اللجوء والهجرة

اللجوء والهجرة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٧ مارس ٢٠٢٣

التطورات المتلاحقة على الساحات الدولية ترينا مخلفات مؤلمة نتاج تطور الاضطراب العالمي السائد منذ عقد ونيف من الزمن، أو بالأحرى منذ لحظة دخولنا الألفية الثالثة، حيث تصاعدت قضايا اللجوء والهجرة، وشهدت تسارعاً مرعباً من عالمي الجنوب والشرق، فاق التصورات على  الرغم من مخاطره الجمّة وأساليبه المرعبة.

 وإذا عدنا إلى التاريخ فسنجد أن الهجرات كانت قائمة منذ عهد الإمبراطوريات التي استعمرت بعضها، بدءاً من الرومان والفرس مروراً بالعرب والعثمانيين، وصولاً إلى الفرنسيين والبرتغاليين والهولنديين والإسبان والبريطانيين الذين استعمروا أكثر من ثلث العالم، ولم يُستعمروا، هذه التي ولّدت تجارة الرق والعبيد واستغلالهم لبناء عالم الشمال، الذي أسهم ببنائه أبناء عالم الجنوب بشكل فعال، وشُكلت منهم فرق عسكرية استُخدمت في استعمار بلدانهم والسطو على مقدراتها، المهم أن الإغراء صار كبيراً نتاج جهد عمال الجنوب الذين رصفوا الطرقات، وزرعوا الأشجار والحقول، وحفروا أنفاق الميترو، ومدوا الأسلاك الحديدية، ونصبوا أعمدة الطاقة، وأشادوا الأبنية والمصانع، جمّلوا الأنهار، وساهمت عقولهم في تحول المنهوب من بلادهم في بناء حضارة ما يسمى "عالم الشمال" الذي وصل إلى قمة الإبهار.

هذا الإبهار الذي تناقلته العمالة الوافدة قسراً، لتبدأ الهجرات إلى دول الأحلام، ورغم أن التطور العلمي اكتشف جيناً لدى الفئران والطيور والأسماك وبعض من الحيوان، أطلق عليه جين الهجرة "سوبر"، الذي اكتشفه علماء سويسريون، واعتبروه الجين المتفوق، الذي يدفع بالحيوانات إلى الأنانية، ويتسبب في انتقالها إلى أماكن مختلفة غير موطنها الرئيس، إلا أنني أجده في الإنسان يخضع لظروف استثنائية، أهمها الاقتصادية، وهذا ما يلتقي مع حالة اللجوء التي أوجدها عالم الشمال، وبشكل خاص الغربي منه؛ أي أوروبا وأمريكا، وأفردت له تصنيفات مثل لجوء الجوع والفقر – واللجوء السياسي – ولجوء الاضطهاد الديني – واللجوء الجنسي "الشذوذ"- واللجوء من الحروب والإرهاب... إلخ.

كان هذا قد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، التي فرزت العالم إلى معسكرين؛ شرقي الاتحاد السوفييتي الشيوعي، وغربي العالم الرأسمالي الديمقراطي، فزاد الغرب إبهاره بهذه التسمية، وزاد عليه بمنظمة حماية حقوق الإنسان، من إنسان مجتمعه في عالم الجنوب، لا من عوالمهم في عالم الشمال.

 الناس عموماً لا يغادرون أوطانهم ومجتمعاتهم ومساقط رؤوسهم، ولا يفارقون أماكن أحلامهم وذكرياتهم وحنينهم بسهولة، ولكن الذي يرغمهم على المغادرة هي الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يتلاعب بأصولها عالم الشمال، والذي يعمل على استلاب طاقاتها الإبداعية، ويعيق مسارات تقدمها بشتى السبل، عاملاً بشكل دائم ضمن دوائره على إبقاء التخلف والتبعية والجهل والمرض، ويتحكم بنسبتها، هذه الظروف التي تدفع بأبناء آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى الهجرة واللجوء، والذي حدث في العقد الثاني في منطقة الشرق الأوسط تحت مسمى الربيع الدموي، من أفغانستان إلى شمال إفريقيا، دفع بالهجرة واللجوء إلى أعلى درجة، وكم كانت حجوم المآسي هائلة، وها هو يحدث في الداخل الأوروبي عبر اللجوء الأوكراني إليه.

الصيغة التي يطالب بها الغرب اليوم بأن يقوم عالم الجنوب بمنع الهجرة إليه، متناسياً أن أسلافه هم من بدؤوا بعبور البحار، واختطفوا أبناء القارة الإفريقية والآسيوية وصناعاتها وموادها الأولية، وتدخلوا في سياساتها، فأنشؤوا الحروب، ورموا بالفتن، وفرّقوا الشعوب بالطوائف والمذاهب والتناحر الديني والأيديولوجي والعقوبات بكل أشكالها، ويتشدقون بالديمقراطية، وأنهم حماة حقوق الإنسان، ويطالبون الآن بوقف الهجرة ومنع اللجوء، ينشئون الجدران العازلة، وينشرون الكاميرات، يرمون المهاجرين واللاجئين في البحار.

 المشاهد أكثر من صادمة وقاسية، والهجرة لا ننكر أنها مشكلة كبيرة، غدت الآن وتتفاقم بعد الذي تحدثت، وأوضحت عن أسبابها التي تروم العالم سبل حلها، والأمر بسيط وليس معقداً، إنما يحتاج إلى قرار وإجراء وجرأة، وقدمت حلاً في عام 2017، عندما شاركت بمؤتمر الجمعية العمومية لبرلمانات حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي انعقد في روما، موفداً من مجلس الشعب العربي السوري، وكان عنوان المؤتمر قضايا الهجرة واللجوء من الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط إلى الشمالية؛ أي إلى أوروبا، وانتظرت حتى أنهت الوفود مداخلاتها، إلى أن وصلت لأقول لهم: "إن المشكلة واضحة جداً وسهلة، وتكمن في توافر الإبهار الضوئي والتنظيمي على ضفاف عالم الشمال، التي تشكل الجذب، ويتشابه بحوم الفراش حول الضوء، وعلى الضفاف الجنوبية باهتة ومظلمة، أضيئوا عالم الجنوب، وأعطوه مما تأخذونه، أحدثوا الإنارة فيه، فتنتهي المشكلة".

ساد الصمت حينها، وبعده تحدثت معي رئيسة المؤتمر، بأن هذا الحديث هو الأول الذي يستمعون إليه بهذا المنطق، حدث انفلات لبرهة في المؤتمر، وعاد ممثلو الشواطئ الجنوبية لتأييد ما تحدثت به، وقدمت مذكرة جماعية بهذا الشأن، ولكن فكرهم المستمد من عولمتهم الاستعمارية أقوى من أي فكرة.

 د. نبيل طعمة