الوجود المسيحي

الوجود المسيحي

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٧ يونيو ٢٠٢٠

صناعة المستقبل تنبع من فكرنا وبأيادينا يتم، وحينما نصل إلى تحقيق ذلك نبتعد عن لوم الآخرين، لأن من لا يتجه إلى ذلك يكن مصراً على الجهل فيه، وصحيح أن رؤى البشرية متعددة متنوعة، وتعجّ بالأفكار الخلاقة والهدامة، تحيا إلى جانب بعضها، محدثة الصراع الدائم من أجل الحياة، وكل منها يسعى لإثبات فكرته على أنها الصح والأفضل، ولكن من ينشئ الخوف على الإنسان فهو الإنسان، الذي يقف على نقيض فهم الإنسانية، وإن كان هناك مبررات من هذا الخوف، فهي تدعونا لبلورة رؤى جديدة تحررنا من أفكار الخوف التي تقيد الحركة الإنسانية؛ بل أكثر من ذلك، كي لا تأخذ بها إلى التطرف.
بداية مؤسسة لما نريد الخوض فيه تحت عنواننا الذي أتناوله، لكونه يخصّ مشرقنا العربي وضرورة الحفاظ على تنوعه الروحي والثقافي الذي يغني بعضه، ويشكل نجاحه منارة عالمية لوحدة الوجود الإنساني، الذي يؤدي إلى وحدة الوجود مع الله رغم اختلاف معتقداته، وما مررت به عن الخوف ليس على المسيحيين بشكل خاص، وإنما على كامل المكونات الإنسانية المستمرة التي تحيا على جغرافيته، وبما أننا متفقون على أن الإنسان واحد متسلسل، لا يمكن له أن يختلف إلا من خلال ما يحمل من فكر، الذي أؤكد من خلاله أن التنوع الفكري مهما بلغ شأنه لا يقدر على نفي الوحدة الإنسانية.
 أيضاً هنا أشير إلى أن الدفاع عن المسيحية هو دفاع عن الإسلام، وعن أي دين آخر مهما بلغ حجمه أو مكانته، وهذا الدفاع لا يعني حمايتهم بالقدر الذي يفسح المجال بتفعيل دورهم، فشرقنا العربي الذي ظهرت وولدت وتجولت جميع الديانات من وعلى أرضه مع نبواتها ورسلها، والذي امتلأ بهم ثراه، إضافة إلى العلماء والقديسين والأئمة الصالحين، تناهبته الحروب من ذاك الموغل في القدم وحتى حاضرنا، وقتلت من اليهود والمسيحيين والمسلمين الكثير، وهجرت منهم أكثر مما فنت وأبادت.
 من كل ذلك نعلم أن الاستهداف الأكبر لم يكن للدين المسيحي، إنما كان للدين الإسلامي الذي اشتغل عليه من خلال كل الحروب الإقليمية والعالمية والطائفية، ليكون رديفاً للإرهاب وإلصاقه حصرياً به، وهذا كله كان من تخطيط الصهيونية الإسرائيلية الجديدة العهد في كيانها، هذه التي جعلت من أهم أهدافها فرط عقد الأمة الإسلامية أولاً، وثانياً العربية، وبشكل خاص المحيطة بالكيان الإسرائيلي الذي ما انفك جاهداً على تحويل التسامح والتآخي الديني إلى تطرف، ليس بالفكر فقط، وإنما بالقتل، هذا الذي لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلاً.
 رغم كل التطور العلمي الهائل نجد الفكر الصهيوني الإسرائيلي عمل على تحويل المسلمين ولغتهم ودينهم إلى التطرف، وأقول هنا: إنه نجح في اصطياد البعض منه، وجعل منهم مؤثرين في عملية الإرهاب التي دعمها الغرب، ووجهها لحمل السلاح والقتل باسم الدين وباسم الله، إضافة إلى تشجيع التكفير والإقصاء الذي هو بعيد كل البعد عن الفكر الإنساني المؤمن بأن الإنسان واحد.
قد يقول قائل: كيف بي أتحدث بهذا الشكل، وما الغاية من وراء كل ذلك؟ وكيف بي أدعو لحماية المسيحيين المشرقيين في كل من سورية والعراق ولبنان والأردن ومصر وفلسطين المهد المقدس للمسيحية من خلال السيد المسيح من الاتجاه إلى الغرب الذي تطرف كثيراً، وأنجز تحالفاً خطيراً مع المتطرفين الإسلاميين من أجل تدمير التسامح الديني الإسلامي وتحويله إلى تطرف يهجر ليس المسيحيين، وإنما باقي المكونات، وهنا أشدد على عدم التسليم بالمسلمات، لأن جميعها قابلة للتغيير، وضرورة الانتباه إلى التحفظات التي تدعو الجميع للأخذ بها من إطار السعي للحفاظ عل المكونات التي تنشد وجه الله، وتسعى إليه بالمحبة، فإذا كنا نسعى لأصالة الإنسان وحريته، وإلى إملاء القلوب بالفرح، يكون لزاماً على الجميع الاجتهاد من أجل الازدهار والاندفاع وراء إحقاق الحق وإرساء العدل وتحقيق لغة التوازنات فعلاً لا قولاً.
