القدر والاختيار

القدر والاختيار

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٧ أغسطس ٢٠١٩

بيئة بدأ يضيع فيها معناها، كيف نعيد لها الثقة وعالم الخالق يعترف له العقل البشري بعد تأمله بأنه واسع لا حدود له أمام عالم الإنسان الذي ومهما حاول توسعته صغيراً؟ فهو مخلوق ظهر من فعل الخالق، وفي الوقت ذاته يعتبر مظهراً من المشهد الكلي الدال على قدرة الخالق، ورغم أن له استقلاله وله إرادة الاختيار، إلا أن تصرفه يبقى في دائرة صغيرة مما للخالق الهائل، وهذا ما تشترك به الأفكار البشرية أينما وجدت، أي إن للإنسان الحق في التفكير والإبداع والإنتاج، لأنه أيضاً خالق كبير ضمن وساعته، لا أن تنحصر وساعة الإنسان في التفكير ضمن تحديد ذات الخالق أو صفاته أو في شرح علاقته بالكون، أو علاقته بالإنسان، وبالتالي تجده ينحصر بعقيدة الخضوع التام، وصولاً إلى التفاني في المعبود وأفكاره لخصائصه العقلية ووجوده الذاتي، بدلاً من عقيدة إثبات الشخصية والاعتراف بوجوده، كاعترافه بوجود خالقه وفهم عبوديته على أنها العمل والإبداع والتطوير. لنعلم أن الخالق والعالم معادلة غير قابلة للانفصام، والإنسان واسطة أو رابطة بينهما، وصلة المرء بخالقه أقرب وأسرع من صلته بالعالم، بحكم صلة الروح التي خالطته، وخالطت أي مادة طبيعية، فإذا استوعب الإنسان ما فيه واختصّ في جزئية منه، وأدرك صفاتها، سار على درب النجاح الذي يوصله حتماً إلى الهدف، وبهذا الوصول يحدث الوصل والاتصال، ليتبين بعدها أن هذا الإنسان الخلاق هو خلاصة العالم.

 كيف بنا نتمثل واقعاً خصباً ننجز به تجربة حية فريدة، يأخذ بها مجتمعنا، تعيد بها وصل كيانه، توحّد أفكارنا، تمزج بها الروحي بالعروبي بالقومي، نطلق بها وثيقة بارقة، تتداعى منها الخطايا المرتكبة، لتأخذ بنا إلى نطاق المجد الحضاري المنشود، نبتعد به عن التمجيد المزيّف، ونتعلق بما يفيدنا واقعاً لا خيالاً.

ما معنى أن يكون الوجود الإنساني بين منعطفي القدر والاختيار؟ ألا يشكل الوجود الإنساني كل أشكال التدفق الغني بالإبداع والخطيئة اللتين يشكل لهما القدر الغطاء والسند والظل؟ أوَلم تأخذ لغة العالم الجديد مكانها بهدوء مستمر؟ وغزت الفضائل الخلقية التاريخية التي تؤيدها الأديان التي تخلي أماكنها بصمت تدريجي لمصلحة حرية العقل البشري وجسده، اللذين في الأساس لم يكونا مقيدين، لذلك نجد أن العقل ميالٌ للاختيار، ويقبل الاختبار، لأنه إن فُعّل العلم والعلمية فيه فكّر فيما يختار، فالخصائص الفكرية وبفضل صفاتها الذاتية تستطيع أن تكيّف أشكال السمات الخاصة التي تظهر من الحوادث، وبوسعها أيضاً تغيير بعض من نتائجها، بينما لا يستطيع الفكر إحداث أي تغيير في ثوابت الأديان التي تعزو كل شيء إلى القدر، ما يقودنا لفرد بعض من مصطلحات مفسري اللغة القدرية، التي تقدم التسامح وتؤمن بالتعصب في الوقت ذاته، لما تؤمن به، وللعلم إن التسامح ليس على تضاد مع التعصب، لأنه يظهر كمناقض له، فالذي يقدر على التسامح يقدر على التعصب، وهنا ألفت النظر إلى أن كلمة التسامح لا توجد إلا عند الشعوب المتدينة، التي تسودها أفكار البر والإحسان، والتي ترهبها السلطات الدينية التي مازالت تعمل وسيطة بين القدر والبشر، وإن كان بشكل خفي، وبالتالي نجد شعوبها متعلقة بموروثها أكثر من سلطات دولها التي تستند في كثير من قوانينها إلى التشريع الوضعي، مع مراعاة احتياجات التنوع وخصوصياته، التي يتعامل معها أيضاً تحت مظلة القانون المادي، وهنا أدخل على مشكلات العوالم الروحية المتدينة، وفقدانها التمييز بين الدين ومقتضياته ومستجدات العصر المتسارعة، الذي أوجد للعقل وساعة هائلة، وأخذت البشرية تبدي حاجتها إلى الكلام المنطقي الواقعي، الذي يقر بها من الحياة أكثر، وأيضاً إلى ما يثير وجدانها، ويغني فكرها، وأكثر من ذلك السعي الحثيث لتطويرها، لأن إرادتها غدت متعلقة فيمن يزيد حيويتها عبر زيادة إسهامها في معارك الحياة الطاحنة، التي تريد أن تخرج منها منتصرة وسعيدة.

