة زمن الجاهلية؛ أي قبل الإسلام، وكذلك روميو وجولييت، وصولاً إلى عنترة وعبلة وقيس وليلى.
هلاّ جربنا الحب العفوي الفطري الجاذب المؤمن من الطرفين، فكثيرنا جرَّب وعاش حبَّ المراهقة والنزوة والعابر منه، هل وثقنا بحبنا وأودعناه قلوبنا وأفكارنا، وبه فقط نتعلم الإخلاص؟ لأن المتمتعين به يخشون الخطيئة، فيتجهون إلى الإبداع غير آبهين بالمخاطر، ومن ثمَّ يقدمون أنفسهم، علهم يصلون منابر العلا ومسالك النجاح التي تأخذ بنا إلى الخلود.
الحب قيمته أن يملأ الجوهر، وأن يكون به مختلفاً عن كل ما سبق، كيف بنا نحيا بلا حبّ، والحب قُبَلٌ صادقة لا كقبلة يهوذا الكاذبة التي كانت إشارة تسليم السيد المسيح إلى بيلاطس، وليس كحب إستير لعمها هيرودوت الذي خالف القيم والأخلاق والشرائع، استثمرته وصولاً إلى قطع رأس معلم المسيحية يوحنا المعمدان، ولا هي كمحبة بروتس المنافقة لحظة أن طعن يوليوس قيصر في ظهره الذي قال له: "حتى أنت يا بروتس"؛ أي إننا غدونا بلا أحاسيس، ومن دون مشاعر.
أسألكم ذكوراً وإناثاً: هل أحببتم؟ سيجيب الكثرة بنعم؛ أي حب كان شهوةً غريزية ومصالح أهداف ذات غايات، هل عشقتم؟ هل همتم حباً حتى سكن أرواحكم؟ هل وصلتم إلى درجة العهر في الحبّ؟ أي هل خرجتم عن مألوف الزواج والأبناء والآباء والأمهات؟ هل أحببتم أرضكم ومنزلكم وفكرة من أفكاركم؟ هل أحببتم إلهكم وحولتم حبه إلى خوف منه نتاج أخطائكم؟ هل يمكن لنا احتواء الحياة من دونه؟ أي من دون حواء التي تحتوي ذكرها، على عكس باقي المخلوقات، مؤكد لا، ونسأل لماذا؟ وتجيبنا الأفعال الإنسانية مرخية حضورها: إنَّ الحب حالة لا مادية وأحاسيس متبادلة وتداخل عفوي يحكمه الجمال، فهو لا يعترف بالوثيقة التي تربطه، لأنه منفلت من القيود، وإذا حصر بها فقد ألقه ونشوته، ربما يتحول إلى تكوين، إلى اعتياد، إنما مؤكد يفقد بريقه متحولاً إلى حبّ الاعتياد.
الحب مقام محترم من مقامات العقول الأشد احتراماً، ومن دونه لا يمكن أن تحقق الإبداع، والقلوب إن لم تتمتع به تبقَ بشرية، لا تعرف من الإنسانية إلا اسمها، ومنه نرى أنه لم يترفع عنه عالم، أو سياسي، أو زاهد مؤمن، أو الآباء وأسرهم، وتقارب لذته لذة العلم ويشكل النجاحات المحققة منه، ويتماثل مع لذة الفانين في المكون الكلي، وهو أكبر من لذة الثراء المفاجئة عند البسطاء والفقراء، لذا نجد الحب يزاحم كامل مغريات الحياة المسكونة في القلوب، إنه سبيل العاشقين للمدنية، والتعلق بأرياف الطبيعة، وبشكل دقيق إنه المسار الحقيقي للإنسانية التي تنفض عيش الكارهين، لذلك كان الحب أقوى تعبيراً عن الحرية التي يراها سواد البشر أفضل من الحياة من دونه، وبذلك يكون أكبر من الكبرياء، لأن المرء يغدو يحب قلبه الذي يحوله إلى ضحية، تقبل بعودة الأغلال والقيود لحظة تسليمها قلبها الممتلئ برعشة الحب.
الحب المفقود يدعونا للبحث عنه؛ أي إنه موجود، والذي حصل منذ أيام عبر وسائل التواصل الاجتماعي أشار بقوة إلى وجوده، كم كانت إشارته صادقة وشفافة، امتلأت نظراتها(نظراتهما) بالبسمة المتأملة والأسئلة المركبة بالعشق والهيام والخشية على بعضهما وعلى الوطن، فالذي حدث كان بين الرئيس وسيدة الياسمين زوجته ورفيقة دربه وصديقته، حملا معاً الآمال والآلام، مشهد يعيدنا إلى المشاهد والصور والمنحوتات النادرة التي وثقت علاقات حب نادرة، حصلت عبر حقب التاريخ، وكأن بهما يقولان لنا -نحن شعبهما ولشعوب العالم- إنه الحب موجود في قلوبكم وعقولكم، مسكون في الأرض، الأم، الوطن، ينتظركم في مكان، فقط ابحثوا عنه خلف كل شجرة، وبين كل زهرة وثمرة، تحت كل ذرة تراب، ازرعوا ينبت، وأنتجوا تصمدوا، وأثناء ذلك ابنوا وشيّدوا، أزيحوا الهموم وركام الحروب والكذب والنفاق والخيانة، انتصروا على من يرهبكم فستحصلون على إجابة واحدة، إنني الحب الذي يأخذ بكم إلى الحياة، الحب موجود، عنونته عكس ذلك، كي نجده، لأنه يشفينا من كل شيء.
د. نبيل طعمة