وجـــدتُ الله

وجـــدتُ الله

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٤ يونيو ٢٠١٩

لا تستغربوا ولا تستشرفوا، لأني أقررت أن وجوده أزلي في العقل، لكنه حمل أشكالاً ومسميات، مهما اختلفت وتعددت فبحسب ظروف لغة كل مجموعة بشرية، التي أطلقت السرمدي الكليّ المحيط العليم الدائم على الدوام "إيل" "رع" "هو" "ياهوى" "أدوناي" "آب" "رب" "إله". لذلك أقول: نحن معاً هنا، نحيا على جغرافية مديدة، سكنتها الحياة التي اخترع لها بداية بعد بحوث استفاضت كثيراً، ولم تصلها، فأسكنتها فكرها، معتبرة إياها "البدء كان الكلمة"، والكلمة مكونة من الطبيعتين المادية والروحية لشدة جذب مكوناتها، ودعتنا للبحث والتأمل فيها.

 جرّب الماضون من الموغلين في القدم إلى المستمرين والمتواصلين وحتى المتصلين كل أنواع الحياة عبر حقبهم الزمنية، فمنهم من اعتبر النار إلهاً فقدّسها، ومنهم من ذهب إلى القمر فعبده، وإلى الشمس فتعلق بها، ومنهم من حوّل الأشخاص إلى قادة جيوش أو رؤساء قبائل أو أمراء أو ملوك أو مبدعين أو حكماء إلى آلهة، بعد أن صنع لهم تماثيل، وجعلهم أصناماً من بوذا إلى إيساف ونائلة، ومنهم من شكّل الأوثان، وكان منها اللات وعبد مناة وهبل، بعد أن تخيّله كما يريد من مواد غذائية عبدها وأكلها لاعتقاده أن وجود الإله في داخله يمنحه القوة، ومنهم من صنعها من تراب، أو حتى صخرية، فالصنم غير الوثن، وهناك من قدّس الأعضاء التناسلية عند الذكر، ومنهم من عبدها عند الأنثى، ناهيكم عن عبادة الحيوان والنبات آلاف العبادات، أي آلاف الآلهة، وكل عبادة أو ديانة لها فكرتها، وفكرتها إن لم يسبقها فكرة أكبر، حتى وأنت تعتنقها تدرسها، ترى أنها مقنعة، وتحمل مبادئ وثوابت خلاقة، وحينما ندخل إلى أعماق التاريخ نجد أن استمرار الحياة أنهى كثيراً من العقائد، وولّد أيضاً الكثير منها، رغم هدأته التي قدمت الشكل الأخير الأكبر والأقوى، واعتبرته الأفضل. هذا الذي كان في مثلث القداسة أو الديانات التوحيدية، الذي احتاج لأكثر من بحث وتأمل وتفكر حتى استقر؛ أي اليهودية والمسيحية والإسلام، ومازلنا نشهد ونسمع عن ولادة ديانات تتدحرج ببطء كالوجودية والمارمونية والمادية الديالكتيكية والعلمانية، منها من انتهى، ومنها مازال يتوالد، المهم في كل هذا أن البحث مستمر، ولن يتوقف، لأن لا أحد يستطيع وقفه، والكل غايته الوصول إلى مفاهيم مريحة عن قوة وهالة الإله، هذه الغاية التي تمنحنا ميزة الاستمرار وقيمة البحث والمعرفة من أجل ماذا؟ لأن الإنسان عرف أنه أقوى المخلوقات وأشرسها على الحياة، واحتاج مذ بدئه إلى قوة أكبر يهابها ويخشاها، يحبها ويخافها ويلجأ إليها لحظة ارتكابه للأخطاء واستمراره في شراسته، ولأنه عرف قيمة الخير وقوة الشر، كان لا بدّ له أن يستعين بقوة خارقة تنصره في ضعفه، ويتمرد عليها في قوته.

وجدت الله في العلم والفلسفة اللا متناهيين، ومهما بلغ الإنسان منه فلن يصل إلى منتهى تخصّصه الذي يشكل ذرة مما هو عليه، ولا يحيطون بشيء من علمه، ووجدته في الفلسفة صاحبة الشك في كل شيء، إلى أن تصل إلى اليقين، ووجدته في الآية القائلة: "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ"، إنه ماهية في القوة، لا نراه في الضعف، ووجوده في الغنى الإبداعي، لا في الفقر الفكري، وفي الصحة لا في المرض، وفي الثقة به، حيث لا تكفي ثقتنا فيه، لأن علينا يقع الاشتغال، فنكتشفه في إنجازاتنا، وجدته في تنوع الحيوان وظهور النبات، في الزهور والثمار، في الأخلاق الحميدة، في الصور الجميلة التي تحضر من جماله، وجدته في داخلي كما وجده ابن عربي وابن سبعين والخيام والغزالي ورابعة العدوية، هذا الذي يحمل ما يحمل من دقائق المصنوعات وترابطها والخلايا وتداخلها.