 لقد خسر شرقنا كثيراً من ثقافاته وغناه المعرفي عبر عقود، ورافقه نزيف مستمر من المسيحية باتجاه الغرب، فإن لم ننتبه إلى ذلك فإننا لن نجد مسيحييه ولا حتى المؤمنين بالإسلام، ليكون ساحة للتطرف والعنف والإرهاب والحروب، وإذا آمنا بأن الوحدة الوطنية من أهم مبادئ نجاح الدول والحرية بواباتها إلى التحضر وصناعة الحضارة، تكون مسؤولية الجميع السعي لتحقيق السلام الوطني، فقدرنا خاصتنا، والمستقبل نحن نصنعه من حاضرنا، ونجاحنا يجب أن نجتهد لتحقيقه، ولا ينبغي أن نرمي فشلنا على الآخرين، مادام الإنسان واحداً بألوان متعددة وألسنة لغوية مختلفة، فالله واحد يفهم لغات الكل، ويتحدث لكل واحد بلغته، ويفهم عليه، ففي هذا الشرق العربي حصراً وكما أشرت ولدت الديانات السماوية، وشكلت مثلث القداسة العالمي، وبدلاً من أن يتقوى إنسان هذا الشرق بها، حولها إلى قوى ضد بعضه، وانفصل سواده الذي جعل الله في الأعلى، وهو انحدر إلى الحضيض، ولم تدرك كثرته أنه يسكنها، ويجب أن يكون الإنسان بيت الله الأول، الذي منه انسابت، وعلى شاكلته المعابد والكنس والكنائس والمساجد، وبدلاً من أن ندرك أن كل الأديان وجدت لتهذيب الإنسان ورجال الدين، حملوا رايات الأديان من أجل خدمة الإنسان، لا من أجل خدمتهم، فالإنسان هو المعبد الحقيقي، وهو الشيخ والراهب والحاخام، فإذا لم يستوعب إنسان هذا الشرق أهمية وجوده فيه، فعلى الشرق السلام.
ولأن الشرق اقترن بدمشق لأنها فاتنة بطبيعتها، وآبدة في تراكم آثارها، وبها آمن بولس الرسول، ومنها انتشر، نجد أن بها تطاولت مآذنها لتعانق أبراج كنائسها، وتحدث فيما بينها روح الشرق التي من دونها ما كان هناك حديث للعالم برمته، فهذا الشرق روح العالم وجذوته الخالدة وبصيرته الحاضرة، لذلك نجدهم في الغرب وأقصى الشرق يعملون على تدميره بإفقاره أولاً من عنصره المسيحي، ومن ثم ضربه بعد خلق التطرف وتعميمه على الجميع.
كلما فهمت المكونات المشرقية بعضها يظهر التطور، لأن التخلف يعني رفضاً لوجودها، وأهم أدوات التخلف التطرف الديني والإيديولوجي وتعزيز الجهل بعد قتل أو إبطاء السعي إلى المعرفة والعلم، والحقائق تؤكد أن الإنسان الباحث عن العلم والمتعلق فيه يؤمن بسرعة بأن الآخر هو أخوه في الإيمان فيؤمن، وبالتالي يؤمن بأن الله لم يفرق بينه وبين أخيه الإنسان مهما كان دينه أو معتقده، وبالتأمل البسيط يدرك الإنسان أن الله خلقنا على شاكلته، وأرادنا أن نكون كذلك في وحدة معه ومع الإنسانية، إلا أن الإنسان أصر على أن يجعل الإنسان الآخر عدواً له، لذلك أجدني أختم بأن مسؤوليتنا في إرساء السلام كبيرة، وإلا فإن مسؤوليتنا في إنجاز الحروب واستمرارها تكون أكبر، وهذا يعني أننا نصر على الجهل.
كيف بنا ننهي ثقافة التخوين والتكفير، أدوات النزيف الانسيابي إلى الخارج؟ أوَلمْ نصل بعد إلى أن استعمال التهم دليل ضعف تجذير التنوع في مجتمعاتنا ومظهر انفصال ثقافي مريع؟ يأخذ بالإنسان إلى التردد وعدم الالتزام قيمياً، هذا الذي يفرط عقد التكامل الاجتماعي، وينهي مقومات الهوية الوطنية بدلاً من توظيفها، هذه التهم التي تخلصت منها العديد من الدول، وحسمت أمرها، فغابت عنها الخلافات، ودمجت الاختلافات الدينية وحتى العقائدية، واتجهت للدفاع عن قيم المواطنة والوطنية التي تحمي الإنسان، وتدفع به إلى مدنية واقعية وحقيقية، تنظم شؤونه وفق الحقوق والقوانين، لا وفق الانتماءات الدينية والمذهبية والجنسية.
الوجود المسيحي أكثر من مهم في جغرافية الشرق العربي، الذي أطلق عليه سورية التاريخية، التي خسرنا منها الكثير، ولا نريد أن نخسر أكثر، لنعمل أكثر على تعزيز ثقافة التآخي والتسامح فننجح ونستمر.

د. نبيل طعمة