كعبة السياسة

كعبة السياسة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٨ يونيو ٢٠٢١

من يتكل على الأمل فقط ينتهِ من دون أن يحصل على شيء طبيعي، إن المجتمع الساعي من خلال غناه الفكري وإرثه الثقافي عليه أن يكون محوراً جاذباً لكل أشكال العلاقات السياحية والاقتصادية والسياسية، وطبيعي أيضاً أن يكون ضمن نزعات التنافس، وأن يكون عرضة للمخاطر القادمة من الإنسان الآخر، الذي لا يفضل أن يكون غيره أفضل منه.
هذا ما حصل مع دمشق التي كانت كعبة اجتماعية واقتصادية، وأهم من ذلك سياسية، بحكم قرارها السياسي النابع من سيادتها وتحررها من أي ضغط أو إملاء من أي جهة، وشكلت محوراً مهماً مع السعودية ومصر، وخرجت مصر، وأطلق عليها معادلة السين سين.
ومع إيران شكلت محوراً مقاوماً منذ انتصار ثورتها، وضمت إليها كل قوى المقاومة، مع الكوريين الشماليين وجنوب إفريقيا وفنزويلا والروس، وكل من سعى إليها وجدها معيناً حقيقياً، ناهيكم عن العلاقات مع دول الغرب برمته، الذين لم يقدروا أن يجدوا منفذاً للسيطرة عليها، فكانت العلاقات ندية، وهذا لأن في أفكارهم خبئاً ضدها، وغايتهم أن تكون تابعة ودائرة في فلكهم دولة محورية في إقليم الشرق الأوسط، كان يحج إليها كل من يسمع بوجودها.
حدث ما حدث معها، ولعقد من الزمن أثبتت خلالها قوة وصلابة وحكمة وحنكة كسابق عهدها، بل أكثر، ووجد الجميع الصديق قبل العدو، أنها قدرت أن تنفض غبار الحقبة العدوانية، بعد أن تعاملت معها بطرق أذهلت من أراد لها شراً وبشجاعة نادرة، لنجدها من جديد تستعيد تألقها، وتستعد لاستقبال حجيجها، الذين أدركوا بعد أن تجاوزت العديد من المحن والفتن التي أسقطت عليها أو اخترقتها في غفلة منها، نتاج تكالب وتآمر هائل من المحيط القريب والبعيد، وممن رهنوا أنفسهم إلى من أوهموهم بالسلطان والجاه، إنها انتصرت، وبفضل من أبنائها وجيشها وقائدها وأصدقائها، الذين ردوا لها الجميل القديم الجديد المستمر، وهي احترمت وقدرت هذا الوقوف، فعرف القاصي والداني أن السياسة السورية صاحبة مبادئ وقيم وأخلاق، وأن شعبها وإن خرج جزء منه إلى خانة التعارض معها، عرف اليوم أنه أخطأ، وخسر كل ما راهن عليه، فبدأ يبحث عن سبل العودة.
دمشق التي أسست للروحانيات كعباتها وفلسفة وجودها، أسست للسياسة العربية والإسلامية حضورها، وقارئ التاريخ يدرك تماماً ما أعني، والذين عملوا ضدها عرفوا أنها تفاعلت مع الرومانسية الروحية، التي توقف الحج قسرياً لكعباتها «كورونا»، كما تاهت مع الانهيارات الاقتصادية التي حدثت وأنشأت صراعات لا حدود لها، كل هذا أكد أنه لم يوقفها شيء عن استمرار قدراتها السياسية وإدارتها لشؤونها رغم كل الظروف وقساوتها، فإن كانوا دون مستوى عصرها، فهي تدعوهم للتفوق على أنفسهم والقدوم إليها، وتعرف أيضاً أنهم خجلون ووجلون من كل ما فعلوه بحقها، لكنها تغفر بإرادتها، فهي كعبة تؤمن بأن القوة لا تفهم غير القوة، فليس لديها حل آخر، لكنها تشكم قواها المؤمنة فيها بسياستها اللافتة للنظر، ولا تلجأ إليها إلا لحظة ألا يكون هناك حل آخر، ومع كل ذلك تجدها منضبطة سياسياً، وهذا لا يعني أبدأ خضوعها للأوامر الخارجية حسب منطق الاستبداد الغربي، بل يعطيها المعنى الدقيق والعميق الذي يساعدها على تطوير مجتمعها، الذي آمن بوجودها، ورفض الفراغ، وخلط المبادئ وعدم الاستقرار، فوجدناه معالجاً لتحديات العصر المتعددة الجوانب، التي حاولت أن تعصف بمكونات المجتمع السوري، ولم تنجح بمؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأهم من ذلك مؤسسته العسكرية والأمنية، كل هذا عمل عليه من أرادوا هدم هذه الكعبة، لكنهم وصلوا إلى طرق مسدودة، تفتحها الآن دمشق بإرادة منها، قائلة ضمن لعبة المصالح: من يرد الحج فليتصل، ولكن من دون المساس بما ذكرنا، وللأصدقاء مفتوحة، لأن الوفاء لا يقابل إلا بالوفاء.
إنها دمشق أيها السادة، تنتصر على من أرادوا لها شراً، تستمر انتصاراتها، وتتواصل بتحقيق استحقاقاتها، وتنتخب وتجدد انتخاب رئيسها قائدها، وتفتح أبوابها لمن يريد لها الخير.
 د. نبيل طعمة