 قادتني آية كريمة لأعلم عنه الكثير: " وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" ومنها انطلق تبصّري الذي لا يقدر أن يحيط بكل شيء، وتعلقت بآية ثانية: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ" وفي: أفلا تبصرون.. وأفلا تسمعون.. وأفلا تعلمون.. وأفلا تتفكرون.. وأفلا تعقلون.. أي إن لم تقوموا بكل ذلك فإنكم آفلون، أي إنكم منتهون، وفي الكتاب المقدس ار 32: 17 تقول الآية: "آهِ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، هَا إِنَّكَ قَدْ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقُوَّتِكَ الْعَظِيمَةِ، وَبِذِرَاعِكَ الْمَمْدُودَةِ. لاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ شَيْءٌ". وأيضاً في ار 23: 24 يقول: "إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلَأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقُولُ الرَّبُّ؟!" أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. فما معنى خلق السموات والأرض؟ وأملأ أنا السموات والأرض، أليس هو المنتشر بينهما والمهيمن على كل شيء معرّف وغير معرّف؟

إن عقل التخصّص وكما أسلفت ومهما بلغ لا يقدر أن يحيط بتخصّصه، لأن فيه كل يوم جديد، ولن يقدر على امتلاك غيره، وإذا حدث وامتلك فيكون على حساب تخصّصه الأول، لذلك أجد وجوده كلياً، يبدأ من جوهر الإنسان، ينعكس عليه إذا كان هذا الإنسان جيداً، فيرى وجوده في الأشياء المحيطة التي به، ومن خلال وجوده يقدر أن يراه، وهذا ما يأخذ بنا إلى علماء التصوّف الذين مزجوا العلم بالإيمان، ليتحدثوا عن نتائج هذا المزج، وأهمها وحدة الوجود التي لا يمكن لها أن تحدث من دون الإيمان والعلم ووحدة الشهود، التي تشهد على الإنسان بعد إنجاز علاقة متبادلة بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان، والإنسان والنبات، فإذا وصلنا إلى حقيقة وجوده في داخلنا علمنا أننا بيته وسكنه، مادام البيت نظيفاً وأميناً، فإذا اتّسخ غادر، وإذا غادر عميت البصيرة وتاه البصر عن كل شيء.

وجدت الله في الهواء والماء والتراب مثلث الحياة وروحها، فإذا انعدم أحد منها انتهت الحياة، هلّا تفكرتم بالإنسان الذي استطاع أن يحلل الماء، ويعرف أن تركيبه ذرتا هيدروجين وذرة أوكسجين؟ هل قدر على تصنيع الماء؟ ولنقل إنه قدر، هل يستطيع أن يصنع كمّاً؟ مؤكد لا، فكيف به إذا أراد أن يصنع تراباً أو هواءً وطبعاً وصل إلى أن يصنع التمثال، لكنه عجز عن تحريكه، ورسم أعظم اللوحات، وبقيت رسماً، وصنع الألوان، لكن جميعها بقيت غير منافسة لدقة ألوان الحياة النابضة في المتحركات ذات الأرواح وحتى الجوامد.

اطلعت على بعض من التفاسير الإسلامية التي وجدتها منحصرة فقط في الفقه والشرع والعقيدة، وتعمقت في اللاهوت والناسوت، ووجدتها كذلك، وأغلبية المفسرين لم يدخلوا بحور العلم المحيط، وتوقفت ملياً عند النبي يونس عليه السلام، وخرجت إلى أنه دخل حقيقة بطن الحوت، ولكن أيّ حوت؟ وهو المولود في نينوى على ضفاف دجلة، أي إنه لا حوت في ذاك النهر، وعلمت من علم الكلي، أن الحوت هو الجهالة، حيث دخل النبي يونس إلى الجهالة، وشاهد جميع الموبقات من الفساد الأخلاقي بكل أشكاله؛ حروب بشعة، غش ودعارة وقمار وكذب ونفاق، لم يغرهِ أيّ منها، فخرج منها، وذهب إلى البحث في العلم، وتمسك بالإيمان الذي أوصله إلى الله، أي إلى الحقيقة، لأن العلم يقول: إذا ابتلع حوت حوتاً يهضمه في ساعات.

تفكّروا في ذلك، فالحياة اليوم غدت علمية، والإيمان بالعلم يوصل الإنسان إلى الله بشكل أسرع وأفضل، ويكون إيمانه جوهراً يقرؤه الآخر بانعكاسه على مظهره، فيؤمن بأنّ الله محبة وتسامح وحياة، يريدنا أن نؤمن به.. بها؛ أي بموجوداتها، بعد أن نتأملها ونتفكر، لكي نصل إلى ما نريد.

د. نبيل طعمة