المُهرّج متوَّجاً: نحو الكارثة بعيون مفتوحة

المُهرّج متوَّجاً: نحو الكارثة بعيون مفتوحة

أخبار عربية ودولية

الخميس، ٢٥ يوليو ٢٠١٩

فقد مجلس العموم البريطاني، الليلة الماضية، آخر فرصة له لإعاقة صعود بوريس جونسون إلى السلطة بأصوات أقلّ من 100 ألف بريطاني من منسوبي حزب «المحافظين»، وذلك بعدما فشل نوّاب الحزبين الكبيرين من معارضي «بريكست» في التوصّل إلى اتفاق لطرح الثقة بحكومته فور تكليفها، واستنكاف الملكة إليزابيث الثانية عن مطالبة رئيس حزب «المحافظين» الجديد بكسب ثقة ممثلي الشعب على الأقلّ، ليدخل البرلمان على الأثر في غيبوبته الصيفية اعتباراً من اليوم لغاية بداية أيلول/ سبتمبر المقبل، وليُتوَّج المهرّج ــــ كما اشتهر شعبياً ــــ رئيساً للوزراء. جونسون سيكون ربما، وفق نائب اسكتلندي في مجلس العموم، «آخر رئيس وزراء للمملكة المتحدة، وأول رئيس وزراء لإنكلترا»، في إشارة إلى بعض جوانب الكارثة المحدقة بالبلاد، والتي ليس أقلّها انتهاء مهلة الاتحاد الأوروبي حول «بريكست» خلال 99 يوماً، من دون وجود بوادر للتوصّل إلى اتفاق.
كلّفت ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية، رئيس حزب «المحافظين» الجديد، بوريس جونسون، بتأليف حكومة بريطانية جديدة، بعدما تقدّمت إليها تيريزا ماي باستقالة بروتوكولية. الرئيسة المغادرة لم تفوّت، في آخر ظهور لها أمام البرلمان وقبل توجهها إلى قصر بكنغهام، فرصة شنّ هجوم شديد على زعيم المعارضة اليساري، جيريمي كوربن، الذي دعته إلى الاقتداء بها والاستقالة من منصبه، لتنسحب إثر ذلك غير مأسوف عليها من أحد تقريباً، إلى مقرّ إقامتها في دائرتها الانتخابية (ماديانهيد شمال غرب لندن). في تلك الأثناء، كان جونسون قد شرع بالفعل في تأليف حكومته، حتى قبل مثوله أمام الملكة مساء أمس وقبوله التكليف الملكيّ. 
وعلى رغم انتشائه الظاهر بتحقيق حلم شخصي راوده طويلاً، وخطابه الحماسي أمام بوابة مقر رئاسة الوزراء حيث نثر أحلاماً ووعوداً وردية، فإن جونسون رزح معظم نهار أمس تحت كابوس أن يتحرّك مجلس العموم في يومه الأخير من دورة انعقاده العادية الحالية ــــ قبل الإجازة الصيفية التي تنتهي نظرياً في الثاني من أيلول/ سبتمبر المقبل ــــ، ويصوّت على طرح الثقة بجونسون فور تكليفه. لكن الشكوك المزمنة المتبادلة بين نواب الحزبين الكبيرين: «المحافظين» الحاكم (يمين الوسط) و«العمال» (يسار الوسط)، من معارضي مشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهلع اليمين من إمكانية تولي جيريمي كوربن المنصب التنفيذي الأرفع في البلاد، كما انعدام ثقة البرلمان بنفسه لتولي القيادة، تسبّبت جميعها في تفويت فرصة تاريخية أخيرة لوقف التدحرج البريطاني المحتّم نحو كارثة سياسية واقتصادية، وربما عسكرية، نتيجة تسلّم جونسون مفاتيح «10 داونينغ ستريت»، المقرّ الرسمي لرئاسة الوزراء. وقد اختارت الملكة العجوز (93 عاماً)، بدورها، الاكتفاء بتنفيذ نصائح مستشاريها، وتكليف جونسون بتأليف الوزارة، على رغم أن شرعية تمثيله لا تتجاوز ربع النقطة المئوية الواحدة، وأن الانقسام الذي يعصف بالبلاد حول مسألة «بريكست» لا يزال متصاعداً، مع أنه كان بإمكانها دستورياً لعب دور المرجعية الوطنية الجامعة، على الأقلّ من خلال اشتراط حصول جونسون على ثقة البرلمان قبل تكليفه، لكنها بحكم العمر المديد والمناخ المحيط بها استنكفت، والتزمت بالإجراءات البروتوكولية المملّة المعتادة.
