عدوان غزة ـ دمشق: تقييد موقع «الجهاد» ودورها

عدوان غزة ـ دمشق: تقييد موقع «الجهاد» ودورها

أخبار عربية ودولية

الخميس، ١٤ نوفمبر ٢٠١٩

يتجاوز العدوان الإسرائيلي الأخير في غزة ودمشق مجرد كونه عملية اغتيال ومحاولة اغتيال لقياديَّين في حركة «الجهاد الإسلامي»، على أهمية كلٍّ من الشهيد والناجي، بل هو يستهدف موقع الحركة ودورها. هدفٌ يُنبئ التوجه إليه في هذه المرحلة بإدراك قيادة العدو خطورة الدور الذي لعبته وتلعبه «الجهاد» إلى جانب «حماس» وغيرها، وأيضاً بسعيها الحثيث إلى إيجاد شرخ بين فصائل المقاومة وفق تكتيكات سياسية وأمنية ودعائية. اللافت أن اغتيال القيادي بهاء أبو العطا، توازياً مع محاولة اغتيال المسؤول العسكري أكرم العجوري، يتعارض في السياق والمضمون والشكل الصاخب (عمل عسكري مباشر) مع سياسة الاحتواء التي تعتمدها تل أبيب في مواجهة القطاع. وكانت هذه السياسة قد تبلورت نتيجة صمود غزة وفصائل المقاومة، والذي ولّد حرصاً إسرائيلياً على الحؤول دون التدحرج إلى مواجهة واسعة تفرض على المؤسستين السياسية والأمنية المزيد من التحدّيات والاستحقاقات، بالإضافة إلى انسداد أفق أيّ خيار عدواني واسع، وفق ما أظهرته نتائج الجولات الواسعة خلال السنوات السابقة منذ عام 2008. كذلك، تدرك تل أبيب أن أي عملية برية واسعة ستكون مكلفة جداً مع جدوى محدودة، فضلاً عمّا قد يترتب عليها من نتائج وتداعيات تتصل بالانحراف عن أولوية التفرّغ لمواجهة التهديدين الشمالي والشرقي اللذين يُسهب المسؤولون والخبراء والمعلقون في شرح مخاطرهما المتصاعدة.
 
ما تقدّم يكشف أن قيادة العدو درست خياراتها جيداً، وبادرت إلى هذه الخطوة من موقع التقدير المتأنّي، وفي ضوء نوعين من المحدّدات: الأول يتصل بضرورة هذا الفعل من الناحيتين الأمنية والاستراتيجية، والثاني بالقيود التي تراهن إسرائيل على فعّاليتها لكبح تطور المواجهة نحو سيناريوات تخشاها وتسعى إلى تفاديها. ومن الواضح أن غزة تحوّلت في وعي المؤسسة القيادية، بشقيها السياسي والأمني، إلى تحدٍّ يفرض نفسه على جدول الأعمال الجماهيري والسياسي والأمني، وأيضاً إلى عامل استنزاف لمستوطني «غلاف غزة». إذ لم تنجح تل أبيب طول السنوات الماضية في إسقاط فصائل المقاومة، ولا في منع تطورها أو ردعها أو إجبارها على التكيّف مع واقع القطاع، بل تحول الأخير إلى ندٍّ للعدو يفرض عليه تحدّيات كثمنٍ لسياسة الاحتلال والقمع والتنكيل والحصار.
هذا التحدّي سرعان ما اتّسع نطاقه جرّاء تحول المقاومة، وتحديداً «الجهاد الإسلامي»، إلى مصدر تهديد للعمق، مع هامش مهمّ من المبادرة ثبتت فعّاليته في نجاح المقاومة في إحباط محاولات إسرائيلية لفرض معادلات تردعها، وهو ما كان سيُمهِّد الطريق أمام إملاءات إسرائيلية أكثر خطورة تتصل بأكثر من عنوان وقضية. ومما عزّز خطورة المقاومة، وتحديداً «الجهاد»، أيضاً، في وعي وحسابات المؤسستين السياسية والأمنية، هو تكامل الحركة مع عمقها الإقليمي الذي يشكل مصدر الاحتضان والدعم والأمل الوحيد في ظلّ ما يشهده العالم العربي من تفكّك وتخاذل. إزاء ذلك، وجدت المؤسسة الأمنية، ومعها السياسية، نفسها مدفوعةً إلى محاولة تغيير قواعد الاشتباك، عبر العودة إلى سياسة الاغتيالات مقابل أيّ استهداف صاروخي للمستوطنات الجنوبية فضلاً عن العمق. وفي الإطار المتقدم، وصف المعلق العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أليكس فيشمان، أن سياسة الاغتيالات في غزة بأنها «مخاطرة محسوبة؛ الاغتيال ينبغي أن يُحدث صدمة، ويقود إلى إخراج لاعبين أساسيين من اللعبة، وضرب نشاط الحركة التي هدّدت بالسيطرة على الأجندة الأمنية في القطاع وإحباط أيّ خطوة تقود إلى التهدئة بين إسرائيل وحماس».
 