القدر والاختيار توءمان يشعر البشر المنقسمون حولهما بأنهما مختلفان جذرياً، وفي الوقت ذاته نجدهما متضامنين كلياً ومرتبطين ارتباطاً وثيقاً في آن واحد، وحتى إلى وقت قريب كان سواد البشرية قدرياً إلى حدٍّ كبير، أما الأجيال الحديثة فإنها تواجه اضطراباً جذرياً وسريعاً نتاج وقوع الأحداث المتسارعة أمام ناظريها، مثل تبدّل عناصر الطاقة وفلسفة استيعابها، وتطور وسائط الاتصال بشكل مذهل، والوصول إلى كثير من حقائق العالم التي كانت مجهولة بالنسبة له، وانكشاف حجم هائل من الأساطير، ناهيكم عن قدرات هذه الأجيال الجديدة في فهم حدود الكون القابل للزيادة ومفاهيم الإنسانية والمستلزمات الأساسية للحياة والموت، فالحياة والحفاظ عليها وزيادة إنتاجها واستكشافها والعمل لها يعني الحفاظ على الإنسان، لأنه أغلى ما في الوجود، فأصحاب هذا الفكر مخيّرون، أما الموت والأمراض القاتلة والآخرة والحساب والنار والحروب والجنان فأصحابها قدريون، وهنا نصل للقول: إن أهل الخيال والصور غرقى في العنعنة والأقوال، وأهل العلم والبحث في المعنى أهل للأسرار وفكّها وحجبها.

لا يوجد إنسان على وجه هذا الكوكب إلا وينشد السعادة، ويحاول أن يحقق في وجوده لنفسه أكبر قدر منها، وأنى له هذه السعادة، والحياة ممتلئة بمعتركاتها القديمة الجديدة الحديثة والمستحدثة، التي كلما تطورت وتكاثرت موجوداتها تعقدت مشكلاتها، وتشابكت همومها، وتراكمت آلامها؟ فهل يقدر أي إنسان ومهما أوتي من قدرات وإمكانات أن يحقق لذاته الخلاص الكامل منها، أو الانتصار النهائي عليها؟ وكلما اتسعت الحياة تعقدت أكثر، وهذا ما يفرض على إنسانها ضغوطاً أكثر، ويتطلب منه أن يتعلم أكثر، لكي يوائم بينه وبين الحياة.

القدر أعني به الجانب الإلهي المسكون في العقل العالمي والمفعّل بقوة في تفكير الأمة العربية والإسلامية، الذي اعتمده المسلمون بعد أن قدمه المفسر الإسلامي، حيث اعتبره أهمَّ بعدٍ في تكوين الإنسان المسلم، وأدى إلى اعتماده على أنه فلسفة إسلامية رغم محاربة الإسلام للفلسفة، باعتبارها تدفعك إلى البحث والشك، وصولاً إلى اليقين، أي إلى الجوهر، بعد اعتماد العمل العقلي الذي يقودنا إلى الواقعية الفكرية، التي لم يصل إليها حتى اللحظة من منظوري المفكر الإسلامي، لكونه انحصر في فكرة القدر، ولم يقدر أن يخرج منها حتى اللحظة، والسؤال الذي يفرض وجوده على العقل الإسلامي: ما موقف هذا العقل من التطور العلمي والفلسفة العالمية التي تحيط به؟ ومن ثمّ الحداثة التي تغزوه ويتفاعل معها ظاهراً، هل يستطيع هذا العقل إعلان القبول أو الرفض، أو حتى يقدم نقداً، لأن العلمية ذهبت بعيداً في الأمام، فهل يبقى أمام كل ما يجري صامتاً؟

كم من فرصة حضرت لعالمينا العربي والإسلامي بغاية النهوض وقتلها التردّد؟ كم من مرة غُزيت هذه الأمة، ودُمّر الكثير من مفاصلها، وبقيت مستسلمة تحت مسمى أن هذه الأمة مبتلاة، كما يقول أفرادها لحظة وقوعهم في مصائب هي من صنع أفكارهم؟

إن الله ابتلانا بكذا وكذا من دون البحث في أسباب الوصول إلى ذلك، ولو أخذنا الأمثلة الكثيرة المنتشرة حول كيفية نهوض اليابان، وقبلها أوروبا، وبعدهما كوريا وجنوب شرق آسيا، أوَلم يصل تفكيرنا إلى هذا المستوى؟

متى سيعترف هذا الإنسان الإسلامي بأنه صاحب الاختيار وهو المسؤول عن كامل تصرفاته، لأنه يمتلك قواه العقلية؟ فإذا ضعفت العقلية أو انعدمت وسائط تفكيرها، عندها لا يمكن أن نتحدث عن أي حرية أو اختيار فيما ينسب إليها من أفعال.. فأين نحن؟ قدريون أم مخيَّرون؟

 د. نبيل طعمة