جونسون، الذي كان وزير خارجية سابقاً وعمدة للعاصمة لندن، شرع في إطلاق الإشارات حول سياسته، فور الإعلان عن اختياره رئيساً لحزب «المحافظين» (الثلاثاء)، من خلال تعيينه دومينيك كامينغز مستشاراً سياسياً له. فالأخير كان قائد الحملة لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلال فترة ما قبل استفتاء «بريكست» (23 حزيران/ يونيو 2016)، وهو يميني معروف بقدرته على تجنب الديبلوماسية في طرح أفكاره المتطرفة، ويصفه كثيرون بـ«لينين المحافظين»، الأمر الذي يشير بوضوح إلى توجه لتصعيد اللهجة تجاه الاتحاد الأوروبي خلال فترة الـ99 يوماً الأخيرة، قبل انتهاء مهلة «بريكست» (31 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل). وعلى رغم شعارات الرئيس الجديد المتكررة حول العمل لتوحيد الحزب (والبلاد)، فإن توترات ظهرت مبكراً بين قيادات «المحافظين» حول تقاسم المناصب، لا سيما مع جيريمي هانت، وزير الخارجية الحالي، الذي يتمسك بمنصبه، رافضاً منصب وزير الدفاع الذي عُرض عليه، وأيضاً فيليب هاموند، وزير الخزانة، الذي استقال لرفضه الخدمة مع جونسون، كما عدة وزراء ثانويين آخرين في الحكومة من الذين أدركوا أن ساعاتهم باتت محدودة في مناصبهم، وفضّلوا الاستقالة على ذلّ الصرف العلني. جاء ذلك في الوقت الذي تأكدت فيه عودة براتي باتيل (التي أقيلت من منصب وزاري سابقاً بسبب فضيحة دعمها لإسرائيل من دون الرجوع إلى الحكومة، علماً بأنها كانت من منظّري تعاون الكيان الصهيوني مع تنظيم القاعدة لإسقاط النظام السوري)، فيما سيتسلّم ساجد جافيد (وزير الداخلية في حكومة ماي، المسلم الجذور، والشديد التطرف يمينياً)، ومات هانوكوك (وزير الصحة المعروف بعدائه الشديد للنظام الصحي الوطني المجاني، الذي يسعى إلى تخصيصه) حقائب جديدة، إضافة إلى وجوه غير معروفة ستعكس، وفق جونسون، «تعدد المواهب في بريطانيا الحديثة».
اختار حزب «المحافظين» الإعلان عن نتائج تصويت قاعدته على منصب رئيس الحزب، والذي يتأهل تلقائياً ليصبح مرشحاً لقبول التكليف بتأليف حكومة جديدة، قبل يوم واحد من انتهاء الدورة البرلمانية الحالية، ليمنح الرئيس العتيد فرصة ضبط إيقاع فريقه من دون مضايقات من البرلمان الذي ظلّ منقسماً طوال الأسابيع الستة الماضية. ولكن خبراء دستوريين يتحدثون عن توجه جونسون إلى الطلب من الملكة الموافقة على تعليق البرلمان، أقلّه لغاية بداية تشرين الثاني/ نوفمبر، على نحو يسمح له بإدارة ملف «بريكست» منفرداً، على أساس أن البلاد تعيش أزمة وطنية تتطلب إجراءات تنفيذية استثنائية، خاصة مع اقتراب نهاية مهلة 31 تشرين الأول/ أكتوبر. ولا شك في أن ذلك سيمنح جونسون حصانة مؤقتة من المساءلة، تقوّي موقفه في مواجهة قادة الاتحاد الأوروبي، سعياً للحصول على تنازلات ولو شكلية بعض الشيء (خصوصاً في شأن نقطة الحدود الخلفية بين الإيرلنديّتَين)، وإلا فركوب موجة العنصرية المتصاعدة، كبطل «بريكست» الذي نفّذ وعده بإنهاء «حكم بروكسل»، سواء باتفاق أو من غير اتفاق، وضمن المهلة الأخيرة. وعلى هذا الأساس، قد يدعو جونسون في الخريف المقبل إلى انتخابات عامة جديدة، مستنداً إلى شعبيته آنذاك لدى جمهور اليمين، إثر تحقيقه وعد «بريكست»، بينما سيغرق غريمه الأساس، جيريمي كوربن، في موجة تقريع واسعة تقودها الصحافة البريطانية، بوصفه فَشِل في وقف «بريكست»، وربما حينها تنفيذ الانشقاق المُتوقع ليمين حزب «العمال»، الموالي لتيار توني بلير، لإضعاف حظوظ كوربن الانتخابية.
ستدفع المملكة الجديدة الأقاليم الساعية للاستقلال إلى تنفيذ استفتاءات في هذا الشأن
 