راهنت إسرائيل على فعّالية ما تراه قيوداً ستُلقي بثقلها على قرار الحركة
 
لكن لماذا اعتُبرت «مخاطرة محسوبة»، وكيف قدّرت إسرائيل أن عدوانها سيؤدي إلى النتائج المشار إليها ولن يتدحرج نحو مواجهة تستهدف العمق؟ من الواضح أن تل أبيب راهنت على فعّالية ما تراه قيوداً ستُلقي بثقلها على قرار «الجهاد». والاعتبار الأول والدائم في حسابات قادة العدو في هذا الإطار هو أنه ليس من مصلحة الفلسطينيين خوض مواجهة مفتوحة في ظلّ ما يعانيه القطاع من حصار وضغط. لكن يبدو أن قادة العدو أغفلوا إدراك المقاومة خطورة الخضوع للمعادلة التي تسعى إسرائيل إلى فرضها. كذلك، لا تخفي إسرائيل رهانها على إحداث شرخ بين فصائل المقاومة، وإبقاء «حماس» خارج المعادلة، بما يردع «الجهاد» عن الرد المؤلم. إلا أن البيان الصادر عن «الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة» في غزة كشف عن إدراك عميق للمخطط الإسرائيلي، محدّداً ثوابت تحاكي العناصر التي استند إليها قرار تل أبيب بالعدوان. إذ أكد البيان إرادة المقاومة الردّ الذي أدى حتى الآن إلى «شلّ الحياة في الكيان، وفتح الملاجئ، والحياة تحت النار». كما أكد أن «الغرفة المشتركة تدير المواجهة العسكرية بالتوافق والتنسيق على أعلى المستويات، وأن للمقاومة تكتيكاتها وخططها المنضبطة في إطار التوافق والتكامل بين الأجنحة العسكرية، سواء في حجم الرد أو جهة تنفيذه أو مستوياته ومداه». وفي ما يتعلق بالقواعد الجديدة التي يسعى العدو إلى فرضها، جزم البيان أن الفصائل لن تسمح للعدو «بالتغول على شعبنا أو إلزام مقاومتنا قواعد اشتباك لا ترضاها، ولن نقبل محاولات الاحتلال العودة إلى سياسة الاغتيالات»، وهو ما تجري عملياً ترجمته بمواصلة قصف العمق بالصواريخ التي وضعت أكثر من نصف فلسطين المحتلة تحت النار.
استعمل العدو ، في سياق سعيه إلى فرض قواعد اشتباك جديدة، الأسلوب الصارخ في عملية الاغتيال، إذ لم يلجأ إلى الاغتيال الأمني أو القتل في ظروف غامضة، أو حتى قصف جوي مع اعتماد هامش إنكار، بل نفّذ قصفاً مباشراً للمنزل أدى إلى استشهاد أبو العطا وزوجته. وهو يريد من ذلك إيصال رسالة مدوية بأنه عازم على الذهاب بعيداً في مواجهة أيّ تحدٍّ أو ردّ. أما التزامن بين اغتيال أبو العطا في غزة ومحاولة اغتيال العجوري في دمشق فيدلّ على أن هدف العدوان ليس التخلص من شخص بعينه كما روّجت تل أبيب، مع كون الشهيد هدفاً قائماً بذاته نتيجة نشاطه الاستثنائي في مواجهة الاحتلال، وإنما القول لـ«الجهاد» إن استهدافها سيطاول قيادتها العليا، ليس في الداخل فقط بل في الخارج، ومن دون أي قيود أو ضوابط، وأيضاً توجيه ضربة إلى الحركة بما تمثله من موقع ودور في جبهة المقاومة، ولخصوصية نهجها وخياراتها في كل مراحلها. بهذا، تكشف إسرائيل، بممارسة عملية، عن إدراكها عمق الترابط بين ساحات المقاومة من غزة إلى دمشق، ومن هناك نحو جنوب لبنان وطهران. وانطلاقاً من ذلك الترابط، يبدو العدوان غزير الدلالة في ما يتعلق بخيارات إسرائيل لمواجهة تصاعد تهديد محور المقاومة.