يتوافر الآن

يتوافر الآن

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٣١ يناير ٢٠٢٣

الأسئلة بين العامة والخاصة منتشرة، هل الوضع جيد؟ المؤشرات تقول: إنه آت، الحاضر ممتلئ بالصبر المؤلم، والبحث جار عن مكملات الاستمرار، المسافة غير محددة، الفجأة والمرض والخطيئة تأخذ من المنتظرين، الفاشلون ينتحبون، الفاسدون منتعشون، المدّعون منتشرون، المنافقون يتاجرون في كل شيء، ضئيل من يقوم بواجبه على أكمل وجه، والأكثرية إن عملت فإنها لا تجيد أسس العمل، "لأنها تحتاج إلى تعميق المهارات" والإخلاص لتسريع الوصول إلى الخلاص.

 في المشهد الأغلبية تعمل بالغش والخداع والمكر، والغاية الحصول على أكبر قدر من المكاسب المادية واللا مادية، برأيهم إن الانتهاز شطارة، والتمرّس فيه مهارة.

 أسَّس الأمويون الدولة السياسية تحت سقف الإسلام، الذي هُذّب في دمشق الشام، فأوجدوا الولاة والخزنة والسفراء والقادة، وراقبوا من بعيد وعن قرب المنشغلين بجمع المال والمعتدين على أقوات الناس، وبعد حين كانوا يحضرونهم، يعرونهم، ثم يدفعون بهم للسير على مساحة من الجمر في حفرة كبيرة، دون القدرة على الخروج منها إلى أن يعترفوا بمكان إخفائهم للجرار الممتلئة بالذهب، وما جنوه من مال وعقار، وعندما يعترفون يدعون لهم القليل، ويتركونهم. واستمر الحال كذلك مع العباسيين بعد انتقال الولاية إليهم، ومن ثم إلى العثمانيين الذين كانوا بعد أن يحصلوا على كل شيء منهم يأخذونهم ويربطونهم بالأثقال، ثم يرمون بهم في البوسفور على البحر الأسود، كي لا يظهروا من جديد على السطح.

متوافر الآن كل شيء، وكل ما يخطر على البال، وما لا يخطر، الإشارة إلى الخطأ تحت سلطة النظام حقٌّ وحاجة وواجب وضرورة، والنتائج محسومة لمصلحة الانضباط الذي يجب أن يسيطر على أي انفلات، ودقيق أن نتحدث عن أن الأزمات والحروب، تكون نتائج لتراكمات منها الظاهر وأكثرها خفي، لأنها تحدث التفاجؤ والاضطراب عندما يكون غافلاً عنها، كما يحدث مع البطل الذي يؤخذ على حين غرة، حيث تجري استباحته لحين استعادته لقدراته وطاقاته، فوجود الشر في المكان الذي ينتشر فيه الخير يعني الدعوة منه لاستئصاله بدلاً من إصلاحه، فالذي يتلاعب بالصدق والحب، ويتقن الكذب والنفاق، ويلتحق بأقدام الطامعين والغزاة، لا بدَّ أن يخضع للعقاب الطبيعي أو الاصطناعي.

 نحن لا نعالج الماضي المثير بما فيه، ولا ننحصر ضمن مجرياته، بل نعالجه بالعيش في الحاضر، ويكون ذلك بالتدقيق فيه، فلا يمكن التقدم إلى الأمام بالجلوس وتأمل الأطلال أو استحضارها من دون مراجعة أو تدقيق أو حساب.

 متوافر الآن كل أنواع الحروب التي تؤدي إلى الفقر والدمار والموت، يحدث هذا من أجل الأوطان، أم من أجل الرفاق والأصدقاء؟ أم من أجل الأفكار الخبيثة أو الخلاقة؟ هل يمكن للإنسان أن يقاتل بغير أدوات القتل؟ أم إن أي صراع يؤدي إلى القتل بشكل أو بآخر من مبدأ من لم يمت بالسيف مات بغيرة؟

 كل شيء متوافر إلا الإنسانية، والخشية من أن نخطئ بحق من نحب؛ أنثى، رمز، وطن، للعلم إن الخشية هي أعلى مراتب الحب، لذلك نعمم الخوف والحذر، وبينهما نجد سيطرة قاف قابيل أو قايين المعقدة والمنتشرة والمتوافرة حيث منها تتابعون؟ قوة.. قتل.. قهر.. قمع.. قبر.. قسوة.. قربان.. قماءة.. قوادة.. قمار.. قساوة.. قردة.. قصف.. قذيفة.. قنبلة، بينما هابيل أو هايين فيمثل الهناء والهيام والهرم والهلال وهللويا وهامد وهبوط وهدوء وهواء وهروب...، قتل قابيل هابيل بإرادة تخلصه من الضعف الذي سيتبعه إن سار معه، ومن أجل خلافة السيطرة بعيداً عما نسج عن قربان وشهوة زوجة أخيه أخته التوءم. دققوا معي، إن قتل كلمة عالمية في الإنكليزية "Killing" والكفن "Coffin" والقبر "Grave" وفي الألمانية "Grab" واساسها في العربية الغراب الذي علم قايين دفن رفيقه وكذلك بداية وبناء "Beginning" و "Building" هذا يعني أن اللغة التاريخية مهم استيعاب فهمها بين القاف والكاف والباء.

اللغة هي أساس تواصل العالم وحجرها الرئيس الذي أنجز الحضارات التي نعود إلى فهمها من خلال تفكيك لغاتها واستثمار المعلومات القادمة منها، لذلك نراها اليوم مفقودة، والسبب حضور الاضطراب العالمي على سطح القارات الخمس، فهنا نجد اشتعال النيران، وهناك نجد الجمر تحت الرماد، ميزانيات الدفاع ترتفع وتتضاعف عند الجميع وبشكل مذهل، بدلاً من الاتجاه لتطوير الفكر الإنساني الذي ترتقي به حياة الشعوب التي غدت تعاني الفارق بين الدخل والأجور والبحث عن الغذاء والماء والهواء والوقود.

 متوافر كل شيء إلا الحياة الكريمة الضرورية لاستمرار أخلاق الشعوب، فهل من نهاية لهذا كله؟ وهل سيُكتب تاريخ جديد بعد كل هذا النفاق العالمي؟ أي هل سنشهد عالماً جديداً وفكراً نخرج به من الماضي بكل ما فيه إلى مفهوم أسباب الحياة؟.

د. نبيل طعمة