هذا السيناريو المظلم يعني أن مجموعة من عتاة المتطرفين اليمينيين، يقودهم مهرّج سياسي شعبوي معروف بالكذب والمواقف المحرجة، سيتولون إدارة البلاد في هذه المرحلة المفصلية، من دون أن تكون هناك أي مرجعيات تحكم عملهم. ولن يقتصر الأمر عندها على تمديد سياسة التقشف التي أنهكت القطاع العريض من الطبقة العاملة في البلاد، وربما تخفيض الضرائب للأثرياء وزيادتها على الطبقات الفقيرة فحسب، بل إن موضوع «بريكست» من دون اتفاق قد يتسبّب واقعياً في نشوب أزمات لوجستية وتقنية واقتصادية وقانونية هائلة لناحية تنقل المواطنين والمقيمين، كما تدفق السلع والخدمات والأدوية. وقد يلجأ جونسون ــــ المقرّب أيديولوجياً من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ــــ إلى التشبيك اقتصادياً مع الولايات المتحدة، لتعويض غياب الشركاء الأوروبيين، وهو ما سيتضمن حينها بيع منظومة النظام الصحي البريطاني العام بكاملها لرأس المال الأميركي الخاص، الذي لا يخفي رغبته في الدخول إلى هذا السوق الضخم منذ بعض الوقت. 
المملكة، والحال هذه، ستدفع بالأقاليم الساعية للاستقلال (اسكتلندا، إيرلندا الشمالية، جبل طارق، وربما ويلز أيضاً) عن سلطة لندن، إلى الشروع في إجراءات فعلية لتنفيذ استفتاءات في شأن الانفصال، والبقاء بصورة أو بأخرى في فضاء الاتحاد الاوروبي. وهي استفتاءات يُعتقد على نطاق واسع أنها ستؤدي، في ظلّ المناخات السائدة، إلى تفكك المملكة المتحدة بصيغتها الحالية، وربما انكماش بريطانيا إلى مجرد إنكلترا معزولة. وهو ما عبّر عنه أحد النواب عن اسكتلندا في مجلس العموم، لحظة إعلان فوز جونسون برئاسة الحزب الحاكم، بقوله: «سيكون آخر رئيس وزراء للمملكة المتحدة، وأول رئيس وزراء لإنكلترا».
ملفات ساخنة أخرى سيجدها جونسون المتسرّع على مكتبه بعد استكمال الإجراءات الفنية لتسلّم الحكم، على رأسها ملف العلاقة مع إيران في ضوء الخطف المتبادل للسفن في المياه الدولية، بعد تورط الحكومة البريطانية في تنفيذ أجندات أميركية مبيّتة ضد سوريا وإيران، وهو الأمر الذي يهدّد بانفراط عقد منظومة الملاحة البحرية العالمية برمّتها، ويضع بريطانيا تحت ضغط النقلة التالية في ظلّ افتقادها القدرة العسكرية على الدخول في مواجهات ولو محدودة مع الإيرانيين في مضيق هرمز من دون تدخل الولايات المتحدة. تحدٍّ يضاف إليه ملف العلاقة مع الصين، حيث يحاول الأميركيون إقصاء «هواوي» الصينية عن مشروع إطلاق الجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصالات في بريطانيا، نظراً إلى مخاطر أمنية قد تولّدها تلك المشاركة على العلاقات الاستخبارية الوثيقة بين الأجهزة الأمنية البريطانية والمخابرات المركزية الأميركية. يضاف إلى ذلك ملف المشاركة البريطانية المستمرة في الحرب السعودية على اليمن، والتي تتسبب في إحراج داخلي كبير، ومسألة توقيع اتفاقات تجارية جديدة مع دول العالم حال تمّ الخروج من الاتحاد الأوروبي، بما فيها مع الاتحاد نفسه، كما حسم مسألة جوليان أسانج، مؤسّس «ويكيليكس»، الذي تحتجزه لندن وتدرس تسليمه إلى الولايات المتحدة، في الوقت الذي أطلقت فيه بلاده حملة دولية للترويج لحرية الصحافة. كلها ملفات لا يبدو جونسون تحديداً أفضل من يتولّاها، بالنظر إلى علاقاته الشخصية السيئة مع إيران أثناء توليه الخارجية البريطانية، وتأييده الحاسم لـ«الجهاديين» في سوريا، كما حاجته الماسّة إلى إثبات أهليته أمام ترامب، ولو على حساب العلاقة مع الصين، عملاق الاقتصاد العالمي، فضلاً عن ارتباطه الوثيق بصناعة الأسلحة البريطانية، وكراهيته العنصرية للسياسيين الفرنسيين، وبحكم وجود تسجيلات له يشارك فيها بالترتيب للاعتداء الجسدي على صحافيّ.
حسناً إذن، لقد حقق جونسون حلمه الشخصي بتولي رئاسة الوزراء، ونجح اليمين البريطاني في منع وصول اليسار إلى السلطة، وسيحتفل المتطرفون الإنكليز خلال أسابيع باستقلالهم المتجدد عن بروكسل. لكن كل ذلك يحصل بينما تهوي المملكة وطبقتها العاملة إلى قلب الكارثة، بعيون مفتوحة.